اثناء اقامتي في غزة تعرفت على تيارات مختلفة وافكار مختلفة وكأنك في غابة تحكمها تناقضات فكرية واتجاهات وتوجهات مختلفة ، ولا بأس في ذلك ما دامت العناوين واضحة والتوجهات واضحة وتصب في خانة وهدف مقاومة الاحتلال وتكريس مجتمع مقاوم يحافظ على الهوية وعلى الحقوق ، ولكن هذه المناخات المختلفة والتي يحمل بعضها ارهاصات فكرية ، اصطدمت بواقع اخر ، واقع الانقسام والحصار وما خلفه من عقد وازمات استراتيجية وتحدي للمجتمع الغزي الوطني بقواه الوطنية والاسلامية ، وحاجيات المجتمع للضروريات والاساسيات للبناء الوطني وفي مقدمتها حياة الفرد والاسرة المعيشية والحياتية وهي الشق الاخر لصمود مقاومة الشعب وتحدد قدراته على الاستمرارية ان لا تكون المقاومة فكرا انتحاريا بل نموذجا متكامل لحياة شعب يقاتل من اجل الحياة والبقاء وانتزاع حقوقه التي اصبح يتنكر لها الكثيرون وتعمل قوى اخرى لتكريس واقع هلامي لهذا الشعب الذي ناضل وجاهد ويناضل لاكثر من مئة عام .
هناك عوامل مختلفة ومتعددة لظهور الفكر الارهابي والانتحاري واهمها الغزو الثقافي المرتبط بتصيد نقاط الضعف في المجتمعات واللعب عبى حلقاته وفي داخل حلقاته وهو فكر موجه من قوى اخرى تغذيه في داخل المجتمع الواحد ودراسة لبناته ومكونه الاجتماعي والطبقي والديني والمذهبي ، وباعترافات الرئيس الامريكي ترامب بان السي اي ايه احد الاعبين والمخططين لاعادة ترتيب المنطقة كما يدعون على اسس مذهبية وقوميات ومذاهب تجسدت بظهور دولة العراق الاسلامية والقاعدة في افغانستان وداعش في العراق والشام وشمال افريقيا واليمن ودول افريقية اخرى يترتبط واقعها ومؤثرها على منطقة الشرق الاوسط ، اما البعد الاخر فهو مكون وجود الحركة الصهيونية ودولتها على عمق منطقة الشرق الاوسط ومركزها والذي يتناقض وجودها مع دول محيطة ذات سيادة تمتلك قرارها واقتصادها وقوتها .
ومن خلال التعريف البسيط لنظرية الامن والاقتصاد التي تجعل العالم في صراع مع ذاته عبر التاريخ فان الاقتصاد والاستهلاك والانتاج هو من يحرك القوى ويضع متجهات الامن وتوجهاته الامنية والعسكرية وهو ما يحدث الان من معركة بين امريكا والصين او بريطانيا والاتحاد الاوروبي ، اما المعركة ذات الوجه الامني الصارخ بقواه العسكرية التي تحدث في منطقة الشرق الاوسط وتاخذ اشكال مختلفة في كل دول تلك المنطقة بلا استثناء حيث اصبحت القضية الفلسطينية لا تشكل الا حجما صغيرا في مكون التناقضات الكبرى في المنطقة وماولة اخراجها من تعريفها بان الحرب تبدأ من فلسطين والسلام ايضا ، والخروج للاطراف ووضع حلول لازماتها للقضاء على القلب وتوقف عضلاته وضخه وقدراته لمواجهة اي تحدي يفرض على المنطقة التي قد تحركة القضية الفلسطينية والقدس .
