أثار مقتل الشابة إسراء غريّب من بلدة بيت ساحور الملاصقة لبيت لحم، ضجة غير مسبوقة ليس في فلسطين وحدها، بل في العالم العربي بكامله، لبشاعتها ومدى الظلم الذي أطاح بفتاة في عمر الزهور، دونما ذنب أو خطيئة، بل إن حالتها أقرب وصفا إلى المؤودة التي نص عليها كتاب الله في الآية الكريمة “بأي ذنب قتلت”.
أصبحت إسراء رمزا للظلم والقهر والتخلف والتعصب الذكوري، وانعدام الضمير وخيانة كل ما هو جميل في الشعب الفلسطيني المناضل. لقد شعرت بأننا كلنا مذنبون- الأهل وبنات العم والمستشفى ووزارة الصحة ووزارة المرأة والأجهزة الأمنية والحكومة بكاملها، والمجتمع الذكوري المتخلف وأصحاب الفتاوى الدينية المتخصصة في جسد المرأة. كل من يصمت على هذه الجريمة مشارك بشكل أو بآخر. كل من يبرر للرجل عنترياته ويجرم المرأة منافق.
هذا النوع من الجرائم البشعة لا بد أن يثير مسألة ترابط التحرير بالتحرر، فمن يناهض الاستعمار والاحتلال والسيطرة الأجنبية، أولى به أولا أن يتحرر من عقلية الجاهلية والتعصب الأعمى والتخلف، التي تسقط دائما على النساء، باعتبارهن الضلع الأقصر والفريسة الأسهل.. كيف لعاقل يقبع تحت احتلال أجنبي يربط الشرف بجسد المرأة، بدل ربطه بالنضال ضد العدو الخارجي الذي ينتهك شرفنا صباح مساء، ويدوس على كرامتنا جميعا من الرئيس إلى أصغر عامل أو طالب أو رجل أمن؟
حكاية إسراء ذكرتني بجريمة بشعة مشابهة عندما قتلت الشابة الجامعية آية برادعية ابنة العشرين ربيعا من بلدة صوريف بقضاء الخليل، التي اختفت يوم 20 أبريل 2010 وتم الكشف عن ملابسات الجريمة بعد سنة تقريبا، ليتبـين أن عمها، كتف يديها ورجليها ورمى بها في بئر، رغم أنها لم ترتكب أي خطأ تستحق العقاب عليه. كل ما في الأمر أنها رفضت الزواج من ابن عمها، وتقدم شاب جامعي لخطبتها فوافق أهلها واتفقوا مع الخطيب على إتمام مراسم الزواج بعد التخرج، ما أغضب العم فقرر قتلها. تلك الجريمة هزت المجتمع الفلسطيني برمته لفظاعتها من جهة، ولمدى الظلم الذي أودى بحياة فتاة بريئة طاهرة شريفة من جهة أخرى، حيث سار في جنازتها أكثر من عشرين ألف مواطن، واعتصم طلاب جامعة الخليل احتجاجا على مقتل زميلتهم المعروفة بسمو الخلق والاجتهاد والأدب الجم.
وعد الرئيس عباس عندها مراجعة قوانين العقوبات المتعلقة بجرائم الشرف، لكن وعده ذهب هباء، ولذلك قتلت إسراء بالبشاعة نفسها. وما بين آية وإسراء قتل نحو 200 فتاة بريئة. ومنذ انتشار أخبار الجريمة، حاولت بكل طريقة جمع أكبر قدر من المعلومات، واتصلت بالدائرة التي حولها وبعدد من الأصدقاء في منطقة بيت لحم وأستطيع القول بشيء من الموضوعية إنني جمعت قدرا كافيا من المعلومات حول إسراء، تثبت دون أدنى شك، أنها بريئة ومظلومة، وأنها قتلت عمدا بعيدا عن خزعبلات الجن، وأي نتائج تخالف هذه الحقيقة لن نصدقها، فكما اختفت آثار كثير من الفتيات أو طمست معالم الجريمة لن يقبل الرأي العام الآن “لملمة المسألة واعتبار قتلها موتا طبيعيا”.
إسراء من الفتيات الذكيات الجميلات المبرزات في ميادين العلم والعمل معا، التي قد تثير غيرة قريباتها أو زميلاتها. فهي تدرس في جامعة بيت لحم الأدب الإنكليزي، وتعمل مُزيّنة ومصففة شعر في صالون، وتكسب جيدا وتصرف على العائلة. ولا تعمل شيئا خفية أو سرا عن أمها وأبيها. لم ترتكب جرما بخروجها مع خطيبها برفقة أخته، والتقطت صورة لهما وأرسلتها لبنات عمها اللواتي تثق بهن، إلا أن تلك الثقة لم تكن في موضعها، بل أدت إلى تحريض العائلة وارتكاب الجريمة على مراحل.
منذ قيام سلطة أوسلو وخضوع الفلسطينيين بعد نهاية الانتفاضة الثانية للسلطتين الفتحاوية في الضفة والحمساوية في غزة، تفاقمت المشاكل الداخلية والعنف المحلي والمشاجرات العائلية وجرائم القتل، بما فيها جرائم الشرف. فمرحلة ما بعد أوسلو تجسد ردة في الأخلاق، وردة في المفاهيم وردة في الوعي، وردة في الثقافة السائدة حول مفهوم مشوه للشرف. وسأقتبس بعض الأرقام والحقائق من تقارير عديدة صادرة عن الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان ومركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، ومركز الدراسات النسوية وغيرها.
