إن أكثر ما يستاء منه الفلسطينيون هو صناعة الطغاة والسحرة؛ لأن الساحة مليئة بالفراعين وبطانات السوء، وقد أثقلت راحتنا وأصابتنا بالدوار رائحة البخور المحوجة بكثرة النفاق والدجل، وصرنا نتطلع لاستنشاق هواء عليل، كذلك الذي كان يصلنا من الشاطئ فيما نحن نتكئ باسترخاء على مصطبة المخيم.
الصديق العزيز محمد دحلان..
لا شكَّ بأن شعبنا يُقدر لك اهتمامك بأحواله المعيشية والإنسانية، وسعيك الدؤوب منذ بدأت بمشاريع زواج الشباب، وتفقد المرضى والأسر الفقيرة، ولذلك فإن مواقفك تلك لا يغيب عنها الثناء، كما أن تعهدك للطلاب الخريجين بتخليص شهاداتهم ليتمكنوا من العمل وفرص السفر هي لفتات أخوية رائعة، يُقدرها الجميع من أبناء وطننا الحبيب، وحرصك على أن يكون لك وإخوانك في التيار الإصلاحي "سهم خير" في تكريم أوائل الطلبة، وتمنياتك لهم ووعدك الأبوي بالوقوف إلى جانبهم، كلها "فضائل" تُحسب في باب المعروف لك، وتزيد من مكانتك قدراً واحتراماً.
إن كلماتك بما تحمله من نبضات قلب ابن المخيم وأوجاعه، والتي اعتدنا سماعها منك بلغة "عفو الخاطر" في كل إطلالة لك في المؤتمرات والمهرجانات والاحتفالات الوطنية، هي محط أنظار الناس وتقديرهم إليك، وخاصة جيل الشباب، وهو ما يُقربك إلى قلوبهم، ويجعل منك نموذجاً يعطيهم اشراقة أمل، ويرفع من منسوب طموحاتهم، حيث إن الكثير من شباب هذا الجيل هم من استوطن المخيم حياتهم، وتجري قيمه في عروق دمائهم، فهم عندما يسمعون عزف لغته في براءة كلماتك يزيد من شعبيتك ومن درجة تعلقهم بك، وهذا ما نلاحظه في أحاديث من تناولوا ذكرك في المجالس العامة أو في ديوانيات التناجي الخاصة.
إن أجمل ما فيك أبا فادي هو تعبيراتك وأفعالك التي يفهمها المحرومون في حواري وأزقة المخيم، ومثلهم من الموجوعين داخل أحزمة البؤس في قطاعنا الحبيب.. هؤلاء عندما يسمعونك تتحدث بمفردات المخيم وبتلك الرومانسية العالية عن مشاعرك تجاههم، وعن ثقافة المخيم التي شكَّلت لبِنات منظوماتنا العلمية والنضالية، وعن الأم الفلسطينية التي كابدت الفقر والحرمان والمسغبة لتنهض بجيل الثورة والثوَّار، وتصحح لمن فقدوا البوصلة معالم الدرب والمسار. إن مثل هذا الكلام يمثل لهم أكثر من رافعة تأخذ بأيديهم، وهم يبادلونه بأكثر من عربون محبة واحترام تجاهك.
كلُّ هذا جميل صديقي العزيز، ولكن هذه اللفتات الكريمة من العطاءات الإنسانية يُفسد طهارتها وقيمتها ونبل معانيها - أحياناً – المبالغات، التي تُحوِّل المناسبة إلى عرس حزبي، ومنصَّة للتسحيج والتباهي بهذا الفصيل أو ذاك، وهو ما ابتلينا به في سلوكيات الكثير من تنظيماتنا، وتصدعت مع طبوله العالية جدران علاقاتنا الوطنية.
نحن نعيش مأساة إنسانية وكارثة وطنية، وكل ما في المشهد من زعامات هي - مع الأسف - خيبات أمل، وينطبق عليها المثل الفلسطيني القائل: وأخيراً "طِلع نقبك على شونه"؛ أي على أبو فشوش، حيث غدت تلك الأنشطة والفعاليات الوطنية إلى صالونات سياسية، هدفها التلميع وكيل الإطراء والمديح، فيما الوطن موجوع وجراحه تنزف بقوة!!
إن هذه الاحتفالات التي تقيمها الفصائل والتنظيمات تحولت إلى مصانع لإنتاج الأصنام، وكأننا لا يكفينا ما بين أيدينا من تماثيل "هبل" و"مناة" و"اللات والعزى" من أصنام هذا الزمان، والتي قتلتنا خيبةً مواقفها التي تغرد - بتبعية وهزالة - خارج كل سياقاتنا الوطنية.
صديقي العزيز أبا فادي..
يبدو أن هناك متعهدي أفراح في كل التنظيمات، تقتضي مصالحهم التغني لأصحاب الأعراس ورفعهم مقاماً عليَّاً!!
شاهدت قبل أيام على شاشة الكوفية ذلك الاحتفال بأوائل طلبة الثانوية العامة، والذي أقامته كتل فتح البرلمانية في المجلس التشريعي (جناح دحلان)، وهم طلاب من كل أبناء الشعب الفلسطيني من حيث الهوية والانتماء، وهم ما زالوا في مقتبل العمر ويأمل الكثيرون بتأطيرهم وطنياً، بحيث تسمو أنفسهم بحب الوطن ورجالاته المخلصين من المناضلين الشرفاء، وأن تظل فلسطين بِعَلَمها ونشيدها هي ما يشحذ طاقات العطاء والتضحية لديهم، وليس أعلام الفصائل وأناشيدها القبلية، وأن تؤسس حركية الوعي لديهم على رؤية وطنية فلسطينية جامعة، ترسم لهم معالم الطريق ووجهات التضحية والفداء التي تنتظرهم.
صديقي العزيز محمد دحلان ..
لدينا ما يكفي من أصنام جاهلية الفصائل وأشكال الطغاة، الذين يطربهم نفاق الملأ من حولهم، ولكنك - وكما عرفتك – تغرد بروح ابن المخيم الذي يسكنك، وتعبر من خلاله عن مواقفك الوطنية التي تنادي بها باتجاه وحدة شعبنا، حيث تحاول أن تكون غير ذلك المشهد الذي امتهنه سدنة المعابد والأصنام. ولكن بعض من حولك يحرفون بوصلة الخير بالإفراط في التطبيل والتزمير لك وللتيار الإصلاحي، بطريقة تكرر المشهد الممجوج في المبالغة والتهويل، والذي أثقلت به كاهل شعبنا فصائلنا الوطنية والدينية.
صديقي العزيز.. دع الأفعال والمواقف هي من تتحدث عنك، ولا تسمح لجوقة المدَّاحين بالاستمرار في تلويث أدبياتنا الوطنية وتعكير لغة النضال الفلسطيني.. نريدك في مشهدنا الفلسطيني برمزية "ظريف الطول" الذي دخل كل أفراحنا وليالينا، من خلال بصماته الإنسانية والعاطفية، وإن كنَّا لا نعرف الكثير عن تفاصيل سرديته التاريخية.
إن الوحدة التي تنادي بها - صديقي العزيز - لن تخدمها مبالغات المديح لشخص أو فصيل جديد، فهذا لن يصنع منَا شعباً قوي البأس جبارٌ عنيد، بل سيكرِّس ثقافة القبيلة وتعدد المضارب والثكنات.
يكفينا أصناماً..
إن محمد دحلان الذي نريد رؤيته في المشهد الفلسطيني هو الذي يجتهد في العطاء لشعبه المنكوب، وهو الذي يسهر من أجل مستقبل أفضل لأبناء وطنه، وهو الذي يتفقد حاجات الناس ويعس بالليل ليبكي على أوجاع فقرائهم وأطفالهم الجياع، فلا يقر له رقاد حتى يأتي لهم بالطعام والشراب وسند الحال.
برغم بهجة الحضور في احتفالية أوائل طلبة الثانوية العامة في ساحة الشاليهات على شاطئ بحر غزة، إلا أن حجم المديح الشخصي والحزبي لا يطرب آذان الموجوعين؛ باعتبار أن الاحتفالية بالشكل الذي جرت عليه تشبه منصَّات الآخرين المعتمدة والمألوفة في صناعة الفراعين!!
صديقي العزيز..
لقد عرفتك لأكثر من عقد ونصف العقد من السنين، وأعرف أنك "ابن مخيم" أصيل، كما أعرف أنك تنشد أن يجتمع الكل الفلسطيني حول الوطن، وأن تتوحد قواه وفق شراكة تتجاوز حكم الفرد والتنظيم، وأن تكون من بين من يبنون رأس جسر لردم هوَّة الخلافات بين فتح وحماس، وأن هذا التيار الإصلاحي وتقاربه مع حركة حماس والجهاد الإسلامي ما هو الا وثيقة لإثبات أن بإمكاننا أن نجتمع كقوى وطنية ودينية تحت سقف رؤية مشتركة، وأن نُشيِّد نظاماً سياسياً قائماً على التفاهمات والتوافقات الوطنية، وأن نعيد لمنظمة التحرير مكانة التمثيل للجميع بما في ذلك حركتي حماس والجهاد الاسلامي، وأعلم أنك تتطلع كأحد أبناء هذا الشعب ومن خلال الانتخابات إلى ما يمنحك به الشارع الفلسطيني من موقع المكانة والتمثيل لخدمته.