غزة هي تلك البقعة من الارض الصغيرة التي يقطنها 2 مليون فلسطيني وبما تحمل في مكونها من تجاهات مختلفة ثقافية وايديولوجية وغالبيتها بشكل او باخر وان حملت تناقضات فهي موحدة الهدف تجاه البحث عن مخرج لتحقيق الغاية الوطنية والحقوق والمواطنة وهي في تناقض كبير مع ما يحيط بها من متغيرات جعلت مواطنيها يتعرضون لاقصى واقسى انواع العقوبات التي اثرت تأثيرا مباشرا على بناء الاسرة في المجتمع الغزي وفقر مدقع يصل الى 65% من المجتمع الغزي وبطالة تصل الى 180 الف حالة بطالة وجامعات تخرج بالالاف ومعاهد عليا ومتوسطة وفي حالة عجز تنموي ، ويرافق ذلك ضخ مساعدات وقتية لاطالة الازمة واطالة الشد والجذب والتطويع والتي اصبحت بؤرتها "" رغيف الخبز "".
في غزة كنت اراقب التحول الفكري والسلوكي لدى الشباب وبالتأكيد هذه التحولات مرتبطة بالحياة الاقتصادية والحاجة ، فعندما تجد كنموذجا اسرة مكونة من 13 فرد منهم ثلاث زوجات ام واب وازواج وابنء يعيشون في منزل في مخيم مساحتى لا تتجاوز 50 متر منهم من قطع راتبه ومنهم خريج لا يجد عملا ، تابعت التحولات في افراد تلك الاسرة بعد ان كان الاعتدال يسود فكرهم ومنهم من كان يدخن تحول الى حالة من التطرف الشديد والتكفير لكل الظواهر ، واخرين انحرفوا بشكل معاكس الى التعاطي مع الحبوب المخدرة وهم خريجي جامعة ومعاهد واصبحوا يحتالون على الغير بذرائع مختلفة للحصول على المال .
في عام 2017م التقيت مع احد القيادات المعروفة بتوجهاتها الوطنية وسألني سؤال مباشر ؟ كيف حال الشباب في غزة ، شرحت له ما شاهدت ، تذكرت وانا اسرد الحال تلك المشاهد الي رأيتها فسالت دموعي وبكيت . وربما نظر لي نظرة استغراب لوصولي لهذه الحالة الشعورية .. وبرغم ما يؤخذ عني من قوة ارادة وجلد وتحليل للظواهر ، ولكن كان عمق المشهد وحالة شباب غزة واسرها قد تفلق دموعا الحجر ، هذا الشعب المقاوم الذي يعيش بلا راتب او ربع راتب او نصف راتب .
ما حدث امس كان له مقدمات في تفجيرات بعبواب محلية الصنع في السنوات الماضية ، ولكن ان تتطور تلك الظاهرة لعمل انتحاري تكفيري ايضا على نموذج ما يحدث في دول الاقليم ، فاعتقد هذا النموذج لا تتحمله غزة وبهذه الوحشية التي تتناقض مع اي مفهوم ديني او انساني ولرجال شرطة همهم خدمة امن المواطن ، يجب ياسادة دراسة تلك الظاهرة واصولها ومسبباتها ، وبرغم حالة الوحدة الوطنية التي ادانت هذا العمل الارهابي وادانة كل القوى الوطنية ، فهذا لا يكفي .. نعم للاجراءات الامنية العاجلة ، ولكن يجب اعادة نموذج الصياغة للثقافة الوطنية في القطاع والعمل على الحد من تناقضاتها ، ومحاربة مظاهر الفساد الذي يعتبر احد ادوات التحريض لتعبئة الغير والتوجه نحو التطرف ، وتصيد الغير لاستغلال الازمات المعيشية والاقتصادية ، غزة تحتاج الان الى فكر وسلوك غير تقليدي لادارة ازماتها ووضع حلول لها ، فاسرائيل تشارك وتنتظر وقوى اخرى ايضا ، كي تحدث الفوضى وتنتهي مقولة المقاومة تحت مفهوم جديد محاربة الارهاب مما يفتح تبويبات جديدة وتنازلات جديدة لا تخدم الا ما تصنعه الدوائر الاخرى والمستهدفة حقوقنا الوطنية والتاريخية وحياة هذا الشعب وعلى هذه الارض.ومضاف للارهاب الصهيوني.
بقلم/ سميح خلف