فيما مضى، كان اعتناق الأفكار الماركسية أو الانتماء إلى اليسار فكراً أو تحزباً، يعني ببساطة الاقتناع والتصديق أن نظرية الاشتراكية العلمية هي المنظور الصائب الوحيد لتحليل حركة المجتمع، ودراسة التاريخ الإنساني، وفهم قوانين الصراع الطبقي لتغيير العالم نحو الأفضل. وأن انتهاء الامبريالية وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعي قضية حتمية. كانت الماركسية تعني رفض منطق اقتصاد السوق الحر. وتعني النضال ضد الامبريالية والرجعية والصهيونية، ومواجهة الطغاة والديكتاتوريات وكافة أشكال الاستبداد والتعسف. تعني الوقوف مع الفقراء والمهمشين والدفاع عن مصالحهم. والإيمان بالجدلية المادية ومنهجها. تبني الأفكار التنويرية الحداثية ورفض التخلف الفكري والطائفي والقبلي، أي التقدمية في مواجهة الرجعية. والدعوة لاستعمال العقل ومحاربة الخرافة. وبهذا أصبح كل من يلتزم بالفكر التنويري تقدمياً، والتقدمي لا بد أن يكون يسارياً حتى لو لم ينتمي لصفوف الكادحين، بصرف النظر عن الحزب الذي ينتمي له، شيوعيا أو اشتراكيا أو عماليا. وبهذا المعيار الأيديولوجي فإن صاحب الأفكار الرجعية والمتخلفة الذي يقف في وجه الحداثة، ومن ويدافع عن الاستبداد يكون يمينياً، حتى لو انتمى لطبقة العمال والفلاحين والكادحين.
هكذا كان حال اليسار قبل عقود من الزمن. لذلك يبدو سؤالي في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عن ماهية اليسار ومن هم اليساريين، منطقياً ومشروعاً في سياق فهم وتحليل التناقضات والصراعات التي تجري في المنطقة العربية، والتحولات التي تسعى بعض القوى الوطنية والإقليمية والدولية إلى إحداثها، وما رافقها من اشتباهات والتباسات. أبرز هذه المستجدات التي أفرزتها الأحداث الجارية في العالم العربي منذ سنوات خلت، هو التحالفات الجديدة بين بعض القوى اليسارية مع القوى اليمينية، اجتماع وتلاقي مصالح اليسار واليمين، سقوط الصراع الفكري التناحري، وسقوط كافة قيم النظرية الماركسية التقليدية في قعر الانحراف والتشويه، عبر مواقف وآراء وتحالفات لأحزاب وتيارات يسارية مع اليمين الرجعي، وتلاقي مصالح اليسار التقليدي مع الطغاة وأنظمة الاستبداد العربي. هذا الأمر يضعنا أمام إشكاليات فكرية ونظرية غير مسبوقة في الحقيقة.
يسار ويمين
مصطلحان نظريان يعبران عن الانتماءات الأيديولوجية والفكرية والسياسية. أصلهما يعود إلى جلوس ممثلي الشعب في المجلس الوطني الفرنسي بصورة تدريجية على يسار رئيس المجلس أثناء مناقشة مستقبل البلاد العام 1789 بما فيها تحديد وضع الملك "لويس" السادس عشر، وكانوا يرغبون في تقليص صلاحيات الملك. فيما جلس ممثلي الاقطاع والنبلاء ورجال الكنيسة الذين يؤيدون بقاء الملك بكامل صلاحياته على يمين الرئيس. لذلك سمي الجالسون على اليسار تقدميون، والجالسون على اليمين محافظون، ومن هنا انبثقت تدريجياً وتبلورت فكرة أن كل من يريد ويطالب بمنح قدراً أكبر من الحريات للمجتمع هو يساري وتقدمي. وكل من يعارض التغيير ويريد الحفاظ على تقاليد المجتمع السائدة هو يميني محافظ.