ففي عامي 2014-2015 قتلت 42 امرأة في الضفة الغربية وقطاع غزة بمعدل 60% في الضفة و40% في قطاع غزة. ومن بين 16 قضية قتل في الضفة عام 2014 تم الإبلاغ عن 12 حالة، وصدرت أحكام في أربع منها. وقتلت 13 فتاة في كل من عامي 2011 و 2012 بينما قتلت 29 فتاة بين عامي 2007 و2010 أي خلال أربع سنوات بمعدل 7 تقريبا. بينما يشير مركز تنمية وإعلام المرأة إلى أن 70 فتاة قتلن بين عامي 2010 و2016 أي بمعدل 12 – 13 للسنة الواحدة، أي أن الأرقام ما فتئت تزداد. في عام 2018 قتلت 7 نساء في قطاع غزة برصاص أزواجهن بالخطأ حسب إفادة الأزواج، عدا عن عدد آخر قتلن بطرق أخرى كالشنق والرمي من الطوابق العليا والطعن. وتصل النسب العمرية للمقتولات دون 18 سنة إلى 30% وهي النسبة نفسها للفئة العمرية 31- 50 سنة، بينما ترتفع النسبة إلى 33% بين سن 18 و30 سنة. ونسبة المتزوجات المقتولات 35% والعازبات 34% بينما المطلقات لا تزيد عن 8% والطفلات تصل إلى 19%. والشيء المهم أن الغالبية الساحقة من الضحايا من ربات البيوت غير العاملات، ما يجعلهن غير مستقلات اقتصاديا، علما أن نسبة التعليم لدى معظم الضحايا لا تقل عن الثانوية العامة. وتفيد الدراسات بأن مرتكب الجريمة من الدائرة المقربة جدا من الضحية، خاصة الزوج يليه الأخ فالأب فالعم أو الخال.
جرائم الشرف ليست محصورة في فلسطين والأردن، بل تتعداهما إلى العديد من الدول العربية والإسلامية. مثل الأردن ولبنان ومصر والعراق وتركيا وباكستان وبنغلاديش. وتقدر اليونسيف أن نحو 5000 امراة يقتلن سنويا في باكستان، لأسباب تتعلق بالشرف. ولا يمكن النظر إلى الجريمة من مفهوم اجتماعي ثقافي موروث عن الماضي فحسب، فهذه الظاهرة كادت تختفي في ظل سنوات النضال والمواجهة والانتفاضات. لكنها عادت بشكل قوي لتضافر العديد من الأبعاد مثل، البعد الديني الذي يركز على قشور الدين كالاختلاط والحجاب، وأنواع الزواج، وتعداد عورات النساء ويحصر دور المرأة في بيتها للطبخ والنفخ والتفريخ فقط. كما أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة يؤدي حتما إلى تفاقم العنف الأسري بسبب زيادة نسبة الفقر وعجز الرجل عن الأيفاء بالتزاماته الأسرية، ما يزيد من أسباب العنف البيتي واضطرار المرأة الخروج من البيت بحثا عن عمل. وبسبب ارتفاع سعر الأراضي بدأت النساء يطالبن بحصصهن من الإرث، ما سبب المزيد من النفور والصراع والخلافات الحادة، التي ذهب ضحيتها العديد من النساء. بعد عودة السلطة تراكمت الديون وزادت الأعباء وارتفعت الأسعار وتفاقم الفساد، وانتشرت ظواهر البذخ والإسراف لدى الفئة المستفيدة، وكل ذلك من شأنه أن يطيح بمنظومة القيم والأخلاق المستقرة لدى الضمير الجمعي للشعب الفلسطيني.
أضف إلى ذلك البعد السياسي وانسداد الأمل بنهاية الاحتلال، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، التي وُعد بها منذ قامت القيادة الفلسطينية بتوقيع اتفاقية أوسلو. فالمستقبل غامض والشعب الفلسطيني يشاهد أرضه تسلب منه جهارا نهارا، والقيادة تمارس تعميم الوهم بتضخيم انتصارات صغيرة كرفض صفقة القرن، أو رفع العلم أمام مبنى الأمم المتحدة.
هذا الوضع ولّد شعورا بالعجز والإحباط والقهر المكبوت والمنحبس داخليا، مما فاقم مشكلة العنف الداخلي بين العائلات من جهة، وأفراد العائلة الواحدة.
التصدي لجرائم الشرف المرتبطة بالعنف الأسري يبدأ أولا بتغيير القوانين المعمول بها، كما وعد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بعد اكتشاف جريمة آية برادعية، ولم يتغير شيء، خاصة قانون العقوبات الأردني (المادة 99 رقم 16) لعام 1960 المعمول به في الضفة الغربية، وقانون العقوبات البريطاني لعام 1936 المعمول به في غزة حول العقوبة المخففة للقاتل. كما أن الاستعمال الواعي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، قد يلعب دورا إيجابيا في تعبئة الرأي العام ضد هذه الظواهر المرضية، التي تنخر في جسم المجتمع وتطيح بمنظومة القيم الجميلة والعادات الأصيلة لديه، القائمة على التسامح والمحبة والمساواة والتنوع. لعل دم إسراء المسفوح ظلما يحرك المياه في البحيرة الآسنة.
عبد الحميد صيام
*محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي