(1)
■ الإعلان عن قرار وقف العمل بالاتفاقيات مع دولة الاحتلال، أشاع في بعض الأوساط السياسية والفصائلية حالة من التفاؤل، دفع بها إلى الترحيب به، حتى قبل أن تدقق في محتواه ومفاصله واستهدافاته.
لكنها سرعان ما استدركت، وحاولت أن تقدم ضوابط لتنفيذ القرار، حتى لا يتحول إلى واحد من سلسلة القرارات السابقة التي رصفت على الرف، تحت طبقة كثيفة من غبار النسيان.
الخطوة التي كادت أن تكشف خلفية القرار وإستهدافاته، كانت في تشكيل لجنة عليا من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، واللجنة المركزية لفتح، ووزراء من حكومة السلطة، وبعض ممثلي الفصائل، من أجل وضع خطة وآليات لتطبيق القرار.
اجتمعت اللجنة برئاسة الرئيس محمود عباس، الذي طلب إليها إنجاز مهامها، لكنه ألزمها بالتكتم، وعدم الكشف عن مسار أعمالها. ورغم أننا في «الحرية» استحصلنا على محضر الإجماع، وأطلعنا على ما دار فيه، احترمنا التزام مندوب الجبهة الديمقراطية بعدم الكشف عما دار في الاجتماع. لكننا فوجئنا، بعد أيام، بتقرير تنشره «الغد العربي» التي يشرف عليها عزمي بشارة، تنشر تسريبات مما جرى في الاجتماع؛ ما أكد لنا أن الالتزام بعدم التسريب، وعدم الكشف عن مجريات الاجتماع، لم يكن كاملاً. عندها اتخذ رئيس التحرير قراراً بنشر بعض ما جاء في «العربي الجديد» على الصفحة الأولى من «الحرية»، ملتزماً بعدم تجاوز ما كشفت عنه الصحيفة العربية، من معلومات.
(2)
اتخذ قرار وقف العمل بالاتفاقيات يوم 25/7/2019. أي ما يقارب حوالي أربعة أسابيع. لم نسمع خلالها من اللجنة أية إشارة توضح إلى أين وصلت في أعمالها، ومتى سوف تنتهي من الدراسة، ومتى سوف تقدم نتائج أعمالها من توصيات واقتراحات إلى اللجنة التنفيذية. وخلال الأسابيع الأربعة، شهدت المناطق الفلسطينية المحتلة، كما شهدت بعض مخيمات لبنان، تطورات تكاد تكون عاصفة، لها تداعياتها الكبرى على مسار القضية الفلسطينية.
• فقد تصاعدت «عمليات الأفراد» ضد جنود الاحتلال ودورياته، وضد المستوطنين، كان مسرحها القدس، وبيت لحم، والخليل، ورام الله، وأنحاء أخرى من الضفة الفلسطينية، سقط فيها للاحتلال قتلى وجرحى، كما سقط فيها للفلسطينيين شهداء وأسرى، مازالت جثامين بعضهم محتجزة لدى سلطات الاحتلال، بمن في ذلك جثمان الطفل الشهيد ابن العيزرية أبو رومي، الذي أعدمته قوات الاحتلال في المدينة المقدسة بذريعة محاولته طعن أحد جنود الاحتلال (؟). وأوضحت تلك الهبات حالة الغليان التي تعيشها الضفة الفلسطينية في أنحائها المختلفة.
• هاجت ثيران المستوطنين بطريقة وحشية في اقتحاماتها لمسجد الأقصى، وقد اختارت صبيحة عيد الأضحى، موعداً لذلك، لتتصادم مع آلاف المصلين الذين احتشدوا دفاعاً عن مدينتهم وعن مقدساتها. وقد شهدت المدينة، كما شهدت الضفة الفلسطينية، وكل ركن في فلسطين حالة غليان، أنبأت بحدوث تطورات دراماتيكية، من شأنها أن تتحول إلى انفجارات هزات أرضية بتداعيات ارتدادية، هنا وهناك.
• واصلت قوات الاحتلال اجتياح مدن الضفة ومخيماتها، واعتقلت عشرات المواطنين، وزجت بهم في زنازين الاعتقال، تاركة لما يسمى «القضاء الإسرائيلي» أن يفبرك لهم التهم، في لعبة باتت مكشوفة، هدفها إبقاء الفلسطيني تحت هاجس الاعتقال، على وهم أن من شأن ذلك أن يضعف إرادته، وأن يوهنها، وأن يبعده عن كل مظاهر الاشتباك مع الاحتلال والاستيطان، دون أن تدرك أنها بذلك لا تطفئ نار الانتفاضة المشتعلة، بقدر ما تسهم في تأجيجها وصب الزيت عليها.
