يعتقد البعض أن حجته في إدانة مجزرة هدم منازل الفلسطينيين في وادي الحمص تكون أقوى عندما يرفقها بالقول إن المنازل المستهدفة تقع في المنطقة «أ»، أي تحت ولاية السلطة الفلسطينية بحسب تقسيمات «أسلو»، وكأن نصوص الاتفاق البائد كانت منذ توقيعه تشكل فيصلاً في فض الخلاف حول صلاحيات كل من الاحتلال والسلطة في إطار هذه التقسيمات.
هذا الخطاب عندما يرد على لسان أوساط متنفذة في السلطة الفلسطينية، فإنه يعبر بوضوح عن «الحنين» إلى السياسات التي أدت إلى توقيع ذلك الاتفاق، وأدخلت الحالة الفلسطينية السياسية والشعبية في نفق مظلم لم تغادره تماماً حتى اليوم.
وعندما يصبح هذا الخطاب هو جوهر الرد الرسمي الفلسطيني على جرائم الهدم وغيرها، فمن الطبيعي أن يكون سقف مواقف أطراف المجتمع الدولي الرئيسية مما يجري هو المطالبة بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في مرحلة المفاوضات العبثية والعودة بالفلسطينيين إلى الدوامة ذاتها.
منذ سنوات طويلة، أدارت الحكومات الإسرائيلية ظهرها لاتفاق أوسلو لأنه قد أدى غرضه بالنسبة لها. وكان هذا الأمر واضحاً في قمة «كامب ديفيد2» صيف العام 2000، وبعد ذلك بأشهر أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ارئيل شارون وفاة الاتفاق وطالب بدفنه، والإبقاء فقط على نتائجه السياسية والأمنية والاقتصادية، من خلال رهن مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة بالسياسات التوسعية الإسرائيلية، وتكريس الرقابة الأمنية على الحالة الفلسطينية من خلال التنسيق الأمني، وربط عجلة النشاط الاقتصادي الفلسطيني بمصالح السوق الإسرائيلية عبر بروتوكول باريس أو غير ذلك شطب من قائمة التعامل الإسرائيلي مع الملف الفلسطيني.
ومنذ توقيع الاتفاق وقيام السلطة الفلسطينية وحتى العام 2001، اعتقدت القيادة الرسمية الفلسطينية أنها تحت رعاية «خط أحمر» أشعلته الإدارة الأميركية في وجه الحكومات الإسرائيلية محذرة من المساس بالسلطة وكيانيتها ومؤسساتها، ليأتي الانقلاب على هذا الوهم على يد شارون وبضوء أخضر من الرئيس الأميركي جورج بوش عندما اقتحم جيش الاحتلال مناطق السلطة عبر ما يسمى عملية «السور الواقي» في العام 2002، ومنذ ذلك الوقت باتت الاقتحامات والاعتقالات وعليات تدمير البنى التحتية سياسة ثابتة في السياسة الإسرائيلية تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وهذا يعني عملياً وعلى الأرض أن واشنطن رفعت يدها علناً عن بذل أي جهد لدفع المساعي السياسية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وتركت تطور الأوضاع رهناً لمحصلة الاختلال الهائل في موازين القوى بين الفلسطينيين والاحتلال.
لذلك، لا يمكن وضع الحديث عن اتفاق أوسلو والاحتكام إليه مع كل جريمة إسرائيلية بحق الفلسطينيين إلا في خانة التمسك بسياسة الرهان على السياسات الفاشلة والاتفاقات المجحفة. ولا نعرف لماذا يعتقد البعض أن «اتفاق أوسلو» و «صفقة ترامب» طريقان متعاكسان؟ فأية قراءة موضوعية لمسار التطورات منذ توقيع الاتفاق
حتى مجيء إدارة ترامب تؤكد بوضوح أن الاتفاق وبعد ربع قرن تقريباً من الدوران حول الذات وضع الحالة الفلسطينية في حالة من الضعف والتردي والانقسام السياسي ساعدت إدارة ترامب على تفريغ ما في جعبته من سياسات عدوانية في وجهنا بكل هذه الوقاحة واللامبالاة.
