إجازة العمل في لبنان والمكانة القانونية – السياسية للاجئين الفلسطينيين (4/4)

بقلم: فتحي كليب

لا يمكن مناقشة الأزمة التي إفتعلتها وزارة العمل اللبنانية بدءاً من منتصف شهر تموز (يوليو) 2019 بشأن العمال الفلسطينيين في لبنان، إلا في اطار الصراعات والإنقسامات السياسية والطائفية التي يعيشها لبنان منذ زمن، والتي ينتمي جزء كبير منها إلى مربع الصراعات الإقليمية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وما تتعرض له من محاولات أمريكية وإسرائيلية لتصفيتها..

وإن كانت المشكلة – الأزمة بين وزارة العمل واللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد إنفجرت، شكليا، نتيجة إجراءات وزير أطلق خطة تحت عنوان «مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية» وصفها كثيرون أنها إرتجالية، تفتقد للموضوعية، وتستهدف فئة بشرية بعينها، إلا أن جذور هذه الأزمة تعود إلى عقود مضت، وتتعلق بشكل مباشر بقصور القوانين اللبنانية عن التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفق خصوصيتهم التاريخية والسياسية والقانونية باعتبارهم جزء من شعب هُجِّر عام 1948 من أرضه في سياق تاريخي معروف:

رابعاً- الحركة الجماهيرية بمدلولاتها

(1)

الحركة الجماهيرية واستعادة الدور

■ رغم بدء التطبيقات الميدانية لصفقة ترامب – نتنياهو، خاصة فيما يتعلق بقضية اللاجئين، بجميع عناوينها، ورغم تقدم عمليات التطبيع التي ترافقت مع حملة منظمة تروج لثقافة جديدة تحت شعار نجاح السياسة الأمريكية في تحقيق العديد من الإختراقات لصالح المشروع الصهيوني.. جاءت إنتفاضة اللاجئين في مخيمات لبنان لتقدم مشهداً يستحق التوقف عنده لتحليل أسبابه ورصد أبعاده.

فإن كانت إجراءات وزارة العمل بشأن ملاحقة العمال الفلسطينيين قد مثَّلت الشرارة لخروج الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني إلى الميدان، مدافعين عن حقهم بالحياة والعيش الكريم، إلا أن مجموعة من الأسباب السياسية والإقتصادية والأمنية والقانونية الراهنة والتاريخية تلاقت فيما بينها لتوصل الفلسطيني في لبنان إلى أوضاع غاية في السوء على جميع المستويات، بحيث باتت التحركات الشعبية خياراً وحيداً لإنجاز شروط التقدم نحو تغيير الواقع القائم:

1- وُضِعَت المخيمات بين ضغط أوضاع أمنية منفلتة في بعض المخيمات تكرس واقعها نتيجة مسار سياسي طويل يعود إلى ما قبل العام 1990 فرضته أحداث محلية وإقليمية ودولية، وسياسة لبنانية لم تتعاطَ مع المخيمات إلا بإعتبارها حالة أمنية يجب إحكام الإمساك بها، متجاهلة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية الصعبة التي ترزح المخيمات تحت وطأتها بفعل سياسة الدولة المجحفة بالحقوق الإنسانية للاجئين الفلسطينيين.

2- إنعكس الإنقسام الفلسطيني الداخلي بشكل سلبي على كل الحالة السياسية الفلسطينية في لبنان، ويترجم ذلك بعدم قدرة القيادة السياسية المركزية والقيادات المحلية على تقديم نفسها كمرجعية سياسية وإجتماعية، وعجزها عن معالجة الكثير من المشكلات اليومية، سواء على مستوى القضايا والعلاقات الداخلية في بعض المخيمات، أو في العلاقة مع الخارج لجهة تقديم موقف فلسطيني موحد من مختلف القضايا التي تتطلب ذلك.

3- إتساع الهوة بين الحالة السياسية، بكل تشكيلاتها، والحركة الشعبية بمكوناتها المختلفة، خاصة القطاعات الشبابية التي تعاني من مشكلات كبيرة على المستويين الوطني والإجتماعي، ما ولَّدَ إنطباعاً لدى فئات إجتماعية وازنة بعدم قدرة التشكيلات السياسية على التصدي للتحديات المطروحة، وفي القلب منها مشاكل وقضايا الشباب المختلفة.