يعكس التميز بين اليسار واليمين اختلافات أيديولوجية عميقة، هناك مفردات وافكاراً ذات طابع يساري مثل حقوق العمال والتقدم والإصلاح وإلغاء الفوارق الطبقية والتغيير الاجتماعي والسياسي والنضال الأممي. وهناك أفكار ارتبطت باليمين مثل التقاليد والقومية والاقتصاد الحر ورفض تغيير النظام السياسي والاجتماعي. ويطلق مصطلحا اليسار واليمين على تجمعات أو أحزاب أو أفراد ترتبط فيما بينها بمواقف ورؤى وأفكار وأيديولوجيات متشابهة، وما بينهما تقع القوى الوسطية التي تؤمن بالإصلاحات التدريجية للنظام.
أصبح هذان المصطلحان من أشهر المفردات في عالم الفكر والسياسة والاقتصاد، ويكفي ذكر أحدهما لتوصيف واختصار الافكار والمعتقدات والتوجهات للأفراد والجماعات والأحزاب والدول. ارتبط اليمين بحرية اقتصاد السوق وحرية الملكية والنشاط التجاري الذي يتيح النمو السريع للثروات. حين ظهرت الأفكار الماركسية والاشتراكية التصق اسم اليسار بها، على اعتبار أن الماركسية تدعو إلى إلغاء تدريجي للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإلى إعادة توزيع الثروة الوطنية لتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية. ثم ظهرت مصطلحات جديدة ترتبط بالطيف الأيديولوجي والفكري نتيجة التشدد والتعصب الأيديولوجي والفكري وبسبب اختلاط وامتزاج الأفكار فتشكل أقصى اليسار، اليسار الراديكالي الثوري، اليسار التقدمي، يسار الوسط، واليمين ويمين الوسط وأقصى اليمين المتشدد، وعلى قمة هرم التصنيف اليساري يوجد الشيوعية، وفي قمة اليمين يوجد الفاشية والنازية.
فإن كنت من ممن يدعو إلى الحفاظ على قيم المجتمع التقليدية، ولا تمانع في وجود حكومة قوية واسعة السلطات، وكنت تدافع عن الحرية الاقتصادية الواسعة والضرائب الأقل فأنت يميني. وإن كنت مثلاً مع حرية السوق وتحديد سلطات الحكومة تصبح وسط اليمين، وإذا اعترضت أكثر تصبح وسطي.
أما إن كنت مع توسيع الحريات العامة، وإلغاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وسيطرة الدولة على الإنتاج تكون يسارياً. وإن كنت مع توسيع الحريات وتوزيع الحكم فأنت وسط اليسار، وإن طالبت بحريات أكثر تصبح اقصى اليسار. وإن كنت تنشد الوسطية بين دور الحكومة والقطاع الخاص فأنت وسطي تختار الطريق الثالث لا رأسمالي ولا اشتراكي.
حين نسمع في وسائل الإعلام مصلح يساري يطلق على أحد فهذا لا يعني بالضرورة أنه ماركسي، لكنه فرد يحمل أفكاراً سياسية أو ثقافية من الطيف اليساري عموماً. وإن قالوا فلاناً يمينياً فلا يجب أن يعني هذا أنه مع قيام دولة دينية ولكن مواقفه عادة تكون على يمين الطيف.
خلال فترة النصف الثاني من القرن العشرين تقلصت الفوارق بين الأفكار والبرامج اليسارية واليمينية، وضاقت الفجوة بسبب التحولات التي لمست البنية الاقتصادية والاجتماعية للدول الأوروبية وأدت إلى اتساع كبير في الطبقة الوسطى، وانعكاس هذا التحول على الخارطة السياسية. فنلاحظ إن كافة الدول الديمقراطية الغربية التي تتمتع باستقرار سياسي واقتصادي تحكمها غالباً قوى يسار الوسط أو يمين الوسط، ونادراً ما وصلت الأحزاب اليسارية المتشددة مثلاً إلى قمة السلطة، لكن السنوات الأخيرة شهدت صعود واضح لليمين المتطرف الذي وصل أو كاد للسلطة بمفرده أو عبر تحالف مع قوى يمين الوسط.
