طالعنا إميل حبيبيبحكاية مسرحية ، ليبرهن أنه لم يسقط حينها، حيث قيل " القصاصان الوحيدان على الساحة الفلسطينية هما غسان كنفاني وإميل حبيبي، ولقد سقط الأول شهيداً، وسقط الثاني لأنه لم يعط لنا بعد المتشائل جديداً ، ونقصد بالجديد عملاً مسرحياً .
(ولكع بن لكع) الحكاية المسرحية هذه، هل استطاعت أن تحافظ على النوعية نفسها من التمايز ، والتي عوّدنا عليها كاتبنا هذا ؟ وهل استطاعت هذه الحكاية المسرحية أن تفي "بالدور"المنوط بها شكلا ومضمونا ؟ وهل اقتصر إميل حبيبي في حكايته المسرحية على الساحة الفلسطينية أم أنها شملت ساحات أخرى ؟
كل ذلك سنحاول أن نبينه .. مرتكزين في ذلك على (النص نفسه) قبل كل شيء . وقبل ذلك سنحاول التعريف ب (لكع بن لكع) .
لكع بن لكع : حكاية مسرحية للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، وهي ثالث أعماله الأدبية حيث أصدر قبلها السداسية والمتشائل ولكع بن لكع عنوان هذه الحكاية المسرحية . ومعنى اللكع في المعجم (الوسخ والأحمق والعبد واللئيم) . ولقد استخدمها الحجّاج في إحدى خطبه حيث قال " يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، ومساوي الأخلاق ، وبني اللكيعة .. " (1) انظر جمهرة خطب العرب . خطبة رقم 277 . وكان يعني باللكيعة اللئيمة . كما استخدمها الحسن البصري في إحدى خطبه فقال " .. وتمنع في حق الله درهماً ! ستعلم يا لكع .. " (2) انظر المصدر السابق . خطبة رقم 460 . وكان يعني بلكع اللئيم الأحمق . ونستخدمها نحن في أحاديثنا اليومية (لكع) ونريد بها الأحمق، ثقيل الظل . ولقد أخذ إميل حبيبي كلمة (لكع) من حديث شريف أورده في بداية حكايته المسرحية " لا تقوم الساعة حتى يلي أمور الناس لكع بن لكع " (3) بحثتُ عن هذا الحديث في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري تحقيق ناصر الدين الألباني، منشورات المكتب الإسلامي ط3 ، سنة 1977 ، فلم أجده .
وهو رمز يعني به الأنظمة العربية الرجعية ، التي تحكم في هذا زمن الكاتب ، أي نستطيع أن نؤكد على أن إميل حبيبي في حكايته المسرحية هذه قد خرج إلى الساحة العربية ولم يقتصر على الساحة الفلسطينية .
والحكاية المسرحية هذه موزّعة على ثلاث جلسات ( فصول )، وكل جلسة تنقسم إلى عدة أقسام (مشاهد).
وإذا بدأنا بمحاولة تقويم لهذا العمل ، فإننا نقول إن هذه الحكاية المسرحية، تجربة جديدة، ومغامرة أخرى لإميل حبيبي . لقد بدأت هذه (المغامرة) عنده منذ " السداسية " بالرغم من أنه حافظ فيها على كتير من قواعد الفن القصصي . وفي المتشائل تحوّل كاتبنا إلى الرواية وظل مشدوداً إلى مواصفاتها التقليدية بخيوط كثيرة .. ولكن هنا في (لكع بن لكع) تجرّأ على تحطيم التقليدية الأدبية، وعلى لطم الناقد ومقاييسه الثابتة .
والحكاية المسرحية تجمع من تحديد نوعها بين شكلين فنّيين :
الأول شكل الحكاية وهي النوع الذي يسبق القصة الفنية الحديثة تاريخاً . وقد عرفه تراثنا العربي من قبل .. ومن هنا يبدأ تعّلق الأديب بالتراث ومحاولة استيراده والإفادة منه . والشكل الثاني هو البناء المسرحي ، وأهم الأدوات الفنية التي يأخذها منه هي الحوار والشخصيات والتشخيص . وكما رأينا فإن إميل حبيبي وزّع عمله في هيكله العام على ثلاث جلسات (فصول) .. وكل جلسةتنقسم إلى عدة أقسام (مشاهد) .. اذاً الهيكل العام فيه ملامح هيكل المسرحية . وهناك أدوات فنية تراثية استخدمها كاتبنا، وأهمها صندوق العجب، والشخصيات المستعارة من التراث الشعبي الأسطوري كالست بدور وست الحسن، وسندباد وشهرزاد . (1) انظر سلسة كتب عربية ، مرجعات نقدية ، العدد الثالث ، تصدرها العربية للنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، ص 46-48 .
