بعد سبعة أيام، سيُدلي الناخب الإسرائيلي بصوته، وسط مؤشرات على أن النتائج لن تختلف كثيرًا عن الانتخابات السابقة، إذ تشير الاستطلاعات إلى توازن بين المعسكرين المتنافسين: معسكر اليمين المتطرف، ومعسكر اليمين، يحول دون تمكّن أي منهما من تشكيل الحكومة، في حين يبدو أن حزب أفيغدور ليبرمان هو الذي سيقرر مصير بنيامين نتنياهو .
وبعد ثلاثة أيام ستحل الذكرى السادسة والعشرين لاتفاق أوسلو؛ هذا الاتفاق الذي قام على وهم فلسطيني بأن إسرائيل جاهزة للتوصل إلى تسوية تتضمن قيام دولة فلسطينية على حدود 1967. ولتشجيع إسرائيل على الإقدام على ذلك، قدّم الفلسطينيون تنازلات كبرى، أهمها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وما يعنيه ذلك من تنازل عن الرواية التاريخية الفلسطينية المبنية على الحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية.
في المقابل، حصل الفلسطينيون على اعتراف بالمنظمة، وهذا لا يعني الاعتراف بأي حق من الحقوق الفلسطينية، وعلى سلطة حكم ذاتي في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة من دون القدس، وهذه خطيئة كونها تكسر وحدة الأراضي المحتلة العام 1967، كما حصلوا على حق عودة لمئات آلاف الفلسطينيين، وهذا أهم ما تحقق في أوسلو، لكنه على أهميته لا يكفي ولا يبرر التنازلات وأشبه برش السكر على الموت، ويعتبر الفتات مقابل التغطية على الشروع في عملية تصفية القضية الفلسطينية، بغض النظر عن النوايا. فقد كان الزعيم ياسر عرفات يعتقد أنه إذا وضع رجله على أرض الوطن سيضع اسم فلسطين على الخارطة السياسية للمنطقة، ويستطيع أن يجعل الحكم الذاتي جنين الدولة الفلسطينية العتيدة، ولكنه سرعان ما وجد أنه في سجن، وعندما حاول الخروج منه قُضي عليه.
هذه النتيجة متوقعة، بل حتمية. فلا يمكن أن يُعطي ميزان القوة القائم عشية "أوسلو" دولة فلسطينية. فـ"أوسلو" بالتنازلات الفلسطينية التي تضمنها، والتي يمكن تلخيصها بالتخلي عن أوراق القوة والضغط الكفيلة بتحقيق الأهداف والحقوق الوطنية قبل تحقيقها، أدى إلى الدخول في دوامة من المفاوضات من أجل المفاوضات، وعند فشل المفاوضات يُحلّ الأمر بالمزيد من المفاوضات والتنازلات تقود إلى المزيد من التنازلات، وبالتالي وصلنا إلى الكارثة التي نعيشها.
لم نصل إلى هذه النتيجة لأن الأداء الفلسطيني كان سيئًا فقط، فالدولة لن تقوم عن طريق إعطاء الاحتلال ما يريد سلفًا وفي بداية المفاوضات، والذي كان يمكن أن يأخذه في نهاية المفاوضات، وعندما أخذه كعربون لم يعد لديه حافز للمفاوضات إلا لاستخدامها للتغطية على ما يقوم به من خلق وقائع احتلالية واستيطانية وعنصرية تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح فعلًا.
لا بد من الانطلاق من أن جذر الخلل في "أوسلو"، وتصوّر إمكانية تجسيد الدولة عن طريق المفاوضات وإثبات حسن النوايا، وما بني على باطل فهو باطل. صحيح لو أنّ الأداء جيد كان يمكن أن يقلل من أخطاء وخطايا ومخاطر "أوسلو"، ويقرّب من موعد التخلص منه، إلا أنه لن يقود إلى حل وطني، فإسرائيل لم تكن جاهزة للموافقة على دولة فلسطينية، وهي الآن ضد قيامها بصورة أكبر، مسلّحة بخلق أمر واقع يجعل قيامها مثل أي حل وطني آخر مستحيلًا، فمن دون تغيير موازين القوى بشكل جوهري لا يوجد حل وطني مهما كان اسمه ومضمونه.
هنا من المفيد الإشارة إلى الرهان الفلسطيني داخل الخط الأخضر وخارجه على سقوط نتنياهو، من خلال التفكير بإقامة قائمة يهودية عربية، لم تُشَكَّلْ نظرًا لضيق الوقت، والوهم بأن بيني غانتس وحزبه "أزرق أبيض" أفضل منه.
إن الفرق بين نتنياهو و"الليكود" والائتلاف الذي سيشكله، وغانتس و"أزرق أبيض" والائتلاف الذي سيشكله، بالنسبة إلى الفلسطينيين، مثل الفرق بين الإعدام بالرصاص أو بحبل المشنقة. فاللاءات الصهيونية الاستعمارية تجمع الأحزاب الإسرائيلية الرئيسية والفرعية، باستثناء "ميرتس" الذي يختلف عن بقية الأحزاب الصهيونية، ولكن يجب عدم المبالغة في هذا الفارق، خصوصًا في السنوات الأخيرة عندما مالت إسرائيل إلى اليمين واليمين المتطرف، وكما يدل تحالف "ميرتس" مع إيهود باراك في الانتخابات القادمة. باراك قاتل العرب، ورافض "أوسلو"، وصاحب مقولة إزالة القناع عن ياسر عرفات، وعدم وجود شريك فلسطيني، لا يجب التحالف معه مقابل مجرد اعتذار باهت.
مفترض استخلاص الدروس والعبر من أوسلو وما انتهى إليه، وليس إعادة إنتاج الأوهام التي أوصلت إليه، وأهمها الكف عن الرهانات الخاسرة على الغير وعلى الأعداء، والرهان بدلًا من ذلك على الذات والأشقاء والأصدقاء، وعلى ما يجمع بينهم وبين الفلسطينيين من مبادئ أو مصالح أو كلاهما. وهذا يعني أن طريق تحقيق الأهداف والحقوق الوطنية يتم من خلال تغيير موازين القوى، وليس عبر تقديم التنازلات، وحتى يحدث ذلك لا بد من تجميع عناصر القوة ومراكمتها للوصول إلى انتزاع الحقوق.
وحتى يمكن تحقيق ذلك، لا بد من إيجاد رؤية شاملة تتضمن مراجعة ما حصل، واستخلاص الدروس والعبر، ووضع خارطة طريق للحاضر والمستقبل، وما يعنيه ذلك من وضع خطط وإستراتيجية، وتوفّر الإرادة، وإعادة تعريف المشروع الوطني من جديد بعد أن لم يعد واضحًا ولا متفقًا عليه، بحيث يأخذ هذا التعريف الوعي والحقائق والخبرات الجديدة، والقدرة على التأثير بالأحداث، من دون التخلي عن الحقوق والأهداف التاريخية والنهائية.
إن الهدف المباشر هو تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة بأسرع وقت وأقل الخسائر، ومواصلة الطريق لتحقيق ما تبقى، من دون الخضوع لشعار "تحقيق شيء أفضل من لا شيء"، أو شعار "إما الكل أو لا شيء".
وحتى يتحقق المشروع الوطني لا بد من إعادة تعريفه وبناء أدواته، خصوصًا مؤسسات منظمة التحرير والسلطة على أسس ديمقراطية توافقية، وعلى أن ما يجمع الفلسطينيين أكثر مما يفرقهم، وبما يلحظ المتغيرات والخبرات المستفادة، ومع أخذ ما يميز التجمعات المختلفة بالحسبان، التي لها أولويات مختلفة تصب في خدمة الأهداف المشتركة .فشعبنا في الضفة والقطاع أولويته إنهاء الاحتلال وما ترتب عليه من استيطان وحصار وعدوان. أما شعبنا في الداخل، فأولويته إنجاز المساواة الفردية والقومية، وإسقاط التمييز العنصري، خصوصًا بعد إقرار "قانون القومية" الذي جعل العنصرية دستورًا في إسرائيل. وأما شعبنا في تجمعات اللجوء، فأولويته إنجاز حق العودة والعيش حياة كريمة إلى أن يعود.
إن التقدم في تحقيق أولويات أي تجمع يساعد على تحقيق أولويات التجمعات الأخرى، ولن تتحقق هذه الأولويات بشكل حاسم في تجمع من دون تحقيقها في التجمعات الأخرى.
في هذا السياق، ننظر إلى نتائج الانتخابات الإسرائيلية من منظور مدى مساهمتها في خدمة تحقيق المشروع الوطني والمؤسسة الجامعة والقيادة الواحدة، سواء على المستوى العام لكل الفلسطينيين، أو على مستوى كل تجمع.
أن يصبح الفلسطينيون إسرائيليين أكثر في وقت تصبح فيه إسرائيل أكثر عنصرية هدف مستحيل التحقيق، وإذا تحقق قدر منه فلن يخدم هدفهم الأكبر تحقيق المساواة، التي لن تتحقق إلا إذا بلوروا أنفسهم في إطار وطني متماسك.
وفي المقابل، أن يقاطعوا الانتخابات في وقت لا يوجد فيه بديل ولا نهوض أو مشروع وطني متفق عليه، وفي ظل الأوضاع الفلسطينية والعربية الراهنة؛ سيضخ الماء في طاحونة صب المزيد من الأصوات العربية لصالح الأحزاب الصهيونية، ولصالح دعاة طرد وتهجير الفلسطينيين وتكريس عبوديتهم والتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
إذا كان الأمر البحث فقط في كيفية تحقيق المصلحة الفردية بحيث يبحث كل شخص عن مصالحه، فإنه يتطلب إدراك أنه حتى تحقيق المصالح الفردية في ظل حكم استعماري استيطاني عنصري لن يكون على أفضل وجه إلا من خلال بلورة العرب لأنفسهم في إطار واحد ذي أهداف مشتركة، ما يعني أن هذا هو معيار الحكم على أي خطوة أو تصريح، وهل يخدم هذا القائد أو ذاك أو حزبه أو يخدم شعبه؟
يكمن الحل في الجمع ما بين سياسة التأثير والانخراط في الحياة السياسية في إسرائيل، والعمل على بلورة الهوية الوطنية والإطار الوطني الخاص بكل تجمع والمشترك لكل الفلسطينيين، مع إعطاء الأولوية للثاني عند حدوث تعارضات بينهما.
نعم، مهم المساهمة في إسقاط نتنياهو، ليس لأن غانتس أفضل منه، بل للتقدم على طريق معاظمة التأثير الفلسطيني، ولأنه ارتكب كل أنواع الجرائم والعدوان والتطرف، ووصل إلى حد التفكير والشروع بضم معظم الضفة المحتلة، وإلى ممارسة الفساد الشخصي، وتجيير المؤسسات والقوانين لصالح استمراره في الحكم، ولكن من دون الرهان على منافسه.
يجب ألا ينسى أحد أن ما يسمى "اليسار" و"الوسط" الصهيوني هو من أقام إسرائيل، وشن الحروب، وارتكب المجازر، وكان مؤمنًا بالقوة العسكرية، وأن ما لا تحققه القوة يحققه المزيد من القوة، وأن اليسار - مع انحياز إسرائيل أكثر وأكثر لليمين - أصبح يمينًا أكثر وينافس اليمين على التطرف.
حتى يحدث التأثير الفلسطيني داخل إسرائيل في حده الأقصى بهدف تحسين شروط حياتهم على طريق تحقيق المساواة، يجب أن يتوحد الفلسطينيون ويتفقوا على الشروط الواجب توفرها للنضال بشكل عام، ولدعم نجاح ائتلاف حاكم في إسرائيل، والشروط الواجب توفرها للمشاركة في الحكومة بشكل خاص. فلا يمكن المشاركة في حكومة تدعم استمرار "قانون القومية"، وضد تجسيد الدولة الفلسطينية، ومع بقاء القدس موحدة، وضد عودة اللاجئين، وتشجع العنف والجريمة بين الفلسطينيين داخل إسرائيل، وهدم المنازل، وتوسيع الاستيطان والطرد والتهجير والتمييز العنصري، ومواصلة العدوان ضد الفلسطينيين والعرب، والتهديد بحرب واسعة ضد قطاع غزة، والاستعداد لضم المستوطنات والأغوار حاليًا، أو في أي تسوية نهائية، مع إبقاء السيادة الإسرائيلية في كل الأحوال من النهر إلى البحر.
إذا كانت السياسة فن أفضل الممكنات ومبنية على المصالح، فالسؤال: كيف يمكن تحقيق أقصى الممكن في كل مرحلة من دون التنازل عن المبادئ والمصلحة العامة والهدف النهائي، وعن أي مصلحة يجري الحديث: مصلحة الأفراد أم الأحزاب أم الشعب الذي من المفترض أن تمثله؟
يبقى التحذير من الرهان الذي بدأ يطل برأسه على سقوط نتنياهو وفوز غانتس، على أمل - وهو في الحقيقة وهم جديد قديم - استئناف المفاوضات والتوصل إلى حل نهائي، أو تحسين شروط الفلسطينيين في إسرائيل، أو المحافظة على الوضع الراهن، ووقف خصم الأموال المخصصة للشهداء والأسرى من المقاصة، لأن إسرائيل اليوم بغض النظر عمن يحكمها ليست بوارد المشاركة في مفاوضات تؤدي إلى تسوية، ولا تحسين جوهري على حياة الفلسطينيين، بل معنية بمفاوضات مع من يوافق على الحل الإسرائيلي الذي تفرضه، وتواصل فرضه على الأرض، والذي لا يتسع لقيام دولة فلسطينية.
أما خصم الأموال الفلسطينية، فرغم حرص إسرائيل على منع انهيار السلطة، إلا أن التوصل إلى حل بخصوصه لن يتم بتراجعها عن الخصم الذي حدث تنفيذًا لقانون يحظى بشبه إجماع، بل يتحقق من خلال إيجاد حلول أخرى "إبداعية"، مثلما حصل مؤخرًا بخصوص "ضريبة البلو"، التي حصلت السلطة بموجبها على ملياري شيكل، ما يمثل بداية النزول عن الشجرة.
فبدلًا من أخذ الأموال الفلسطينية المتبقية بعد الخصم وملاحقة إسرائيل على قرصنتها والكفاح لاستعادة الأموال المسروقة، في سياق بلورة مسار جديد مختلف كليًا عن مسار أوسلو، يُبنى خطوة خطوة ضمن عملية تاريخية، يكون الرهان كله تقريبًا على خشية إسرائيل من انهيار السلطة، وعلى استئناف المفاوضات، وعلى المستحيل المتمثل بمحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. عجبي!
بقلم/ هاني المصري