***
هل الدّين، وخاصة الإسلام شمولي ؟ أم أيديولوجيا شمولية ؟
ندّعى أنّ الدين الإسلامي شاملٌ، بمعنى أنّه أعطى إجابات لكل ما يحتاجه الانسان، أما الأيديولوجيا فإنها شموليّة تدّعي أنّ لديها جواباً لكل سؤال.
وفي حين قال الدّين إنّ العقل محدود، قالت الأيديولوجيا إنّ العقل سيّد الوعي وغير محدود . كما أنّ الأيديولوجيا حسمت قولها، غالباً، بأنّه لا خالِق، وادّعت أنّها تمتلك الحقيقة النهائية، إلّا أنّ الدّين لم يُجِبْ عن الكثير ممّا يتعلّق بالروح، وما وراءها. والدّين تصالُحي يعترف بالآخر، في الوقت الذي لا تعترف الأيديولوجيا بالآخر، بمعنى أنّ الأيديولوجيا ضديّة ونديّة، أي لا تلتقي أيديولوجيتان ولا تعترف الأولى بالثانية، في حين أنّ جذر الأديان السماوية واحد ولا يُنكر دّينٌ دّيناً، بمعنى أنّ الأديان تقوم على الاختلاف وليس على الصراع، من منطلق أن المصدر واحد وهو الله - سبحانه وتعالى-، فيما تعلّقت الأيديولوجيا بالأسئلة المادية والحياتية وقامتْ على نفي الميتافيزيقيا وما خلف الكون. إضافة إلى أنّ جذر رواية الأيديولوجيا متعدّد، ومُنطلقه الإنسان، عدا عن أنّ الأيديولوجيات تنهض على الصراع وبعضها يقوم على حدّ النفي .
ونرى أنّ الإسلام، مثلاً، مشغول باليهودية والمسيحية بشكل كبير جداً، فيما تُنْكر الأيديولوجيا مجرد قبول مناقشة الأخرى.
***
والدّين فكرٌ فيه مدىً مفتوح، بمعنى أنّ المتديّن حرّ ( باب الإجتهاد مفتوح)، أما الأيديولوجيا فهي دائرة كاملة، والأيديولوجي ليس حرّاً ( لديه إجابات جاهزة) .
***
وفي الدّين لا يوجد سياقٌ محدود وحاسم للتحوّل الاجتماعي، أي أنّ علم الاجتماع في الإسلام هو علم قراءة التحوّل وفهمه، وفي أحسن الأحوال توقّعه، وليس علماً لتحديد مسار التحوّل وحالته، أما في الأيديولوجيا فهناك سياق حتمي (المادية التاريخية مثلاً).
عدا عن أنّ وعي البشر وسلوكهم ليس كيمياء كما تقاربه الأيديولوجيا، لأن علم الكيمياء هو علم علاقة العناصر المحددة، التي تقود إلى نتائج محددة ومعروفة سلفاً.
وثمة فروقٌ أخرى بين الدّين والأيديولوجيا كالفرق بين التحوّل والتغيُّر، أو الفرق بين الحقّ والحقيقة .
***
إنّ فكرة الدّين أيديولوجيا "أدلجة الدّين" هي عدائية استهدفت الإسلام، ووضعته في مصاف مُخرجات الإنسان، وكان ذلك يتزامن مع بزوغ الأيديولوجيات وتبلورها.
إنّ الدّين غريزة منذ الأزل، وثمة فرق بين الدّين كحاجة نفسية وسلوكية واجتماعية، وبين الدّين كفكر .
والدّين حقيقة تحولت إلى مقدّس . أما معظم الأفكار فهي معتقدات، في ظروف وسياقات مختلفة ومع الزمن، تكتسب قداستها .
والإنسان، هذا الفرد الكائن الاجتماعي، هو منظومة، والمنظومة لا يجوز فصل أجزائها أو تعبيراتها عن بعضها، بمعنى لا يجوز فصل الفكري عن السياسي أو الاجتماعي عن الثقافي أو النفسي عن الاقتصادي وعْياً وممارسة وعلاقات .. الخ، لأنك بهذا تفصل ما لا يُفصل . وبهذا فإنّ الفصل في منظومة الكائن، الكائن السماوي والكائن الأرضي، هو فصل تعسفي . والدّين الذي جاء ليحرّر الأفراد من عبوديتهم لبعضهم البعض، ومنح الحرية التامّة للإنسان في مواجهة ظُلم أخيه، هو الذي حفظ كرامة البشر، وبالذات عندما اعتبر أنّ المُطلق هو كلام الله عزّ وجلّ، وليس كلام القائد أو الزعيم أو الحاكم، وبدليل أنّ أكبر جهاد عند الله هو كلمة حق أمام هذا الظالم، وبدليل أنّ كل بني آدم يؤخذ منه ويُردّ عليه إلاّ النبي المعصوم عليه وعلى آله الصلاة والسلام . والدّين الإسلامي، وخاصة العقيدة والعبادات هي ثابتة، أما كل ما يتعلق ويخص الحياة فهو خاضع للإبداع والاجتهاد، ونرى ذلك من خلال الآيات التي دعت للتفكّر والتفكير (أنظر ما كتبه ابن رشد في تمجيد التفكير عند ردّه على الغزالي في التهافت، ومحاولاته في خلق حالة من الإنسجام بين العقل والنقل) .
ونشير إلى أنّ معظم الأفكار تبدأ، عادة، عقلية ثم تصبح حالة وجدانية، والتديُّن حالة وعي، ولا تديُّن بلا حالة وعي، لأن الوعي جوهر التعبير عن العقل، وكل عمل العقل هو الوعي، والعقل يحتوي المعرفة، ومن الناحية العلمية فهو يعيها، بمعنى أنني إذا وضعت "النقل" على خط مستقيم مع "العقل"، فإنني أحوّل العقل إلى مخزن، وهذا ليس من العقيدة الإسلامية في شيء، لأن العقيدة تقوم على وعي النقل/ المعرفة، وهذا إبداع بحد ذاته. وامتداداً لهذا فبإمكانك الحفر حول نظرية "واجب الوجود" للفارابي، وكتاب "التفكير" لتقي الدين النبهاني .
وثمة خصوصية لكل دّين، فالمسيحية في القرون الوسطى ليست هي الإسلام في أوج فتوحاته ودعوته للنماء والانفتاح والتقدم، مثلما أن المسيحية لا تشبه اليهودية في أي زمن كان .
ولا يجوز وضع "الدّين" كلّه في سلّة واحدة.
وفي العودة إلى الإسلام فإنه أعلى درجات التحرر، لأنّ العبودية كانت مرتبطة بمركزين هما القوة والمال، لكنه حرّر البشر وأسقط قيمة المال وجبروت الإنسان المثيل، ومن هنا بدأت الحرية عندما سقطت مركزيّة الفرد الانسان.
بقلم/ المتوكل طه