من هنا نقول إنها تجربة جديدة قام بها إميل حبيبي .. فشكلها الفني متميز حيث جمع بين التراث والمعاصرة، وهو واع لبناء المسرحية المعاصرة . ولكنه تعمّد هذا الشكل ( القديم الجديد ) حتى يستطيع أن ينقل آراءه وأفكاره ومقولاته، فالقضية التي يكتب عنها مميزة بأحداثها وأبعادها وبالتالي فهي بحاجة إلى شكل فني مميز يستطيع أن يحمل معاني هذه الأحداث والأبعاد. كما جمع عدة معان وأحداث في القسم الواحد، علاوة على تفرّد كل جلسة بأحداثها ، الأمر الذي دعا إلى النقص في التسلسل الدرامي فيها، وبالرغم من أنها تتحد عضوياً من ناحية وحدة الطرح والفهم السياسي . والذي زاد في (تميّز) هذه الحكاية المسرحية استخدام كاتبنا المكثف للتراث الشعبي ولأدواته . أمّا الرمز فإن كل شخصية ترمز لشيء - كما سنرى - . هذه الرمزية أعطت للحكاية المسرحية عمقاً فنياً أكد على تميّزها، ولولا بعض (المباشرة) و(التقريرية) في مقاطع من الحوار لقلنا إنها تكاد تخلو من المباشرة ، لأن كاتبنا لم يكن مباشراً أبداً في أدواته الفنية وبالذات الشخصيات .. هذه المباشرة ليست ظاهرة انحطاط أدبي "لأن الأدب الثوري المقاتل يستخدم سلاح المباشرة تحت وطأة الآلام أحيانا، إنه المريض الذي تجري له عملية جراحية وبلا مخدر، فكيف نريده ألاّ يصرخ ويشتم ويولول بمباشرة جارحة" (2) المصدر السابق ص53. وإميل حبيبي في توثيقه للأحداث وسردها لنا - وخصوصاً مذبحة كفر قاسم - وفي استعانته بالتاريخ وبالأحداث، زاد في تميّز حكايته المسرحية، وأكد لنا على أنها مغامرة جديدة، وفتح جديد في كتابة المسرحية . وإميل حبيبي الذي عوّدنا على هذه المغامرات ينجح دائماً - بغض النظر عن حجم هذا النجاح -وحسبه أنه حاول أن يعطي لنا مسرحاً جديداً له تميزه وله لونه الشعبي والذي من شأنه أن يعمق عروبة ووطنية هذا الشعب الذي لا يزال مستمراً في رحلة العذاب والأمل . وإذا كان لكل بداية عثرات بالضرورة، فإن لكل بداية حسنات بالضرورة وبالفعل .
على أية حال، هذه الحكاية المسرحية استطاع شكلها الفني أن يحمل مضمونها وقدرت أدواتها أن تفي بدورها .. أما المضمون فلقد نقل إلينا ما أراده الكاتب، ولهذا فإنه ليس صعباً أن نفهم أفكارها، أما المضون استطاع أن ينقل الينا ما أراد الكاتب أن ينقله من أفكار ومقولات ودلالات .
والآن سنحاول أن نلقي الأضواء على الأفكار والمقولات والشخصيات والدلالات التي تكتنز بها الحكاية المسرحية .
كما رأينا في البداية المهرّج يدفع بعربة عليها صندوق العجب . إن المهرج يمثل الروائي أو ضمير الشعب، أما صندوق العجب فهو الوسيلة التي من خلالها سيرى المتفرجون (الشعب) الأحداث السياسية والواقع الحالي . ومنذ البداية نرى المهرج ينقد الواقع العربي " قم تفرج يا سلام على شيء كان وما كان / شوف بو زيد الهلالي قاعد يبعزق بأموالي / شوف ذياب بن غانم، غانم أيش وهو نايم " . من هنا نرى نقده للأنظمة العربية الثرية التي توزع أموال النفط وشعبها جائع لا يمتلك شيء. كما ينقد واقع التخاذل والصمت، الذي تقفه الأنظمة العربية .. أنها نائمة، ولهذا فإنها لن تحقق أي شعارٍ ترفعه . وكاتبنا يستخدم الشخصيات التراثية كشخصية أبي زيد وذياب .. هذه الشخصيات عرفها أجدادنا في الماضي .. واليوم ترى الشخصيات نفسها ولكن بأثواب وظلال جديدة، وإميل حبيبي يتلاعب بالألفاظ ليرمز إلى انتماء الشعب الفلسطيني إلى أرضه . ف (بدور ) المرأة الخريفية إنمّا هي رمز للوطن الفلسطيني ومن أحرف إسمها يورد الأسماء ( بدر وبدران وبدرية وبيدر ) هذه الأسماء نابعة من الوطن وهي امتداد له .. لكنها (هذه الأسماء ) كما رأينا في حوار بدور مع المهرج قد تقاذفها المنون من المحيط إلى الخليج، أي أن الشعب الفلسطيني قد شرّد من أرضه، وابتلعته دول اللجوء العربية. أمّا بدر الذي يمثل الثائر الفلسطيني وأمل التحرير والخلاص، فإنه ابن بدور التي تبحث عنه ليخلّصها ويخلص أولادها .