• أما في لبنان، فقد سارعت القوى الوطنية الفلسطينية إلى وأد الفتنة، التي حاولت أصابع العبث في المخيمات أن تبعث بها حية، لضرب التحرك الجماهيري ضد قرارات وسياسات وزارة العمل في الحكومة اللبنانية في الصميم. إذ سرعان ما تكاتفت القوى على اختلاف اتجاهاتها، وعزلت أصحاب الفتنة، وأعادت لمخيم عين الحلوة هدوءه، وأعادت الحراك الجماهيري إلى مساره الحقيقي. وتلك سابقة شديدة الأهمية، تحسب للقوى الفلسطينية في المخيم على اختلاف اتجاهاتها، بما هي تعبير عن إحساس عميق بالمسؤولية الوطنية نحو الشعب، ونحو قضاياه، وأمنه، واستقراره، وعيشه بكرامة.
كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار، بعد هذا كله، إلى القيادة الفلسطينية، ممثلة بشكل خاص باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي ما زال القانون والنظام يعترف بها «القيادة اليومية» للشعب الفلسطيني.
(3)
■ كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار نحو اللجنة التنفيذية، وقد جرى التمهيد لاجتماعها، كالعادة، في تصريحات للأعضاء أنفسهم، في اللجنة التنفيذية، الذين يعدوننا، في كل مرة أن الاجتماع سيكون استثنائياً ومهماً، وأنه ستصدر عنه سلسلة من القرارات المهمة، التي ستشكل رداً على سياسات الاحتلال، وتتفاعل مع التطورات المتلاحقة.
الاجتماع، كان، ككل الاجتماعات، «تشاورياً»، وهي الصيغة المبتدعة التي تعني أن اللجنة تجتمع بغياب رئيسها، متروك لأعضائها أن يناقشوا ما يريدون، وأن يتشاوروا، كما يريدون، وأن «يقترحوا» [فقط أن يقترحوا] ما شاء لهم أن يقترحوه، ثم يتولى أمين سر اللجنة، صائب عريقات، منفرداً، عرض «الاقتراحات» على رئيس اللجنة، رئيس السلطة محمود عباس، الذين له وحده، أن يقرر ما هو صالح من الاقتراحات، وأن يرفض ما لا يراه مناسباً. أي أن اللجنة التنفيذية تحولت، بكامل أعضائها، إلى مجرد مستشارين للرئيس، ولعل هذا ما شجعه على تسريح مستشاريه الآخرين، والذين تمّ الكشف عن ثمانية منهم حتى الآن.
وكما أوضحت لنا بعض المصادر، فإن الحالة الفلسطينية كانت في واد، واللجنة التنفيذية، في اجتماعها «التشاوري»، كانت في وادٍ آخر.
إذ توقفت، في حالة ذهول، وأمام اقتراح مقدم من «الجهات الأعلى»، يدعو إلى إلغاء الدعوة إلى انتخاب مجلس تشريعي، حتى إشعار آخر، وإحالة مهام «التشريعي» إلى المجلس المركزي في م.ت.ف.
خلفية الاقتراح كانت واضحة. وانتهاك الاقتراح للنظام كان هو الآخر شديد الوضوح.
فالمرسوم الرئاسي بحل المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، استند إلى ما سمي «فتوى» من المحكمة الدستورية. وهو ما أثار نقاشات صاخبة آنذاك، طالت أمرين: الأول دستورية المحكمة نفسها، واعتبار تشكيلها مخالفاً للقانون. والثاني صلاحية المحكمة الدستورية بتقديم مثل هذه الفتوى.
ومع ذلك صدر المرسوم، وفيه التزام بالفتوى التي دعت إلى انتخاب مجلس تشريعي جديد، خلال ستة أشهر من تاريخه.
الاقتراح المقدم إلى «التنفيذية» تجاهل وتجاوز، بل وانتهك الجزء الثاني من الفتوى. فضلاً عن ذلك يشكل الاقتراح انتهاكا لبيان 22/11/2017، في القاهرة الذي أثنى على بيان 12/10/2017 بين فتح وحماس، ودعا إلى اجتماع للقيادة الفلسطينية العليا، وتنظيم انتخابات شاملة، رئاسية وتشريعية، للمجلس التشريعي والوطني. خلال فترة زمنية محددة.
فضلاً عن هذا، فإن الاقتراح من شانه أن يغلق كل الأبواب أمام إنهاء الانقسام، لأنه يلغي المؤسسة التي يمكن من خلالها إيجاد صيغة ديمقراطية لهذه القضية، عبر إعادة انتخاب مجلس تشريعي جديد، بنظام التمثيل النسبي، تنشأ عنه حكومة تتولى إنهاء كل مظاهر الانقسام الإداري والمالي والمؤسساتي وغيره، إلى جانب انتخاب مجلس وطني جديد، يعزز موقع م.ت.ف، وبرنامجها السياسي، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وكان من الطبيعي أن يسقط الاقتراح وأن يتم سحبه من التداول، دون أن يعني ذلك أنه مازال مطروحاً بشكل وبآخر، على جدول الأعمال، تساهم حركتا فتح وحماس، كل من طرفه، في تأجيج الخلافات وزرع المزيد من العوائق أمام إنهاء الانقسام.
