حدث كل شيء بغفلة من الزمن. كان يحرث قطعة أرض يملكها، أحس بالعطش الشديد، فتح باب البئر لينشل سطل ماء، بعدها لا يعرف ما حدث، لا يذكر حتى كيف تعلق بهذا الجذع النابت داخل البئر.
يبدو انه سقط في البئر. كيف سقط؟ كم مضى من الوقت وهو متعلق بجذع نابت داخل البئر؟ كل ما يعرفه انه متمسك بقوة بجذع نابت داخل البئر مما اوقف سقوطه المؤكد الى حتفه.
نظر الى أعلى فرأى فتحة السماء الزرقاء عبر فتحة البئر الدائرية. أطلق صرخة استنجاد وعينيه معلقتان بفتحة البئر. هل انتبه أحد لسقوطه؟ جيرانه يواصلون حراثة قطع أراضيهم، لعل أحدهم شاهد ما حدث له. او يسمع صوته مستنجدا إنقاذه. هل يحاول ان يطمئن نفسه؟ لكن لا أحد يقترب من فتحة البئر. صرخ بقوة مرات عديدة، لعل أحدهم يحتاج الى شربة ماء فيأتي ويرى ما هو به من خطر، بقرته غير مربوطة، لا بد ان تلفت انتباههم الى غيابه، عاد يصرخ بكل قوة: أنقذوني انا معلق داخل البئر، سأسقط الى حتفي، هل من يسمعني؟!
لم يدرك آلامه للوهلة الاولى، عندما عرف وضعه بعد ان استعاد وعيه من صدمة السقوط، بدا يشعر بأوجاع ذراعيه ويديه وصدره وساقيه ... هل ضربه شخص ما ودفعه لداخل البئر؟ لا يذكر وجود شخص قربه، كانوا عددا من الفلاحين كل واحد غارق بفلاحة ارضه، كان مرهقا ويشعر بالعطش، يتذكر انه حاول انتشال سطل ماء من البئر. فجأة وجد نفسه يتهاوى، لا يعرف كيف حدث ذلك، حتى لا يعرف كيف استطاع التمسك بهذا الجذع النابت داخل البئر؟ لا يذكر نفسه الا معلقا متمسكا به بكل قوته. ترى هل انتبه أحد لسقوطه؟ عاد يصرخ بكل ما في صوته من قوة. لا بد أن يسمعوه، لا يبعدون كثيرا. كانت الثواني رهيبة وطويلة، طويلة كأنها دهر كامل. يشعر بالألم في حنجرته، والظمأ يشتد وذراعيه تؤلمانه، بل كل جسمه يؤلمه.
واصل الصراخ طلبا للنجدة ويداه تقبضان بقوة على الجذع النافر داخل البئر. يشتد الألم في ذراعيه وقبضتيه، أيقن انه لن يصمد طويلا إذا لم يسارع أحد ما لإنقاذه وأشد ما يرعبه ألا يصمد الجذع أمام ثقل جسده.
صرخ صراخا جنونيا طلبا للنجدة.
هل أصيب الناس بالطرش؟
نظر إلى قطعة السماء المرئية عبر فتحة البئر راجيا ربه أن يرسل من ينقذه، أن يلفت انتباه من هم فوق لغيابه، أو يجعل آذانهم تلتقط صراخه، أو يجعل ما هو به حلما مرعبا يستيقظ منه فورا ممددا على سريره، أو تحت ظلال أشجار الزيتون، أو مغميا عليه فوق أرض صلبة.
خاطب ربه برجاء يصل حد البكاء متوسلا من القدير ان يرسل من ينقذه، فهو مؤمن ويقوم بكل الفرائض ولم يدع نفسه تجره إلى المعاصي، يذكر اسم الله الاف المرات في يومه، لا يفوت عملا صالحا إلا ويقوم به، لدرجة انه تزوج من الجارة الصبية التي توفى الله زوجها فلم يتركها لحظها التعيس، رغم معارضة زوجته وأولاده بحجة أنها أصغر من أحفاده، لكن العمل الصالح لا يوقفه الجيل. هل سيحرمها الله من احتضانه لها، يرملها مرة أخرى ويجعل حياتها مليئة بالحرمان وهو الغفور الرحيم؟
عاد يصرخ لعل الله يرسل من يسمعه وينقذه من أجل تلك الزوجة الجديدة وخلاصها من قسوة الترمل، أو يجعل ما هو به حلما مرعبا، فهو على كل شيء قدير.