مشروعية السؤال
من البديهي طرح الأسئلة التي وثبت أمام العقل تطرق بابه بشدة، ولا زالت الأسئلة ذاتها دون إجابة برغم مرور ثلاثين عاماً على انهيار المعسكر الاشتراكي. وحتى لا نتوه كما تاه تحليل الرفاق عن المذهب، وتاه تفسير ورؤية اليساريين العرب وكل من كان يدعي أنه ينتمي للشعب والجماهير المضطهدة. فالمعركة في جوهرها ببساطة كانت ولا زالت بين الأثرياء والفقراء، بين المتجبرين والمضطهدين، بين من يملك كل شيء ومن لا يملك شيئاً. أسئلة تتمحور حول القضية الكبرى الهامة. كيف تمكنت الرأسمالية من امتلاك القدرة على الاستمرار، وماهي مكونات قوة الرأسمالية التي جعلتها تستمر وتتواصل كنظام اجتماعي وسياسي واقتصادي؟ لماذا انهارت رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي؟ ما سر قوة حيوية الرأسمالية التي أتاحت لها تجديد وتحديث نفسها وأدواتها؟ هذه الأسئلة البديهية ورغم كافة المبررات التي ساقتها الحركة اليسارية إلا أنها عجزت عن تقديم تفسير علمي وإجابة واضحة لما حصل.
ليس هذا فقط. بل اثناء وبعد الأزمة المالية العالمية التي ضربت النظام المصرفي الكوني برمته في العام 2008 فقد التيار النيو ليبرالي توازنه الفكري وأضل الماركسيين الجدد رشدهم، ولم يستطيع الطرفان تقديم لا تفسير حقيقي ولا أفكاراً بديلة ولا معالجات للأزمة التي تضرر منها عشرات الملايين من المهمشين والفقراء حول العالم، أما فيما يتعلق بالماركسيين الأصوليين فقد أصابهم البكم والدوار ولم يتمكنوا من فهم ما جرى. أكثر من ذلك فإن كافة الأفكار والنظريات الاقتصادية التي تم نقاشها واعتمادها للخروج من الأزمة، هي نظريات غربية رأسمالية، ولم يرى أحد من المفكرين ضرورة ذكر كارل ماركس ونظريته الاقتصادية.
فيما يتعلق بحركة اليسار العربية فقد أصيبت بالجمود العقائدي والفكري، في منطقة عربية شهدت -وما تزال- تطورات وتغيرات نوعية وعميقة. لقد ارتبط تاريخ اليسار العربي بالأزمات منذ قبل الإعلان عن قيام "إسرائيل الصهيونية" والموقف من قرار تقسيم فلسطين الأممي رقم 181 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1947 وموافقة الاتحاد السوفيتي عليه، ورفضه من قبل الشيوعيين الفلسطينيين والعرب. تكررت الأزمات حول الموقف من الرئيس المصري الراحل "جمال عبد الناصر"، والاختلافات بالموقف من الوحدة التي تمت بين سورية ومصر في العام 1958. ثم أزمة الموقف من قضية القومية العربية. وكذلك الخلاف بالرؤية الاستراتيجية في التيار اليساري العربي حول الثورة الفلسطينية المسلحة. أزمات متعددة حول قضايا عربية ودولية مهمة، وحول قضايا داخلية فكرية ونظرية وحزبية وسياسية متعددة ومتنوعة وشائكة، أدت إلى مسلسل من الانقسامات والانشقاقات أضعفت حركة اليسار العربية.