صديقي العزيز أبو فادي..
نريدك أن تقدم نموذجاً مغايراً للزعامة، لا نريد غناءً وتراتيل إلا للوطن، وليس لهذا الفصيل أو ذاك التنظيم.. بهذا نريدك، حيث إن الشعب يعلم علم اليقين من الذي دفع ثمن الأُضحية، وقدَّم بسخاء هدايا العيد.
نريدك قائداً عبر المآثر والأثر، وهذا لك فيه الكثير، أما أغاني المدَّاحين فنريد كشعب أن نحثو في وجوه أصحابها التراب.
صدقي العزيز أبا فادي..
للتو أنهيت قراءة كتاب (محمد دحلان: مسيرة قائد) للأستاذ إبرهيم خليفة، أحد شباب الشبيبة الفتحاوية، وقد أعجبني الفصل الذي تناول بداية علاقتك مع المناضل أبو علي شاهين وتأسيس الشبيبة الفتحاوية، ثم مواقفك النضالية التي أخذتك إلى السجون الإسرائيلية والغربة بعيداً عن الوطن، وهي سنوات تحمل صفحاتها الكثير من المواقف النضالية التي تعتز بها وتفخر، ولعل هذه المسيرة التي أخذتك قسوة أيامها بين الطرد والاعتقال والترحيل بعيداً إلى مصر والعراق وتونس.. ورغم ذلك، حافظت أن تبقى عينك على الوطن، وأن تظل خيوط التواصل والنضال إلى جانب ياسر عرفات (رحمه الله) قائمة، حتى عدتما معاً إلى أرض الوطن.
إن دحلان الذي عرفته عام 2003، وقرأت عنه المزيد في صفحات هذا الكتاب قبل أيام، ليس هو دحلان الذي ينتظر زفة الشعب المكلوم بقادته وزعاماته.
نريدك دحلان "أبو الغلابة"، الذي تُطاب قيادته عندما يحين وقت الاختيار.
نريدك دحلان المنفتح على الجميع، والذي نجح في وأد خلافات الماضي مع حركة حماس، وبنى أكثر من جسر للتعاون والتنسيق معها.
نريدك دحلان الذي يصل إليه الجائع والبائس الفقير فلا يرده، بل يوصي بمنحه ما يسد الرمق ويبل الصدى.
نريدك دحلان الذي لا يُتبع صدقاته بالمن والأذى، بل يعطى بما أفاض الله عليه من نعمائه.
نريدك دحلان الذي تشكلت منطلقات وعيه مع أكشاك الصفيح وبيوت الكرميد في المخيم، وملحمة أمة التي ربته برغم شطف العيش وقلة الحيلة وبؤس الحال.
نريدك إنساناً كأبي عمار الذي كان أباً للجميع، فلم يقطع عن أحد مالاً كان بين يديه، ولم يكشف ستر فلسطيني ألجأته الحاجة لأن يمد يده يطلب عيشاً أو علاجاً.
نريدك دحلان ابن الثورة وبأناقة الثائر، وصاحب قوة الموقف والقرار.
نريدك دحلان الذي يشاركنا - برغم بعده عنا – مشاعر بؤسنا، فهو كمن يعيش بيننا ويقاسمنا لقمة العيش والمركب الصعب.
باختصار أبا فادي.. نريدك إنساناً غير، حيث إن هناك الكثير من الفراعنة!! بعضهم تحوطه جوقة من أصحاب الحناجر وحملة المباخر، وآخرون بانتظار الفرصة!!
نريدك صورة تنزف دموعاً مع أوجاع الغلابة، وتبكي بحرقة على أحوالهم.. هذا مشهد دحلان الذي نتطلع إليه ليأخذ دوره في سفينة الخلاص لشعبه.
شكراً للفتتك الكريمة احتفاءً بالأوائل وتكريمهم، وتطمينهم بوعدك أنك ستكون ظهيراً لهم، فهذا عملٌ يفوق الوعي به وتقديره كل الألحان والزغاريد.