(4)
سوى ذلك، لم تبحث اللجنة التنفيذية ما جرى، ويستحق الذكر. ومع ذلك صدر عنها بيان حوى كل شيء، من عبارات «ندين ونستنكر وندعو ونطالب ونشجب ونحذر، و«نؤكد» وكل مفردات قاموس البيانات المعهودة من قبل اللجنة التنفيذية دون أن يتضمن أي قرار ذي صلة بالأحداث السياسية والأمنية الكبرى، ما عدا «دعوة» من اللجنة التنفيذية، إلى «لجنة دراسة قرار وقف العمل بالاتفاقيات» للإسراع في إنجاز مهامها، دون أن ترسم لها سقفاً زمنياً.
لكن اللافت في هذا السياق، أنه وقبل ساعات على انعقاد اللجنة التنفيذية، بغياب رئيسها، استقبل رئيس السلطة الفلسطينية في مكتبه في رام الله، وفد إسرائيلياً من حزب إيهود باراك، وعلى رأسه نوعمان روثمان، حفيدة رئيس حكومة إسرائيل الأسبق، استحق رابين، الذي كان شريكاً في اتفاق أوسلو، إلى جانب وزير خارجيته شمعون بيريس.
ما تم الكشف عنه إعلامياً عن اللقاء الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي المفاجئ، أن الرئيس عباس شكل كيف أن نتنياهو تجاهل العديد من الدعوات للقاء مشترك، بين الرجلين، يفتح الباب لاستئناف المفاوضات الثنائية. كما أكد البيان الصحفي الذي صدر عن ديوان رئاسة السلطة أن الرئيس عباس أكد للوفد الإسرائيلي تمسكه بالمفاوضات خياراً للحل، وأن يده مازالت ممدودة للسلام مع إسرائيل. وهي اللازمة السياسية التي يؤكدها كلما تطرق إلى العلاقة مع دولة الاحتلال.
مثل هذا التصريح من شأنه أن يضعنا أمام سلسلة من الأسئلة الكبرى. من أهمها هل يتوافق هذا الموقف (أي الاستعداد لاستئناف المفاوضات مع نتنياهو) مع قرارات المجلسين المركزي والوطني، خاصة طي صفحة أوسلو، والتحرر من التزاماته واستحقاقاته، ورفض المفاوضات الثنائية، ورفض الرعاية الأميركية، والتمسك بدلاً من ذلك بمؤتمر دولي تدعو له الأمم المتحدة، والأعضاء الخمس في مجلس الأمن، وتحت رعايتها، وبموجب قراراتها، وبسقف زمني ملزم، وبقرارات ملزمة، تكفل للشعب الفلسطيني حقه في الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67 (عملاً بقرار الجمعية العام 19/67) وحل قضية اللاجئين بموجب القرار 194 الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948؟
إذا كان هذا يتناقض، فما هي انشغالات لجنة، وقف العمل بالاتفاقات مع إسرائيل؟ وإذا كان لا يتناقض فبأي اتجاه تسير هذه اللجنة ؟
أما على الصعيد الإسرائيلي الداخلي، خاصة في ظل معركة الانتخابات المفتوحة يمكن لنا أن نسأل: ماذا يحمل هذا اللقاء من رسائل للناخب العربي الفلسطيني في إسرائيل؟ هل هو تأييد لحزب باراك خاصة وأن باراك حاول أن يلتف على تاريخه بتقديم اعتذار شفوي كاذب عن جريمته ضد الفلسطينيين عام 2000، خرجوا تأييداً للانتفاضة، رد عليه أيمن عودة داعياً إلى تحويل باراك إلى المحكمة، باعتباره مجرماً، على جرائم لا يكفي أن يعتذر بشأنها؟
في كل الأحوال، بات واضحاً أن ما تقوم به القيادة الرسمية من تحركات عشوائية، وتعلن عنه من مواقف متناقضة، ليس إلا تعبيراً عن أزمة سياسية عميقة. أزمة من وصل بمسيرة نتنياهو إلى خاتمتها المأساوية. وأزمة من بات عاجزاً عن التفلت من استحقاقات والتزامات أوسلو. وأزمة ن يعطل قرارات الإجماع الوطني، وأزمة من بات يتعرض لضغوط قاعدية واسعة للتحرك إلى الأمام.
أزمة من بات أسيراً للباب الدوار، في ظل حالة من الانحباس السياسي.
بقلم/ معتصم حمادة