ويستمر إميل حبيبي (المهرج) في عرض رسوماته (الأحداث) عبر صندوقه (الوسيلة الأعلامية) فنراه يقدّم فيلماً وثائقياً عن مذبحة كفر قاسم - إنه يعرّي آلة الدمار الإسرائيلية التي تطحن العرب في فلسطين، كما أنه يسطرّ لنا أروع آيات التضحية الفلسطينية من خلال رقصة دموية صاخبة، تموت الصبايا ويموت الشباب وتبقى الأرض .. نابضة بالحياة مخضّبة بدماء بنيها .
وإميل حبيبي يستهجن ويمجّ (الصبر) الذي امتدت حدوده لتجعل كل عربي (صابراً) .. وهو بذلك يريد أن يحرّكنا، لا أن نخلد في الصمت ويقتلنا الصبر.ويستمر المهرّج في حواره مع بدور لنكتشف أن القتل كان لأبناء بدور في كل الوطن العربي .. إنهم رقصوا رقصات دموية كرقصة كفر قاسم - " ومثل هذه الرقصة / رقصنا في كل / مكان / فحيث نكون علينا أن نرقص " وهكذا كان وضع الشعب الفلسطيني في الدول العربية وما زال .. يُذبَحويُقتَل . ويستطرد المهرج وبدور في حوارهما ليعرّيا الأنظمة العربية التي تطرح الشعارات الرناّنة دون أن تحرك ساكناً . فالأنظمة العربية تقول ( أمة عربيةواحدة ذات رسالة خالدة ) . أما في الحقيقة فأنها أنظمة جاهلة، دموية، استغلالية، تقمع وتشنق...دم دا دم دم واحدة / ذات رسالة خالدة / جهل جهلجل واحدة / ذات رسالة خالدة / بلع بلعلع واحدة / ذات رسالة خالدة / خرس خرسرس واحدة / ذات رسالة خالدة / حبس حبسبسواحدة / ذات رسالة خالدة / شنق شنقنق واحدة / ذات رسالة واحدة " . إنرسالة هذه الأنظمة أن تشنق وتقمع وتستغل فقط .. ونرى من خلال حوارهما أيضاً النقد العنيف لأساليب إسرائيل اللإنسانية في لبنان " لا تقتل الأولاد دون السادسة عشرة / ثم تلصق بقنبلة تهوي على / صور وصيدا " .
وينتقل بنا إميل حبيبي بعد ذلك إلى مدينة الناصرة ليتحدث عن هندسة أبنيتها، وعن ارتباطهابالقبائل العربية التي سكنت مرج بن عامر، وينوّه إلى الناصرة العليا (مستوطنة إسرائيلية بنتها إسرائيل شمال شرق الناصرة على قمة جبل) وكأني بإميل حبيبي يريد أن يشير إلى المخططات الإسرائيلية التي صادرت الأرض وغيّرت أسماءها فمستوطنة الناصرة أصبح اسمها (نتصرات عيليت) وقد بنوها اليهود شأنها شأن كل المستوطنات لقمع ومحاصرة القرى والمدن العربية المجاورة لها .
ونسمع إميل حبيبي يحدّثنا عن أبي ليلى المهلهل الزير سالم الفارس العربي الذي اتصل بالملك اليهودي حكمون . وكأني به ينقد العقلية العربية الساذجة التي جعلت الملك اليهودي ملجأ يلتجأ إليه الفارس العربي . وإميل حبيبي يعود ليشرح الممارسات الإسرائيلية ويكشفها ..أي ، يريد أن يقول لنا إن إسرائيل تعمل على مسح المعالم العربية وطمسها، فمقبرة يافا أقاموا مكانها فندق هيلتون، وحارات يافا العربية أهملت من قبل السلطات الإسرائيلية حتى ييأس العرب ويتركونها .. ولا ينسى كاتبنا، عندما يرى معالم العرب في عروس البحر (يافا)، المظاهرات الدامية التي كان يقوم بها العمال والفلاحون ضد الانتداب والصهيونية .. ويعني في ذلك أن الشعب العربي الفلسطيني لم يقف لحظة واحدة متخاذلاً .. إن عمّاله قاوموا مثلما قاوم شيوخه وشبابه .