4- إنعدام الآمال بإمكانية تحقيق إختراقات على مستوى العملية السياسية (المتوقفة عملياً منذ عقدين من الزمن) تضمن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية؛ وفي المقابل، بقاء السياسات الرسمية الفلسطينية أسيرة الخيارات التفاوضية، وغياب الإستراتيجيات الوطنية التي بإمكانها النهوض بأوضاع الشعب الفلسطيني، ناهيك عن الإنقسام وتداعياته السلبية على كل التجمعات والملفات الفلسطينية في ظل تعمق الأزمة التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية، واتساع الهوة، ليس فقط بين إطار سياسي وآخر، بل داخل الإطار الواحد، وهو ما بعث برسالة سلبية بأن المستوى القيادي الرسمي بات أعجز من القدرة على الإستجابة لمختلف التحديات والمخاطر المتزايدة مع كل يوم يمر.

■ إن ردة فعل الحركة الشعبية في رفضها لإجراءات وزارة العمل اللبنانية، قدمت صورة واقعية عن حالة وطنية وإجتماعية متماسكة وصلبة، رغم سعي البعض إلى طمس هذه الصورة وإخفاء معالمها لتبرير سياساته، بادعاء عجز الحركة الجماهيرية وعدم قدرتها على النهوض والدفاع عن مصالحها. فجاءت التحركات الحاشدة، الواعية والمنظمة، لتؤكد أن المجتمع الفلسطيني في لبنان، رغم الضربات الكبيرة والموجعة التي تعرض لها وحدَّت من قدرته على مواجهة المخاطر، مازال يختزن قدرات واستعدادات نضالية ووطنية عالية، ما يجعله قادراً، ليس على الدفاع عن حقوقه وتلمس التعبير عن مصالحه فحسب، بل وأيضا تجاوز سقوف سياسية سعى البعض لرسم معالمها خارج إطار التوافقات التي تمرَّست في ميادين الحركة الشعبية، التي تمكَّنت من جعل المطالب المرفوعة تطغى على كل إعتبار، فأسقطت حواجز ومربعات أمنية، وتوحَّدت الحالة الشعبية بكل مكوناتها وإنتماءاتها تحت شعارات وطنية واجتماعية، وبالتالي أصبحت إمكانية تجاوز الحركة الشعبية أمراً بالغ الصعوبة.

وإذا كان صحيحا أن التحركات الشعبية جاءت ردة فعل طبيعية على إجراءات وزارة العمل، التي إعتبرت بمثابة مس بمعيشة ومستقبل جميع الفلسطينيين في لبنان، إلا أنها شكلت صدمة ليس فقط لوزير العمل الذي قال إنه تفاجأ بهذه التظاهرات، بل وللقوى اللبنانية المعنية وحتى لبعض الفصائل الفلسطينية، حيث إعتبرت هذه التحركات، من زاوية جماهيريتها الأكثر زخماً منذ النكبة، ولا يشبهها إلا إنتقاضة المخيمات في لبنان عام 1969 في مواجهة ممارسات أجهزة السلطة القمعية■

(2)

الأبعاد المتعددة لهبّة  (إنتفاضة) المخيمات

■ إن هذه التحركات، بالحشود الضخمة التي شاركت فيها، بعثت بالعديد من الرسائل إلى أكثر من طرف فلسطيني ولبناني ودولي، بعد أن فرضت نفسها على الجميع:

1- فلسطينيا: إشعار القيادة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة وأيضا الفصائل، بأن المراهنة على حركة اللاجئين في مخيمات الشتات، كما في مخيمات الداخل، وعلى قدرتها على الدفاع عن مصالحها هو رهان في مكانه. هذه الحركة، وبالتجارب الملموسة التي خاضتها في أكثر من مكان، قادرة على تحقيق الكثير من الإنجازات والمكتسبات الوطنية، إذا ما تم إحتضانها وتوافرت لها مقومات المساندة والدعم.

