العلاقة بين الحفاظ على الإرث الحضاري لشعب ما وصيانة كرامته الوطنية وهويته القوميه علاقة طردية بامتياز.
الإرث الحضاري للشعب هو بصمته التاريخية التي تثبت تطوره، ازدهاره، تقدمة ومشاركته في بناء الحضارة الإنسانية. الحضارة الانسانيه هي مجموع ما قدمته وتقدمة ثقافات الشعوب والأمم لهذه الحضارة… ثقافات الشعوب والأمم هي الأعمدة الأساسية للحضارة البشرية والإرث الحضاري للشعوب هو العمود الفقري لثقافة الشعب والأمة.
الإرث الحضاري هو مزيج متنوع من كتابات وعمران وتاريخ وعادات وتقاليد ومأكل ومشرب وصناعة واختراعات وزراعة وتطوير لمرتكزات الحياة بجوانبها المتعددة.
الحفاظ على هذه الإرث عبر التاريخ ونقلة الى الأجيال القادمة هو مهمة المجتمع بكل مركباته السياسية والاجتماعية والدينية. الارث الحضاري هو أمانة في اعناق الأحياء وليس ملك لهم وهو غير قابل للتصرف.
الفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس قال ان الحفاظ على الارث الحضاري من التزوير الى جانب السهر على تطوير العادات والتقاليد لتتماشى مع العصر الذي يعيش به شعب ما، هو شرط أساسي لتقدم هذا المجتمع … من هذه الفلسفة نستخلص بان المجتمع الذي يعبث بإرثه الحضاري ويجعله عرضة للتزوير والاندثار هو مجتمع بعيد جداً عن الحداثة… وهو مجتمع شحيح العطاء والمشاركة الفعالة في بنية الحضارة الإنسانية … بكلمات أخرى هذا المجمتع هو مجتمع حضارياً متطفل ويعتاش على فضلات الشعوب والثقافات الأخرى.
في زيارة قبل أيام لمدن في جبال الهارتس الألمانية التي تقع في شمال المانيا وتمتد بين مقاطعتين احداها كانت جزء من المانيا الشرقية قبل هدم جدار برلين وتوحيد المانيا، أبهرت بمناظر المحافظة على الارث الحضاري هناك واندهشت من الدقة التي قامت بها الجهات الرسمية لإعادة ترميم ما كان مهدوم من عمران وساحات وكنائس وشوارع. ولفت انتباهي آلالاف من السواح الألمان والأجانب الذين يجوبون شوارع المدن ويتمتعون بالإرث الحضاري لهذه المنطقة ولسكانها ويملأون المطاعم والمقاهي وينعشون حياة المدن الاجتماعية والاقتصادية… تذكرت في هذه اللحظة قرانا ومدننا ألعربيه ومعالمها الأثرية وكل ما تركه لنا اجدادنا من ارث حضاري… تذكرت الإهمال الذي يحيط معظم هذه الأماكن وأكوام القمامة التي تملأ كل زاوية … تذكرت هذه الأماكن وكيف نتركها لتقلبات الطقس وتقلبات مزاج الحكام هناك… تذكرت العبث والتزوير للإرث الحضاري اللذان اصبحا ميزه عابرة للحدود في العالم العربي وتذكرت الإمكانيات، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الهائلة المدفونة بين اشلاء هذا الارث الحضاري… وتذكرت أقوال الفيلسوف الصيني، كونفوشيوس، وأدركت ان سبب تخلفنا كأمة عربية وكمجتمعات شرقية يكمن، الى جانب العديد من الأسباب الأخرى ، في عدم احترامنا لإرثنا الحضاري.
من دفن أرثه الحضاري وجعلة عرضه للتهميش والتزييف هو من تناسى اصله وجذوره وهو أيضاً من فقد كرامته الوطنيه وقطع الربط بين هويته الثقافية وحياته اليومية … والطبيعة لا ترحم … لا يوجد كائن حي يستطيع ان يعيش دون جذور ودون اصل … الا الطفيليات.
لا تتسع اسطر هذا المقال المتواضع لتسليط الضوء على كل الخروقات بحق إرثنا الحضاري في العالم العربي … فهذا موضوع يصلح لدراسات عليا عديده وبمختلف المجالات، لذا سأكتفي بعرض صورة عن قريتي، قرية ديرحنا في الجليل الفلسطيني، لأوضح للقارىء ما اقصده بالعبث والتزوير للإرث الحضاري ومحاولة طمس الهوية الوطنية لأهل البلد الأصليين من قبل بعض الأطراف الداخلية من ابناء وبنات هذه البلد… هذه الصوره يمكن نقلها ونسخها على آلاف القرى والمدن في العالم العربي.
في قريتي معالم عمرانيه اثرية يعود تاريخها الى مئات السنين وهي تشهد على ثقافة ديناميكيه مميزه لهذه القرية ولأهلها … من هذه المعالم الجامع القديم والصور المحيط بالبلدة القديمة وساحة البلد التي كانت تستعمل كساحة عامة وساحة سوق له رونق مميز خاص، بعد ان خدمت الساحة بالماضي البعيد كمركز لتجميع المواشي لعشرات السنين.
بني الجامع والصور المحيط بالبلد القديمة على أيدي القائد الإسلامي ظاهر العمر … هذا القائد الذي بنى جامع الجزار في عكا والذي كان وما زال من معالم عكا الفلسطينيه البارزة. الجامع في قرية ديرحنا بني كصورة مصغرة عن جامع الجزار وهو الوحيد من نوعه في فلسطين وهو شاهد على حضارة اهل البلد الأصليين وعلى تراثهم المعماري.
الصور المحيط بالبلد القديمة والتي كانت بمثابة قلعة تعرض منذ اغتصاب فلسطين لعمليات هدم مختلفة وبناء أماكن جديدة بدل الأماكن الأثرية، وما تبقى منه تم إهماله من قبل اهل البلد ومن قبل الجهات الرسمية لسنوات طويله… الجهات الرسمية التي اغتصبت فلسطين كانت مصلحتها ان يندثر كل شيء له علاقه في تاريخ وحضارة اهل البلد الأصليين … السؤال الذي يجب ان يطرح: أين اهل البلد من الحفاظ على إرثهم الحضاري والحفاظ على كرامتهم التي تعود الى ظاهر العمر ومن سبقه؟
المبادرات المتواضعة التي قام بها بعض شباب القرية للحفاظ على هذا الارث الحضاري لم تلقى الاهتمام الكافي من المسؤولين في القرية ولم ترصد لمبادراتهم أموال كافيه للحفاظ على هذا الارث وتليق في مكانته… وكأن هؤلاء الجالسون على مراسي العرش الهش لم يسمعوا عن الديالكتيك بان صراعنا مع مغتصبي ارضنا يبدا وينتهي في الحفاظ على إرثنا الحضاري والحفاظ على هويتنا الفلسطينية ألعربيه .
في قرية ديرحنا الجليلية لم يبقى الامر في حدود عدم المحافظة على الآثار، بل طال أيضاً ما هو موجود ومستغل كالجامع … في السنوات الماضية قامت مجموعه اسلاميه، تلف في فلك الإخوان المسلمين، في تزوير معالم هذا الارث الحضاري دون محاسب ودون رقيب! لا بل اكثر من ذلك عدد غفير من اهل البلد جمع تبرعات وبمباركة ودعم من الجهات الرسمية لتزوير معالم هذا الكنز الحضاري !
هؤلاء المجرمون بحق تاريخنا وارثنا الحضاري قاموا ببناء مأذنة ثانية للجامع لا تبت بشيء للهندسة المعمارية الأصلية وقامو بمحي مقولة كانت محفورة على باب مدخل الجامع اضافة الى تغيرات جوهرية في هندسة باحة الجامع ومحرابه… جرى كل هذا وأهل البلد يراقبون ويدعمون تزوير إرثهم الحضاري وانتهاك كرامتهم الوطنيه !
هذه المجموعات التي تزور وتعبث بالإرث الحضاري في قرانا ومدننا العربية في عموم الشرق موجوده في كل مكان وتتحرك باسم الرب لتزور تاريخنا وتطبعة بوصمة تلائمها . والمحزن ان الشعوب، رجالا ونساء أطفالا وشيوخا نخبة وعامة يدعمون هذا التزوير بمالهم وسكوتهم! والجهات الرسمية في خبر كان …
إرثنا الحضاري هو جزء أساسي من كرامتنا الوطنيه … ذكروا ان نفعت الذكرى.
بقلم/ د. رائف حسين