ويسير بنا إميل حبيبي بعد أن يعرض لآراء الحرب والسلم وأن الحرب تأتي، ليرينا المرأة المهندمة ( ست الحسن ) التي تسوق حماراً من مؤخرته تهمزه بعصاها فلا يتأخر، وتردد هتافها " يحيا السلام ! يحيا السلام ! . وهنا نرى كاتبنا قد جعل ست الحسن رمزاً للإمبريالية، والحمار رمز للأنظمة الرجعية المرتبطة (عضوياً) بالأمبريالية والتي تسير حسب أوامرها .
فالسادات (الحمار) قد جاء إلى القدس وصافح الأعداء .. وكانت الإمبريالية من خلفه (تطبخ) له وتستخدمه ولا يخالف لها رأياً.. كذلك دول النفط التي تستغلّها الأمبريالية الأوروبية والأمريكية . وفوق كل ذلك فان الإمبريالية تحتقر هذه الأنظمة وتمنّ عليها، والأمبريالية هي التي تمد إسرائيل - بالمعونات لتكثّف من مستوطناتها في الجليل والخليل . وفي نفس الوقت فإن الإمبريالية تتهم الفلسطينيين بأنهم قتلة برابرة . وإميل حبيبي يضحك من أعماقه على خطوات السادات ودول النفط .. إنه ضحك ينمّ عن حزن بالغ في نفسه .
ونسير مع إميل حبيبي ليعرّي لنا الوطاويط (المثقفين العرب) المتواجدين في الظلّ .. إنه يبيّن مواقف الصمت والصبر السلبي القاتل .
وكاتبنا يفقد صبره وهو يعرّي بعض الكتاب المصريين الذين قبلوا لأنفسهم أن يتخلّوا عن الرسالة التي يجب أن يحملوها.. فنجيب محفوظ " ارتد إلى أرذل العمر " ولويس عوص " فيلسوف الخوف " وتوفيق الحكيم " تخلى عن مبادئه من أجل الفن " .. وهؤلاء هم الذين شدّوا على أيدي نظام السادات إبان ( معسكر داوود ) . وكأني بإميل حبيبي يطالب الكتّاب بالالتزام، وينتقد المنتفعين منهم والذين يركعون بأدبهم أمام السلاطين . إن كاتبنا يريد الكتّاب ألا يركعوا .. يريدهم مثل بدر "حتى حين أكرهوك على الركوع، لم تركع إلا زحفاً نحو الأسلاك الشائكة لتخترقها ".
ويستمر كاتبنا من خلال شخصياته في كشف الستائر عن مواقع القتل والذبح التي تمارس ضد الشعب العربي المسحوق . كما يصوّر لنا كاتبنا شخصيّة بدر الثائر التقدمي ويضع مقابل صورة بدر صورة السيّاف ( الإسرائيلي ) الذي لا يزال يمتشق سيفه ويفرش نطعه استعداداً للقتل، ومن خلال حوار حار جداً نرى المفارقات بين موقف بدر الإنساني وموقف إسرائيل العدواني.
ولا يتوقف إميل حبيبي بل يضع أمامنا جوقة من الصبيان والصبايا يغنّون ويرقصون، ويبدأ المهرج بالغناء للجوع في إفريقيا، أليست إفريقيا أيضا مستغَلة من قبل الإمبريالية !
أليست إفريقيا هي الغنية بخبراتها، الفقيرة بما تملكه من هذه الخيرات !
ويسلط الكاتب الأضواء على صبيّة (تطبّل) وسط جماعة من الناس قد أعمتهم التراخوما، هؤلاء الناس هم الشعب الفقير غير الواعي . يمسكون بحبل طرفه بيد شيخ يجلس القرفصاء على مرتبة عالية، ويعتمر فوق رأسه طرطوراً. هذا الشيخ هو الحاكم العربي الرجعي، ومن حول الشيخ يلتف أذنابه المؤيّدون له،فهم الذين يكرّسون منهجه الدكتاتوري . هذه الصبيّة (الطبّالة) هي رمز الفتاة الواعية التي تخلّصت من العمى (الجهل) فاتهموها بأنها تستعمل المساحيق المستوردة (الأفكار التي يرفضها الحكام). ومن خلال الحوار نرى كم هو رجعي هذا الشيخ، وكم هو ثوري موقف (الطبّالة) التي ترفع رأسها في السماء وتنقر على طبلتها إيقاع نشيد الأممية .