انسحال ثقافي
شكلت الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الفترة الذهبية للحركة اليسارية العالمية والعربية على المستويين الفكري والسياسي، حيث تميز اليسار العربي بأنه تيار يضم المثقفين والمناضلين. لكن هذه المكانة تراجعت كثيراً في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأصيبت بضربة قاضية في بداية التسعينيات مع انهيار المعسكر الاشتراكي.
مع انحسار دور اليسار العربي وانعدام فاعليته، اهتزت صورة المثقف بصورة عامة، وتراجع حضور المثقف اليساري في المشهد العام، وتعرضت صورته للانكسار في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، وفقد المثقف اليساري بريقه وجاذبيته وقدرته على الفعل والتأثير، وذلك بسبب المستجدات السياسية دولياً والتحولات الكونية الكبرى التي هزت العالم، وأدت إلى انهيار دراماتيكي لدول المعسكر الاشتراكي، وانتصار الامبريالية على الشيوعية، وصعود تراجيدي للولايات المتحدة على قمة العالم.
هذه الأحداث والمتغيرات التي أصابت العالم والمنطقة العربية كانت مفاجئة لمعظم اليساريين العرب، حيث سار التاريخ كما لا يشتهون ولا يتوقعون ولا ينتظرون. وحصل عكس ما كان يبشّر به اليسار العربي من سقوط حتمي للرأسمالية وهزيمة الامبريالية والرجعيات العربية. اليسار العربي الذي أصابته صدمة التحولات المتسارعة -حينها- شعر بالخيبة الشديدة، وأن أفكاره قد خذلته ولم تتمكن من تحقيق تطلعاته. وصار مثل مغني ضرير ينشد لجمهور من الصم بعد أن انفض الناس عنه.
ليس المثقف اليساري وحده من تجاوزته الأحداث وأدوات العصر وعزلته، بل المثقفين عموماً غادروا مواقعهم الريادية وأصبحوا في الصفوف الخلفية، ويبدو أن المقام الجديد طاب لهم. فيما بعض المثقفين العرب تم توظيفهم من قبل الأنظمة كزينة سياسية. إن التطور السريع الهائل في وسائل الاتصالات وتقنيات المعلومات بطش بدور المثقف، ولم تعد المجتمعات تحتاج نبوءة المثقف وتوقعاته وقراءته للواقع. وحلّ التقدم العلمي في علوم الطب والجينات والفضاء والرياضيات والاقتصاد والفنون، مكان النظريات الفلسفية اليسارية التي كانت تسعى لإقامة عالم يتسم بالعدل والسعادة. وكما يتضح فإن الصناعات الدقيقة والابتكارات العلمية والأبحاث في قطاع تطوير الالكترونيات وتطبيقاتها، واقتصاد البيانات والمعلومات، هو ما يلائم العصر الحديث أكثر من الأفكار والنظريات الفلسفية والإنسانية، خاصة الحالمة منها والتي لا تمتلك أية فرصة للحياة. فيما ظل اليساريون ولا زالوا يناقشون أشكال الصراع الطبقي في كراريسهم المدرسية.
نكوص لليسار والمثقفين العرب
على رغم أن اليسار لم يكن كتلة موحدة على المستوى الفكري، إلا أن يسار اليوم عبارة عن حالة غير قابلة للتصنيف، فهو أصبح ذا تركيبة عجائبية غير متجانسة. إذ أن هناك تيارات متعددة منها التيار الماركسي اللينيني، التروتسكي، اليسار الراديكالي، اليسار الجديد، إلا أن هذه التيارات والجماعات اليسارية كانت تجمعها مفاهيم ترتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية للبشر، وإعلاء قيم العدالة والمساواة، واحترام الحريات العامة، والإيمان بالديمقراطية وكافة المثل الإنسانية التي تحققت بفضل نضال البشرية ضد الاستغلال والظلم والجهل.
لكن أين اليساريين العرب اليوم من هذه المبادئ التي جسدت المعنى الحقيقي والفعلي للفكر اليساري؟
في الحقيقة لا نجد إلا بقايا من المضامين الفكرية والأخلاقية اليسارية لدى من يطلقون على أنفسهم اليوم قوى اليسار العربي. فمعظم اليساريين في العالم العربي ابتعدوا بشكل واضج عن جذورهم الفكرية والنظرية. وظهر في ربع القرن الأخير تيار يساري أطلق على نفسه اليسار الجديد، هذا التيار يتبنى مفاهيم مختلطة ملتبسة وأفكار مبهمة ومعايير نظرية مزدوجة في الموقف والرؤية. وتمكن هذا اليسار بثوبه الجديد من صياغة تحالفات جديدة، وبناء علاقات مع قوى كانت تاريخياً في الموقع المعادي، وهذا يشكل نكوصاً فكرياً ونظرياً وإنسانياً وأخلاقياً لليسار العربي. حيث أن القيم والمثل والمبادئ التقليدية للتيار اليساري العربي أصبحت مذبذبة وباهتة واتخذت شكلاً هلامياً وضبابياً، وفقد هذا اليسار هويته التي كانت تميزه عن القوى الرجعية التي يصيغ معها الآن تحالفات خرجت عن أي سياق علمي وفكري وعقلاني.
اختلط في المنطقة العربية اليسار مع اليمين، الحداثة مع الفكر المحافظ، القليل من العلم والفكر مع كثير الكثير من الجهل والخرافة. امتزج الفكر المعرفي مع الانتماء القبلي والطائفي، اختلطت العلوم والفلسفة بالفكر المتشدد والتطرف. الثراء الفاحش مع الفقر والجوع، غاب التسامح والتعايش وحضر القتل والاقصاء بقوة. فيما معظم القوى اليسارية العربية تقوم بقراءة الواقع بثوب يساري ونظارة يمينية. وتنظر للمتغيرات في العالم العربي على أنها مؤامرة غربية، وتتخذ موقفاً مسانداً للطغاة العرب، وتدعم الأنظمة الاستبدادية، وتقف في وجه تطلعات الشعوب وحقوقها.
وبذلك أسقط هذا اليسار كافة المفاهيم والمعايير التي كان يؤمن بها، وكانت لهم مرشداً في تفسير التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات البشرية. وتجاهل اليساريون العرب قوانين المادية الديالكتيكية والتاريخية، وقفزوا عن فكرة الصراع الطبقي، وتغاضوا عن الأسباب التي تقف خلف تطور المجتمع والإنسان، وتنكروا لتاريخ من النضال لأجل تحقيق العدل والمساواة ورفع الظلم عن الإنسان، بل تنكروا لأنفسهم في سبيل الحصول على بعض المكاسب السياسية أو الاقتصادية أو الشخصية من قوى وأنظمة كانت مصنفة تقليدياً في قاموس اليسار وفي المرجعيات الثورية، على أنها قوى رجعية وامبريالية.
اليسار العربي الذي عانى التهميش والاقصاء كثيراً من قبل الأنظمة العربية، وذاق اليساريين العرب حنظل الأمرين من قهر وقمع واعتقالات، هذا اليسار ذاته يقيم اليوم تحالفات سياسية مقدسة مع بعض تلك الأنظمة الطاغية وصلت لدرجة التبعية المقيتة. وصار اليسار العربي يجري تنسيقاً إعلامياً وسياسياً علنياً مع قوى رجعية وأنظمة طاغية، دون أن يتسبب ذلك بأي حرج للقوى "الثورية" التي تراجعت أولوياتها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، واختلطت شعارات اليسار مع مواقف اليمين، وتماهى خطابه أيضاً مع الخطاب الديني الطائفي لغوياً وتأويلاً وشعاراً، ومواقفاً متواطئة مع القوى والأنظمة المعادية للشعوب ومصالحها، ومعادية للحريات العامة والخاصة.
الصمت المريب المخجل من قبل معظم اليساريين العرب على الفجور الذي أبدته أنظمة الموت العربية، وحيال التحولات في المنطقة العربية، وعدم اتخاذ موقف واضح وجلي لا لبس فيه من المستجدات والتحديات التي تواجهها الشعوب العربية التي كانت في مركز اهتمام اليسار، بدا أن اليسار العربي كمن أضل دربه وفقد هويته وأضاع رأسه، فظهر بصورة مسخية مشوهة. فبدلاً من أن يقوم بدعم ومساندة الجماهير العربية وتأييد مطالبها، وقيادة الحراك الشعبي لوضعه في مسار ديمقراطي يؤدي إلى إنهاء الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد والزعيم الواحد والفكر الواحد، والانتقال إلى النظام التعددي الديمقراطي، كمقدمة لبناء الدولة الوطنية الحديثة، فقد آثر اليسار أن ينصاع للسلطة السياسية الرسمية، ويُحجم عن دوره ويتنصل من مسؤوليته مما جعله خارج السياق التاريخي والاجتماعي والأخلاقي.
أهل الكهف
كما أسلفت فقد أحدث سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي إلى انقسام اليسار العربي بصورة غرائبية. تيار منهم تحالف مع الحركات الإسلامية بذريعة مناهضة الامبريالية والمشروع الاستعماري في المنطقة، ورويداً رويداً فقد هذا التيار ملامحه الفكرية والسياسية، وتماهى مع الإسلام السياسي بصورة تامة دون تحفظ. وتيار يساري عربي أخر كان معادياً بشدة بالأصل لكافة التيارات الإسلامية فتحالف مع التيارات الليبرالية الجديدة وانتقل من الماركسية إلى الليبرالية وأصبح متقلباً بأهوائه الفكرية، وبعض اليساريين أصبحوا ذيولاً للرأسمالية في يعض الدول العربية. ومع كل هذه الشقلبات لليسار العربي ظل يردد ويزعم أنه يسار ماركسي دون خجل. هذا اليسار الذي فقد فاعليته السياسية ثم فاعليته الفكرية ثم تأثيره الاجتماعي، وعانى من جفاف فكري وتصلب نظري حال دون أن يُقدم على مقاربات نقدية تُخرجه من مأزقه التاريخي.
هذا العطب الفكري الذي عانى منه اليسار العربي تسبب في تشويه هويته الأيديولوجية وملامحه النظرية، حيث فشل كمشروع عدالة اجتماعية، ولم يتمكن من التماسك إثناء وبعد التحولات الكبرى، وأخفق مرتين، مرة في مقاربته الخاطئة والقاصرة للنظرية في الواقع العربي، ومرة حين تاه وتشقلب بعد تفكك المركز ونشوء الحركات الإسلامية في المنطقة، وعدم تمكنه من إقامة علاقات وتحالفات مع هذه القوى الصاعدة بصورة لا تسيء لتاريخه، وخاصة قوى اليسار الفلسطيني واللبناني. هذه العلاقات تتناقض نظرياً مع ما يمثله مشروع اليسار ثقافياً واجتماعياً. لذلك اندثرت تجارب يسارية عديدة في العالم العربي دون عودة.
لم يسهم اليسار العربي في نقد الخطاب الديني بصورة راديكالية، باستثناء كتابات القلة من المثقفين اليساريين مثل "صادق جلال العظم". من الغريب أن يكون المفكرين العرب في العصور الإسلامية أكثر جرأة ووضوح في نقد الخطاب الديني من التيار الماركسي العربي في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
لقد غابت ومسحت الفواصل والحدود بين التيار الماركسي العربي والتيارات الليبرالية والقومية والإسلامية واختلطت أفكارهما وامتزجت رؤيتهما وتماهت خطاباتهما. كانت الشعارات الفكرية والسياسية التي رفعها الماركسيون العرب وكتبوا عنها في القرن العشرين -ولم يتحقق منها شيئاً- تنضح بمصطلحات التحرر والحرية والتقدم والديمقراطية والاشتراكية، حقوق العمال والمرأة وحكم القانون.. الخ. بينما انتشرت في الثقافة العربية خلال القرن الحادي والعشرين مفردات الجهاد وأهل الذمة والردة وبلاد الكفر ودار الإسلام.. الخ.