والاحتلال يصادر الأراضي وينشر الاستيطان ويهدم المنازل لأنه ينفذ سياسته التوسعية ويعمل على بناء دولة «إسرائيل الكبرى» وليس لأنه يعمل بالنكاية باتفاق أوسلو، الذي لم يشر في الأساس إلى الاستيطان بكلمة واحدة لا من باب وقفه ولا حتى تجميده مؤقتاً لحين انتهاء المفاوضات.
وبدأ انقلاب الجانب الإسرائيلي على تقسيمات اتفاق أوسلو في أحد أشكاله مع بناء جدار الفصل العنصري وعزل الكثير من القرى والبلدات والأراضي الفلسطينية عن محيطها في الضفة، ومن بينها المناطق التي يتم فيها هدم المنازل اليوم. لذلك، فإن القيادة الرسمية الفلسطينية - وقبلها الشعب الفلسطيني – تحصد نتائج سياسة التردد ومواصلة الرهان على السياسة الأميركية، عندما أحجمت عن القيام بدورها السياسي والديبلوماسي المطلوب بعد صدور القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (9/7/2004) الذي أدانت فيه قيام دولة الاحتلال ببناء الجدار ودعت إلى تفكيكه وإزالته، وجمدت القيادة الرسمية تنفيذ الخطة الوطنية التي تم وضعها لتثمير قرار المحكمة وتفعيله دولياً.
ما سبق يعرض لإحدى المحطات التي تؤكد أن التمسك غير المبرر سياسياً ووطنياً باتفاق أوسلو والسياسات المؤسسة له ساهمت فعلاً في إرباك الحالة الفلسطينية وإبعادها عن الدور المبادر وأضعفت قدرتها على التأثير بمجرى التطورات التي جاءت في معظمها على حساب حقوق الشعب الفلسطيني وفتحت الباب واسعاً على محاولات تصفية قضيته الوطنية، والتي نشهد اليوم أحد أسوأ فصولها وأشدها خطراً على يد «صفقة ترامب».
ومن نافل القول إن أقصر الطرق وأكثر فعالية للوقوف في وجه جرائم الاحتلال على اختلاف أشكالها يبدأ أولاً بإغلاق ملف اتفاق أوسلو سياسياً وأمنياً واقتصادياً. عملاً بقرارات المؤسسات الوطنية التي أجمعت عبر المجلسين الوطني والمركزي على تصويب العلاقة مع الاحتلال بعيداً عن قيود أوسلو والسياسات التي أوصلت إليه، والانفتاح بدلاً من ذلك على خيار مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل المشروعة المتاحة، وخاصة أن خطوات «صفقة ترامب» والآليات التطبيقية المرافقة تضع القضية الفلسطينية في خطر مباشر ومعلن من قبل مهندسي الصفقة ومن ينخرط في تنفيذها.
وتحتاج مواجهة جرائم الاحتلال إلى إطلاق معركة مفتوحة معه على المستويين الشعبي والسياسي، وهي معركة موحدة على جبهات الاستيطان والتهويد والتطهير العرقي والقتل والاعتقال والسطو على مقدرات الفلسطينيين؛ لذلك من المفترض إطلاق المقاومة الشعبية وحمايتها سياسياً وميدانياً وتعزيز آفاق استمرارها وتطورها باتجاه انتفاضة شاملة تضع المجتمع الدولي أمام واقع مختلف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يجعله يعيد حساباته أمام معادلات جديدة في الصراع الدائر تضع المنطقة أمام تطورات غير محسوبة، وتدفعه بالتالي للتدخل أمام زخم الانتفاضة، والتي من المفترض أنه ينطلق إلى جانبها المسعى السياسي والدبلوماسي عبر تحكيم المجتمع الدولي على قاعدة قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وضمن هذا المسعى وضع جرائم الاحتلال أمام المؤسسات الدولية المختصة وفي المقدمة محكمة الجنايات الدولية للنظر في هذه الجرائم والمحاسبة عليها.
وربما من المهم التذكير أن نجاح المسعى الفلسطيني في ترقية وضع فلسطين في الأمم المتحدة ما كان لينجح ويجد الالتفاف الدولي حوله لولا الإصرار الفلسطيني الجماعي والموحد على خوض هذه المعركة حتى النهاية وعدم الالتفات إلى التهديدات والضغوط التي مورست من قبل واشنطن وتل أبيب.
بقلم/ محمد السهلي