ويتجدد الحوار من جديد بين المهّرج وبدور لنرى من خلاله صورة دامية حزينة يعيشها الشعب الفلسطيني خلف حدود وطنه الصغير المسلوب، ولنلمس نقداً للعقلية الساذجة التي تعتريها الغشاوة والضبابية .
ويشرع إميل حبيبي بنقده العنيف على العقلية الفلسطينية العذرية التي لم تستفد من التجارب، ولم (تحنكها) الأيام والأحداث، ولقد نقل لنا كاتبنا هذا النقد من خلال الدغفل (الإمبريالية البريطانية ) الشيخ الذي يسوّر رأسه تاج من درر لامعة، عندما ركب على أكتاف السندباد (الشعب الفلسطيني) المشرد التائه كالسندباد نفسه . ولقد سمح السندباد للدغفل أن يركب على ظهره لعل الأخير يطعمه (يعطيه حريته) . وفي الوقت الذي سقط فيه الدغفل عن ظهر السندباد وسقط تاجه .. تأتي شهرزاد (الصهيونية) لتحلّ محل الانتداب البريطاني .. وبقيت عقليته (بعذريتها) لتمارس الصهيونية عليه نفس الدور دون أن يتنبّه لذلك.
وقبل أن ينهي إميل حبيبي حكايته لنا يؤكد بأنه لم يقل حكايته هذه إلا " لكي لا تذهب التجربة هباء / ولا تعود الذاكرة عذراء / أشبه بذاكرة طفل / إذا لم نر الحاضر / لا نستطيع أن نرى المستقبل " ويؤكد لنا بأن الذي يقلقه هو " أن نقعد ننتظر الانفجار / قيام الساعة / أن ننتظر ساعة لا يعود فيها الحال محتملاً / هذه الساعة لا تحين، يا بدور ! / فالذي يحتمل منتظراً ساعة الانفجار / يصبح الماضي البشع، في عينيه، أمراًجميلاً / في تحمل الأسوأ منه / حتى إذا مضى / يصبح، هو أيضاً ، أمرأً جميلاً "
وإميل حبيبي مثله مثل كل كاتب " ثوري" ينهي حكايته المسرحية هذه ببعث الأمل ونشر أضوائه في وجوهنا .. فتاريخنا مشرق بتضحياته .. تضحية الثورة الفلسطينية، وتضحية كفر قاسم ودير ياسين .. وتضحياته الكثيرة في كل مكان .. هذه التضحيات هي التي ستقيم ساعتنا وستخلع (لكع) عن عرشه وستعيدنا للأرض .. وإميل حبيبي يحقننا بالأمل والتفاؤل ويؤمّلنا بأن العودة غداً .. لا بأس فإن العودة غداً لا محال .. هذه حتمية كل المؤمنين بالثورة .
وذروة الأمل والتفاؤل نراها عندما يقبل الشهداء وفي أيديهم وروداً حمراء نبتت من شرايينهم ويقدمونها لأمّهمالأرض .. ويأتي الشعب وينثر الورود في حضن الأرض .. ويغمر النور الساطع المكان .. ويظهر وسط الضوء شاب كأنه خارج من الضوء قبساً من نور يحمل في كفيه ورقة من الصبّار، التين الشوكي، فلا تدمي يداه . فتصرخ الأرض : أبني الذي أورق وأضاء وحرّك .. وغداً .. غداً اللقاء . وتسدل الستارة وفي رأسي صوت شاعرنا محمود درويش ( أجمل الأخبار .. ما يأتي غداً ) .
أما كاتبنا إميل حبيبي فإنه ما نام باقي ليلته تلك، واعتقد أن سبب ذلك هو أن في رأسه صوت ما.. يشتهي أن يسمعه قبل أن يسقط !
هذه هي (لكع بن لكع) لمضمونها . وخلاصة القول إن إميل حبيبي قد نجح في تجربته هذه، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها نموذج يصبح لأن يسير ( المسرحيون ) على بعض أسسه إذا ما تسنّى لهم ذلك .. إن (لكع بن لكع) ليست (صرعة) بل تجربة ناجحة تحمل في طياتها إبداعاً فنياً لكاتب متمرس استطاع أن يزاوج بين التراث والمعاصرة،ويعطي لنا فناً متميزاً جديداً يستحق منا الوقوف وإمعانالنظر والدراسة .
المتوكل طه