كان العرب يقرأون للكواكبي والأفغاني وطه حسين وخليل السكاكيني، أصبحوا لا يقرأون سوى كتب الغيبيات وخطب رجال الدين الذين أصبحوا أبطال المشهد الثقافي – أنا لا أعترض على هذا ولست ضد الدين- لكنني أدعو إلى تفعيل العقل النقدي لدى المثقفين، وعدم انصراف عامة الناس إلى ثقافة تفسير الأحلام والتنجيم ومطبخ أم فلان، حتى لا ينتشر الجهل أكثر ويتأصل في العقل العربي وينتصر على العقل والعلم.
في هذه البيئة المشوهة غير الصحية في المجتمعات العربية، كان اليسار العربي غائياً مغيباً نائماً مثل أصحاب أهل الكهف، ولو رفع رأسه قليلاً لرأى الخراب مجسداً في أكثر من مثال. ليس اليسار فقط، بل كافة التيارات القومية والليبرالية والعلمانية والديمقراطية والتقدمية العربية كانت غائبة في هذا المشهد القتالي. ضاعت الحدود واختلطت المفاهيم والمصالح والأهداف بين كافة القوى، وفقد اليسار هويته النظرية ولم يعد هناك فرقاً بينه وبين الليبرالي واليميني إلا في الشعارات. إن اليسار الذي يتحالف مع قوى رجعية ومع أنظمة استبدادية ليس يساراً حقيقياً. واليسار الذي لا يكون مستقلاً ويرضى أن يكون ذيلاً لهذا وذاك ليس يساراً. واليسار الذي يقف في وجه الجماهير ومطالبها في تحصيل حقوقها التاريخية يساراً مزيفاً. اليسار الذي يدافع عن الطغاة وعن الديكتاتوريات هو يسار منافق منحرف انتهازي. واليسار الذي يتماهى مع مجتمعه ويمتنع عن نقد الخرافة والأفكار الجاهلة لأسباب منفعية يكون يساراً مضللاً مخادعاً مداهناً. اليسار الذي لا يُحدث أي تأثير ولا يكون له فعل في رفع الوعي لدى الجماهير ونشر المعرفة وتحديث وتنوير المجتمع ليس يساراً صادقاً.
لا لون ولا نكهة
اليسار العربي تحول إلى حالة هلامية غير متماسكة ولا متجانسة ولا متصالحة، لا لون له ولا طعم ولا رائحة. يسار تعرض للتآكل لأنه غير محصن فكرياً، وأصابته الشيخوخة قبل أن يشتد عوده، ثم وهن وتلاشى فعله، وهو الآن يتحلل قبل أن يندثر تماماً.
والأمة العربية تمر بلحظات فارقة لا تجدي فيها الأحلام الثورية ولا الاختفاء خلف الشعارات والخطابات، على أمل أن يتغير الواقع وحده. هذا لن يحصل ما لم تتسلح النخبة العربية بالشجاعة للبدء في التغيير، وإزالة السدود الفكرية والسياسية والمذهبية والطائفية بين الناس لكي تعبر الأفكار ويختار الناس منها ما يمكنهم على بناء مستقبلهم.
الجماهير العربية التي كانت دوماً وقوداً للثورات والنضال ضد المستعمر، ينتظرون أن تقوم النخب والمثقفين باجتراح الحلول للإشكاليات حتى تحظى بالاحترام لمرة واحدة في عصر لا يعترف بأية بطولة ومجد وحسب ونسب سوى مجد التقدم العلمي والازدهار والعقل والتنمية.
بقلم/ حسن العاصي