في المقال السابق (حماس ومراحل الانفكاك عن فتاوى السلفية) استعرضت مرحلة بداية وبواكير انفكاك الاختيارات الفقهية لحركة حماس عن السلفية، مع بقاء السلفية غالبة على بعض الأمور. ولكن ما أود التأكيد عليه أن الأمور لم تكن خطا مستقيما وحكما عاما؛ فقد تجد في غزة تشددا في أمور لا تشدد فيها في نابلس، وقد تجد في الخليل تشددا في أمور لا تجدها في جنين وهكذا، وبالطبع هذا انعكس على تجمعات يعيش فيها عناصر الحركة وأنصارهم سويا طوعا أو كرها مثل سكنات الكتلة الإسلامية (ذراع حماس الطلابي) أو السجون الصهيونية... فمن يتسلم الإدارة والتوجيه والوعظ يفرض رؤيته واختياراته، مع بقاء طابع عام يصبغ الجميع ولا خلاف حوله.
التثقيف الشرعي
حرصت حماس لفترة طويلة (حاليا ثمة تراجع ملحوظ في هذا الأمر) على تثقيف عناصرها دينيا وشرعيا، ولعل هذه ميزة بزّت بها نظيراتها من الحركات الإسلامية الأخرى؛ فألزمت جميع عناصرها بحد أدنى من هذه الثقافة والمعرفة في أمور الدين أيا كان مجال عملهم أو تخصصهم الأكاديمي، أو حتى من منعتهم ظروفهم من إكمال تعليمهم.
فقد كان هناك إلزام بحفظ سور أو أجزاء من القرآن الكريم، مع معرفة عامة بتفسيرها، وحفظ وقراءة وتدارس أحاديث نبوية شريفة من رياض الصالحين أو الأربعين النووية، وأيضا مع شرحها، وكان كتاب (فقه السنة) للسيد سابق من المراجع المهمة لتعلم أمور الدين والأحكام والفرائض والسنن. وتدريجيا دخلت فتاوى واختيارات ابن تيمية إلى مربع التثقيف الشرعي، وصار وعاظ الحركة يستشهدون بها، ناهيك عن مطبوعات ومنشورات تورد بعضا منها، حتى طغت بمرور الوقت على ما يخالفها، وترميز ابن تيمية وتقديمه كأنموذج مثالي للعالم المجاهد الذي لا تلين له قناة في وجه الحكام الظلمة وغير ذلك.
وبدأ التعرف على د. يوسف القرضاوي من خلال كتابه المنشور قبل حوالي 60 عاما (الحلال والحرام في الإسلام) من قبل أجيال الحركة الجديدة، ووقتها لم تكن هناك فضائيات ولا إنترنت ولم تكن محطات الإذاعة والتلفزة التي تُلتقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة تمكنهم من معرفة حتى هيئة الشيخ وصورته، فهم فقط يعرفونها من صورة شخصية قديمة على غلاف الكتاب. وكان بعضهم يتوسع فيتدارس علوم الحديث والفقه تفصيليا حسب الظروف وقدرة وعلم المشرف على هذا الأمر.. والإمكانيات لهذا الأمر في السجون أكثر منها خارجها، بسبب الوقت ووجود مختصين وغير ذلك، ولكن من لا يدخل السجن فالحد الأدنى المذكور أعلاه يتعلمه ويدرسه.
واقع المقاومة يفرض معادلة جديدة
الآن الواقع النضالي الفلسطيني بعد انتفاضة الحجارة وما حملته من تطورات كثيرة وجذرية تتطلب تأصيلا شرعيا خاصا؛ فمثلا موضوع العملاء ملف شائك ولا يمكن انتظار فتوى من عالم خارج فلسطين مهما كان حجم بضاعته من العلم، ناهيك أننا نتحدث عن زمن لم يكن فيه إنترنت ولا سهولة في التواصل. ومن المعروف أن الشيخ أحمد ياسين-رحمه الله- قد حكم عليه الاحتلال بالسجن على قضية تتعلق بإصداره فتوى بتصفية بعض العملاء؛ والسؤال المطروح: هل الشيخ أحمد ياسين فقيه مؤهل لإصدار مثل هذه الفتوى؟!
حقيقة لا يطرح هذا السؤال أي فلسطيني يعرف حقيقة الأوضاع؛ فالأمر حساس جدا، وللظرف الأمني حكمه؛ فمن سيجرؤ من المشايخ التقليديين على الفتوى بجواز قتل أو عدم قتل عميل ما؟ بل حتى في القوانين الإسرائيلية الجائرة سيحاسب ولو قال (لا) لعدم إخباره الأمن الإسرائيلي بأنه سئل عن ذلك، ولذا كان الشيخ أحمد ياسين ومن بعده هيئة شرعية مغلقة وسرية تتولى هذا الأمر. كما أن هناك قضايا أفرزتها المقاومة؛ فمثلا هل يجوز قتل الإسرائيلي خارج الخدمة العسكرية؟ علما بأن المجتمع الإسرائيلي كله يتحول إلى جنود يحملون السلاح ذكورا وإناثا... هذه مسألة قد لا يدركها فقيه يعيش بعيدا عن الواقع، خاصة في ذلك الزمن الذي لم تكن فيه الطفرة الإعلامية قد بدأت.
وماذا عن الأسرى والمعتقلين، والأحكام الشرعية الخاصة بهم، والتي حتى قد تختلف من سجن إلى سجن آخر، بحيث أنه قد حدث وأن أفتى بعض المشايخ الفلسطينيين بفتاوى غيروها بعدما عاشوا تجربة السجن... هل يصلي الأسرى صلاة الجمعة (تسمح سلطات السجون بها) ومتى يمكنهم جمع صلاتين وكيفية التعامل مع معطيات وفق ظرف الأسير وطريقة الوضوء أو التيمم أو الاغتسال وغير ذلك، وكيف يتم التعامل مع العملاء والجواسيس من الأسرى الذين يكتشف أمرهم؟ وكيفية استجوابهم وما طريقة عقابهم الأمثل... كل هذا كان يجبر على (فلسطنة) التفقه، لأن من هو بعيد عن الواقع لا يستطيع الإفتاء إلا وفق ما يقدم له من معطيات.
رابطة علماء فلسطين
جرّاء التطورات المتلاحقة تم إنشاء (رابطة علماء فلسطين) والتي حاليا يقتصر نشاطها على قطاع غزة، بسبب ظروف الانقسام الفلسطيني، وكان رئيسها الأول هو الشيخ حامد البيتاوي (توفي عام 2012)، وهو من قدامى الإخوان المسلمين في فلسطين، وأحد مبعدي مرج الزهور، وكان قاضيا شرعيا، وخطيبا مشهورا في المسجد الأقصى وواعظا ورجل إصلاح معروف، وانتخب لاحقا عن الكتلة البرلمانية لحركة حماس في انتخابات 2006. وكان نائبه هو الشيخ جمال سليم، الذي برز كأحد القادة والناطقين باسم الحركة في الضفة الغربية في منتصف التسعينيات، وهو أيضا مبعد سابق إلى مرج الزهور، وقد استشهد صيف سنة 2001 في قصف استهدف مكتبا للحركة في مدينة نابلس، وكان قد أعد أطروحة ماجستير قبل استشهاده بعنوان (أحكام الشهيد في الإسلام)، وهذه إشارة على أولويات فقهية خلقها الواقع الفلسطيني الذي صار الشهداء من معالمه الدائمة.
وقد أكدت الرابطة فور تأسيسها عام 1992 أنها ليست حزبية، وعموما لم يتعامل معها الجمهور من منطلق أنها تابعة لحماس فقط نظرا للمكانة الاعتبارية لرموزها والقائمين عليها، وكون الناس تستفتيهم في أمور الدين، ودورهم -والذي مارسته الرابطة- في جهود إصلاح ذات البين. لم تخلو الرابطة من شخصيات سلفية، ولكن بنيتها العامة حجمت إلى حد ما تغوّل الفكر السلفي، بحيث يكون رأيا من الآراء لا الرأي الحاكم المقرر. ولكن الرابطة لم تتمكن من الهيمنة الفعلية على الاختيارات الفقهية للحركة، لأنها لم تنشغل بالقدر الكافي في هذا الموضوع، وظلت تمارس الوعظ العام، إضافة إلى انغماسها في إبداء مواقف سياسية عبر الفتوى خاصة مع بدء وتقدم عملية التسوية.
وسبب آخر هو أن حماس شعرت بضرورة وجود نوع من الشرعية والغطاء الفقهي لها من شخصيات وأجسام علمية من خارج فلسطين، لأسباب مختلفة، ولأن ثمة عادة أو لربما طبيعة بشرية تصيب الناس، مفادها تقبل ما هو من الخارج، والإعجاب به، وفق المثل (زمار الحيّ لا يطرب) ولأن أشكال المقاومة قد دخل عليها نوع جديد تماما وهو العمليات الاستشهادية.. في المقال القادم إن شاء الله سأناقش هذه المسألة وغيرها.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني