محاولة لاستذكار الصفحات المشرقة: حتى لا تهيمن اسرائيل وواشنطن على مستقبلنا!

بقلم: طلال سلمان

كتبوا فقرأنا عن “عصور الانحطاط” التي تردت فيها أسباب الحياة، وعم الجهل والفقر واندثرت اللغة وآدابها، شعراً ونثراً، ولولا القرآن الكريم وموقعه في صلب الإيمان لسادت الأمية وغلبت الهجانة واغترب الناس عن تاريخهم وعن أنفسهم حتى كاد العرب أن يندثروا.

أما في السياسة فقد تبخرت “الدولة العربية”، كخلافة أو كدويلات خارجة منها وعليها، واقتطع كل أمير أو شيخ قبيلة، وبالتواطؤ مع حاميه الأجنبي مساحة من الأرض لتكون “إمارته” القائمة على العداء مع “الشيوخ الآخرين” في إماراتهم المحمية، هي الأخرى.

صارت الأرض العربية، لا سيما في المشرق، مشاعاً مفتوحاً أمام قوى الاستعمار، لا سيما بعد سقوط السلطنة العثمانية، ثم سقوط تركيا في الحرب العالمية الأولى مع المانيا.. وهكذا تقاسمت بريطانيا وفرنسا أقطار المشرق (فرنسا أخذت لبنان ـ المتصرفية ومعه “الأقضية الأربعة”، الجنوب والبقاع والشمال وبيروت التي كانت ولايات في السلطنة) كما قسمت سوريا إلى أربع دويلات، لكن الشعور الوطني السوري أسقط هذا التقسيم.. في حين اقتطعت بريطانيا شرق الأردن وأقامت فيه إمارة للأمير عبد الله ابن الشريف حسين ـ مطلق الرصاصة الأولى في “الثورة العربية الكبرى” التي كلفته عرشه في الحجاز، بعدما تخلى عنه البريطانيون..

وكان ذلك التمهيد الأوضح لإقامة الكيان الإسرائيلي، خصوصاً وان فلسطين وضعت تحت الوصاية البريطانية.
كذلك فقد أقامت بريطانيا مملكة هاشمية في العراق ونصبت عليها ملكاً هاشمياً هو فيصل الأول، النجل الثاني للشريف حسين..

صار المشرق العربي “دولاً” بلا مقومات، لا موارد جدية، والطبقات السياسية التي استولدت قيصرياً قد تربت في ظل الاستعمار، ولا تملك ـ غالباً ـ المؤهلات والإرادة لبناء الدول من الصفر، في مناخات تهيمن عليها الطائفية والعنصرية ومصالح الدول المهيمنة.

تفجرت الثورة الأولى على الاستعمار الفرنسي في سوريا عند أبواب دمشق في ميسلون حيث واجهت قوة محدودة بقيادة بطل ميسلون يوسف العظمة القوات الفرنسية الأعظم عدداً وعدة.. في 1920، ثم كانت الثورة السورية 1925، بقيادة سلطان الأطرش وقد قصف الطيران الحربي الفرنسي، خلالها، مجلس النواب في دمشق لتتفجر سوريا جميعاً بالثورة، بينما كان شعبها يتقدم واثقاً نحو “المدنية” والتخلص من آثار التتريك مع مقاومة باسلة للفرنسة.

لن يطرأ تغيير جدي على الخريطة السياسية للمشرق العربي إلا عبر محاولات الحركة الصهيونية الاستيلاء على فلسطين العربية تاريخاً وأهلا، وهو مشروع سوف تسانده بريطانيا قبل أن تنشب الحرب الإسرائيلية الأولى لاحتلال معظم فلسطين، والتي هزم فيها العرب الذين قاتلوا ـ رمزياً ـ لقلة العدد والعتاد (حوصرت كتائب من الجيش المصري في الفلوجة واستشهد القائد البطل محمد عبد العزيز، وكان جمال عبد الناصر بين ضباط القوة المحاصرة).. كذلك هزمت الكتائب من الجيش السوري وجماعات المتطوعين الذين قاتلوا من دون خبرة كافية وبذخيرة وبنادق فاسدة، في حالات كثيرة.

اقيمت “دولة اسرائيل” بالقوة، اذن، على أرض فلسطين، وسط جو من التأييد الدولي الواسع لقيامها تمثل في أن أكبر دولتين في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي كانتا أول من اعترف بها.

وهكذا يكون “العرب” قد تلقوا هزيمتين معاً عسكرية وسياسية.


قامت أو أقيمت دول عربية عديدة في المشرق العربي، إذن، وزرعت في القلب منها دولة العدو الصهيوني اسرائيل.. في حين كانت المملكة العربية السعودية في شغل شاغل ببناء دولتها بعيداً عن أشقائها العرب… في حين كانت تقوم في الخليج مجموعات من المشيخات التي ستحولها ثروات النفط والغاز إلى دول محدودة السكان عظيمة الثروة: الكويت (في أوائل الستينات، ثم دولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة قطر ـ في أوائل السبعينات).. وقد اقتطعت بعض أراضي سلطنة عُمان لحساب الإمارات، وزرعت قاعدة عسكرية أميركية في قطر، أما الإمارات فحصنتها “الدول” بضمانات مؤكدة حماية لثروتها من النفط (مع مراعاة لخاطر إيران التي تواجهها عند الشاطئ الآخر والتي لها جالية كبيرة فيها قدرها، ذات يوم، الشيخ عبد الله بن زايد بربع مليون مقيم شرعي مجنس وربع مليون آخر من العابرين والمتنقلين يومياً بين الشاطئين المتجاورين..).


مع ثورة 23 يوليه (تموز) 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصر ومعه “الضباط الأحرار” سيسود مناخ جديد في المنطقة العربية وستتعزز صفوف المنادين بالتخلص من الاستعمار الغربي (البريطاني والفرنسي)..

ومع العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956 ستتجلى إرادة الأمة العربية في التضامن وصولاً إلى تحقيق الحلم بالوحدة العربية، وهكذا قامت الجمهورية العربية المتحدة من خلال اندماج مصر وسوريا في دولة واحدة.
كان الحدث تاريخياً، وقد أحيا في الأمة ثقتها بنفسها وشعورها بالقدرة على الانجاز، بمقدار ما استنفر القوى المعادية اسرائيل ومعها الولايات المتحدة والغرب عموماً، ودول القرون الوسطى في أنحاء الجزيرة والخليج.. وكانت الجزائر تقاتل الفرنسة محاولة استعادة هويتها العربية واستقلالها، والمغرب مع ملكه بعيد، وليبيا مملكة تتقاسمها ثلاث دول استعمارية: إيطاليا وبريطانيا وفرنسا، وتونس تحت قيادة بورقيبة الذي لم يتحمس لفكرة العروبة وظل “غربي الهوى والسياسة”.

وكان بين ردود الفعل الأولى على قيام دولة الوحدة تعاظم الثورة الجزائرية، ثم تفجر العراق بثورة 14 تموز (يوليو) 1958، التي اتخذها الأميركيون ذريعة لإنزال بعض قطع اسطولهم عند شاطئ بيروت، حيث كان قد أسقط حكم كميل شمعون وجاء إلى الرئاسة اللواء قائد الجيش فؤاد شهاب.


تلك صفحات مضيئة من تاريخ العرب المعاصر لا يجوز أن تطوى فتنسى أو تحقر بالقول انها كانت محاولات لتحقيق الأحلام السنية فأخفقت وسقطت قبل أن تكمل الإنجاز..

يكفي انها أكدت إمكان تحقق تلك الأحلام، اذا ما زاد الوعي وثبت الإيمان بحق هذه الأمة، بشعوبها كافة، في مستقبل أفضل.

واذا ما استعدنا تجارب الشعوب الأخرى التي حققت أهدافها في أزمات مختلفة وضمن ظروف دولية مختلفة، وبالاعتماد على إرادة الناس، لثبت لنا إمكان تحقيق أهداف أمتنا، برغم المصاعب.. وإلا لتبعثرنا أيدي سبأ، ولقاتل العرب العرب (كما يحدث في اليمن أو في ليبيا) أو قاتلهم العدو الاسرائيلي (كما حدث في لبنان على امتداد التسعينات وحتى الحرب الإسرائيلية في مثل هذه الأيام من العام 2006) أو قاتلتهم إسرائيل وتركيا ومعها قوات أميركية ـ وفرنسية ـ كما يحدث في سوريا هذه الأيام.

أن المخاطر تتهدد الأمة في مصيرها، وتتهدد دولها في استقرارها،

فلنأمل أن ينتبه العرب إلى مخاطر حاضرهم ومستقبلهم المهدد، فيستعيدون وعيهم ويحمون حاضرهم ومستقبل أجيالهم الآتية.

طلال سلمان

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق