فيلم - مسرحية “سالومي“ في أرض كان اسمها فلسطين !

بقلم: المتوكل طه

***

بأُسلوب جزل مليء بالإبداع،وبإيماءت أُسطورية ورموز من الكتاب المُقدّس، كتب أوسكار وايلد مسرحيته "سالومي" العام 1893، التي تتحدّث عن الأميرة سالومي ابنة زوجة الملك هيرود، التي أحبّت النبيّ العفيف يوحنّا.. فرفضها. ويوحنّا هو ابن خالة سيدنا عيسى، عليهما السلام، وهو مَنْ بشّر بقدوم اليسوع -الذي سيكرز بعصاه من بحر الجليل، ويقتات الجرادَ وعسلَ البراري، ونكاد نسمع وَقْع أقدامِه على الجبال، ما دفع كهنةَ يهود إلى مطالبة الملكَ هيرود بتسليمه إليهم.. لكنه رفض، وقام بحجزه في إحدى أماكن القصر، ما جعل الأميرة سالومي، وهي تذرع المكان، تسمع يوحنّا وهو يجأر بالبُشرى، ويحذّر من الموبقات والآثام والفظائع، فوقعت في غرامه، وسلبها عقلَها لجماله وحسن طلعته ومنطوقه الغامض، فراودته عن نفسه.. فأبى، ما أثار غضبها وحنقها.. وهي التي ترغب في أن يفترع عذريّتها، وأن تهبَ له ثلجَها الساخن.

والقصة من أوّلها أن هيرود الملك كان قد قضى على أخيه فيليب وأخذ زوجته، التي هي أُمّ سالومي، المتصابية، التي تشبه امرأةً تنهض من قبرها، أو تبحث عن الموت فيما حولها!

أمّا ابنتها سالومي التي تشبه زهرة الفضّة، ويداها مثل فراشات مضيئة، وعيناها كهرمان، وإذا مشت يرتعش النرجسُ من خطواتها، ويصبح العالم المعتم زاهياً مملوءاً بأريج زنابق الوادي..هي التي فتنت زوجَ أُمّها الملك بدلالها وحُسنها! كيف لا وقد تساءل كلّ مَن يراها؛ هي أُم القمر الحليبي الكامل.. إنها تخطو مثل يمامةٍ بيضاء!

وفي حفلةٍ شربَ فيها الملكُ وضيوفه النبيذَ، فلعب الشغفُ برأسه وقد امتلأ قدحه من الفواحش، وهو الممسوس بسِفاح القُربى، تمنّى على سالومي أن ترقص له، ما أثار غِيرة أُمّها وحنقها.. وراحت تصرخ مثل حيوان جائع! فوافقت سالومي بعد لَأيٍ، شرط أن يُقسِم الملكُ بحياته وبآلهته أن يحقّق لها ما تطلبه مقابل أن ترقص.. فوافق الملكُ، الذي كان يكره زوجتَه، التي كان الجميع يتحدّث عن هفواتها وخياناتها وشبقها، وقد ملأت الأرضَ بنبيذ آثامها، وفي لحظةٍ سلبته سالومي لبَّه وسحرته بعاجِ لحمها وفيض إغرائها الفتيّ.

وعندما انتهت سالومي من رقصتها المذهلة، طلبت أن يقطعوا رأس يوحنّا، وأن يأتيها مجذوذاً على طبق من فضّة! وهكذا قطعوا رأسَ النبي، وأحضروه لسالومي التي احتضنته، وراحت تُقبِّل فمَ الرأس المُدَمّى، كأنها تعوّض رفضه لها، ولأنه لم يملأ عروقَها بلظى النشوة، وأدركت أن سرّ الحبّ أقوى من سرّ الموت، لكنّ طعماً مريراً تلمّظت به شفتاها وهي تتمرّغ بين شفتيّ يوحنّا الميت.. ولهذا تذكّرت القول: إنّ طعم الحبّ مرّ! غير أن الملك أمر بقطع رأس سالومي الفاتنة أيضاً! وكأنه سمع صفيق أجنحة ملاك الموت في أرجاء قصره، وقد توجّس من نُذر هذه الفعلة الشنيعة، التي ستجعل الشمس سوداء، والقمر أحمر، وستسّاقط نجوم السماء مثل ثمار التين، وسيكون الملوك مذعورين.. لقتل هذا النبيّ الشاب البريء.

إنّ هذا فيلم "سالومي" الذي يتناول قيم الوفاء بالعهد، وصراع المتعة والحبّ والخطيئة، والخوف من الغيب والمجهول، قد حقّق تأسيس منطقة فنيّة حرّة، وربما غير مسبوقة، هي جمع الأصالة مع التجديد، أو إظهار فذاذة التجريب القادر على عجن الكلاسيكي بالحديث.

والفيلم، الذي لعبت البطولة فيه المبدعة الحسناء جيسيكا شاستين، لم يستطع أن يجد لنفسه فضاءً خارج الرّكح، وظلّ مشدوداً إلى مساحة محددة هي مسرح الأحداث، وهذا يجعلني أتوقّف مليّاً أمام سيطرة "شكل" المسرحية على الفيلم، الذي ظلّ محصوراً ومحدداً على المنصّة، ولم يغادرها! ومعنى ذلك أنّ آل باتشينو، بطل الفيلم ومُخرجه، ظلّ أسير الصورة والكيفية التي جاء بها أوسكار وايلد، وهذا يبرز قوّة نصّه، مثلما أغرى المخرج أن يقع في متعة تكثيف الحكاية، فقدّمها طازجة حساسة ممتلئة، بعيداً عن الإجهاش والثرثرة والزوائد الفائضة. بمعنى أن المُخرج قد ترك المجالَ للنصّ الشعري الذي كتبه وايلد، لكي يتقدّم على حساب باقي العناصر الفنيّة للفيلم، ما يفسّر تقشّف الديكور في المشاهد، واعتماد المخرج على التعبيرات وحركات الوجوه، وعلى اللغة الجسدية للممثلين، خاصة رقصة الحجاب السبعة التي أدّتها سالومي، أكثر ما اعتمد المخرج على آليات أُخرى لإيصال حمولته.

كما أنّ التباس المسرحية بالفيلم يقودنا إلى عبقرية ومشروعية أن تسيل الأشكال الإبداعية على بعضها البعض وتفيد من هذا التزاوج والتضافر، ما يثري العمل الإبداعي ويمدّه بالتنوّع والألق.

ورأينا أن الممثلين أدّوا أدوارهم بثياب عصرية، تعود إلى القرن الواحد العشرين، وليس إلى ألفي عام من الآن وأكثر، وهذا يُذكّرني بفيلم الملك لِير، الذي أدى البطولة فيه الممثل العبقري أنطوني هوبكنز، إذ قدّم المخرج أحداث مسرحية شكسبير "الملك لِير" بعناصر حداثية من عصرنا الحالي، فالمعارك اتخذت آليات المدافع والبنادق والطائرات، فيما ظهر الممثلون بلباس معاصر، وليس بعباءات وأثواب القرون الماضية.

وهذا يفتح المجال لتناول هذه الظاهرة الجديدة، التي تسترعي الانتباه، وكأنهم "يُحدِّثون" و"يعصرنون" التاريخ، ويقدّمونه بأزياء الحاضر، فهل هذا شكل جديد أو آلية من آليات التغريب البريختي، أم أنها فنتازيا مُباحة، أم إسقاط الماضي على اللحظة المعيشة الآن، لعلنا نرى أنفسنا بإيقاع الأحداث الماضية، أو في صورة ما جرى في الأزمنة الغابرة؟!

ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الفيلم عكس واقع الحُكم قبل ألفي عام، مثلما أضاء الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيام هيرود، وقد تبيّنا تلك العلاقات بين الدول والممالك والصراعات الأبدية بينها، وشكل التحالفات والمخاوف التي تحكم المركز بالأطراف، وكان أبرز ما قيل حولها مقولة الملك إنّ من يترك روما يخسر روما!

وأشير هنا إلى أنّ الفنان المختلف آل باتشينو يبدو أنه مغرم بالأعمال الكلاسيكية، خاصة الشكسبيرية، ما جعله يؤدي دور شايلوك في فيلم "تاجر البندقية"، ويسعى لتأدية دور الملك لير في فيلم جديد، إضافة إلى إخراجه وبطولته لهذا الفيلم الرائع المطهم بالجَمال، الذي تستسلم له طوعاً وحبّاً.

 ولعل نَفَسَاً شكسبيرياً نلحظه في تضاعيف مسرحية وايلد، بدءاً بحكاية الملك الذي يقتل أخاه ويتزوج بامرأته.. وهذا يعيدنا إلى مسرحية "هاملت"، مروراً بأجواء الدراما والنكهة التراجيدية التي تنتهي بالموت، ووصولاً إلى أسلوب الجزالة والتقطير والحكمة، الذي طبع شكسبير وميّز فرادته المدهشة، وإني أرى وايلد وقد ترسّم خطى معلمه شكسبير.

ظلّ أن نشير إلى أنه بالرغم من أن هيرود كان ملك جوديا الواقعة جنوب القدس، وأظهر الفيلم أنّ يهوداً كانوا يسكنون المنطقة مع باقي الأطياف والمعتقدات، فإن الفيلم أكّد بصراحةٍ ووضوحٍ أنّ البلاد كان اسمها "فلسطين"! ما ينفي أيَّ رواية ملفّقة أُخرى تقول إنّ هذه البلاد كان لها اسم آخر غير فلسطين.

بقلم/ المتوكل طه