الألم لم يعد يحتمل ولكنه يشد قبضتيه بقوة وتصميم حتى لا يهوى إلى موته.
يصرخ بكل ما في صوته من قوة ورجاء لرب العالمين ولمن يمكن أن يسمعه من الموجودين فوق... أو من يرسله رب العالمين ليقوم بواجب إنقاذه.
هل أصيب الناس بالطرش؟
كان اليأس يصارع يقينه بأن الله سد آذان الناس الذين فوق؟ وانه في تجربة صعبة أو هو المسجل له منذ ولدته أمه وحان وقت تنفيذه؟ يا للهول، في رقبته هم إعالة زوجة طرية لا قدرة لها على مصارعة الحياة، قال في نفسه ان الزوجة الأولى لا خوف عليها يضمنها اولادها الكبار. همس: رحمتك يا الله بالزوجة الصبية، أنقذني من أجلها.
فكر: هل يكون القدر بمثل هذه القسوة، بأن يرى الإنسان نهايته ويعيش تفاصيلها المرعبة؟ هل يكون الله الذي يدعو للرحمة وعمل الخير للناس ما جعله يضم الأرملة الصغيرة إلى حمايته بمثل هذه القساوة وغلاظة القلب؟ أليس الموت بدون معرفة ساعة النهاية أكثر رحمة؟ مئات الأسئلة هاجمته في لحظاته الحرجة. كانت ثقته برب العالمين كبيرة، على الأقل إذا لم يشفق عليه أن يشفق على الزوجة الصبية من الترمل مرتين في سنة واحدة.
عاد يصرخ طالبا نجدته بصوت يضعف شيئا فشيئا... ويتوسل للقدير طالبا مساعدته ورحمته. كان واثقا ان المساعدة لن تتعوق . عليه الصمود بالتمسك بالجذع، تماما كما يتمسك بإيمانه الذي لا يتزعزع برب العالمين.
فجأة توهج ضوء هائل أضاء البئر لدرجة أعشت عينيه عن رؤية أي شيء عداه. كان ضوء يبهر الأعين وكأن الشمس بكل وهجها وقوة ضوئها قد دخلت البئر.
شعر بأن يد الله تمسه. فازداد تمسكه الصلب بجذع الشجرة متوقعا نهاية لهذه التجربة التي لم تزعزع إيمانه بالله ورحمته.
عبر الضوء الذي أعشى عينيه انطلق صوت جهور تطرب لسماعه الآذان، ملأ الفضاء وأجواء البئر، كأنه صوت جوقة كاملة متناسقة الأصوات يقول له: اترك الجذع يا بني، لا خوف عليك، نهايتك لم تحل بعد، لن أحرم الأرملة من حنانك!!
كان واثقا انه صوت رباني. لكنه تردد. فكر: ما الضمانة إذا ترك الجذع ألا يسقط الى حتفه؟ لماذا لا يمد له وسيلة للخروج بدل الوعد الذي يرفضه يقينه؟ نظر الى فوق ليتأكد من يقينه، فلم يشاهد الا قطعة السماء الزرقاء عبر فتحة البئر، لكن الصوت عاد يجلجل: "اترك الجذع يا ابني ساعتك لم تأت بعد"، اصابته الحيرة. يقينه يقول له انه إذا ترع الجذع سيهوى الى حتفه. لكن الصوت يداعب ايمانه. هل حقا يد الله ستنقذه؟ يترك الجذع او لا يتركه؟ ينقذه الله او يتركه لمصيره؟ شيء ما تحرك في ذهنه، يزداد تمسكه بالجذر الذي يمنع سقوطه الى حتفه، هل يتركه؟ هل يثق بما يسمع؟ نظر برجاء لفتحة البئر وصرخ بأعلى صوته يائسا: أنقذوني... هل يوجد شخص آخر فوق ؟!
نبيل عودة