وبالمقابل، فإن تجاهل قضايا اللاجئين وإهمال أوضاعهم المعيشية والحياتية لن يقود سوى إلى إتساع حالات النقد للسياسة التي تنتهجها القيادة الرسمية لـ م.ت.ف واستراتيجياتها المعتمدة تجاه قضية اللاجئين، والتي هي إستراتيجية قاصرة على أية حال؛ وبالتالي فإن غيابها عن متابعة قضايا وهموم اللاجئين سيدفع بقوى أخرى لأن تتقدم مدعية أنها تقدم حلولا لمشكلات اللاجئين، من نمط الدعوات العلنية للهجرة الجماعية، التي وإن كانت ردة فعل على واقع إقتصادي وإجتماعي صعب، إلا أنها تؤشر إلى طبيعة العلاقة المتراجعة بين القيادة السياسية وبعض أوساط الحركة الشعبية وقطاعات الشباب بالذات، وأيضا إلى إمكانية تقدم قوى مختلفة، محلية وإقليمية ودولية، بمشاريع مشبوهة تحت يافطات إنسانية وغير ذلك، تلحق الضرر ليس بالحركة الشعبية وحسب، بل وبقضية اللاجئين بشكل عام.

2- لبنانيا: كان العنوان المباشر لتحركات اللاجئين هو رفض إجراءات وزارة العمل وتداعياته على المكانة القانونية والسياسية للاجئين، والتمسك بحق العودة إنطلاقا من صون هذه المكانة ورفض أي مشروع تهجيري أو توطيني في لبنان أو غيره. وعليه، فإن التحركات أسقطت، وبشكل فعلي، كل الإدعاءات والمزاعم التي تقول بإمكانية توطين الفلسطينيين في لبنان، وبالتالي إذا ما توافر الحد الأدنى من التنسيق والفعل المجدي بين الدولة التي ترفص التوطين وبين اللاجئين الذين هم أول ضحايا هذا المشروع، فإن مشاريع التوطين تفقد الكثير من مضامينها وتصبح مجرد شعارات خاوية، لا إمكانية فعلية لفرضها.

ولتأكيد الموقف الفلسطيني الرافض، جملة وتفصيلا، لجميع مشاريع التوطين، وعلى سبيل تدعيم الحجة نُذَكِّر بالواقعة التالية (تاريخ آب/ أغسطس 2019): حين دعت بعض الحراكات الشبابية الفلسطينية إلى مسيرات شعبية تنطلق من المخيمات نحو الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، أعلن مجلس الأمن الفرعي في صيدا والجنوب منع التجمعات مؤكداً على ضرورة حصول أي تجمع على ترخيص رسمي من السلطات. أي أن مسألة التوطين لم تعد سوى شمّاعة تسعى بعض القوى اللبنانية إلى طرحها لأهداف محلية فقط، وهي تعلم حقيقة الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي الذي تكرس بفعل التحركات الجماهيرية الحاشدة والضخمة التي شهدتها جميع المخيمات.

كما يمكن ملاحظة تلمس الوعي العالي للحركة الجماهيرية في عدم إنجرارها إلى مربعات سعت بعض القوى المعروفة بعدائها التقليدي للوجود الفلسطيني إلى جرها إليها، من خلال إعتبار التحركات الشعبية الحاشدة والضخمة كالتي شهدتها مدينة صيدا مثلاً، وكأنها مقدمات لعودة الحرب الأهلية.. لكن رغم أن مثل هذا التحريض قد وجد صداه لدى قوى لا تمثيل شعبي ولا حيثية سياسية لها، إلا أن الحركة الجماهيرية واصلت مسيرتها إلى الأمام، غير آبهة بمثل هذه الدعوات التي إنكشفت مراميها في وقت مبكر، ولم تؤثر على مسار التحركات الشعبية ووحدتها.

3- دوليا: أعادت التحركات الشعبية التأكيد مجدداً على أن قضية اللاجئين هي قضية سياسية، بالأساس، وفي هذا السياق وتحت هذا السقف فهي أيضاً قضية مطلبية ومعيشية. لقد أبرزت هبّة المخيمات قدرة اللاجئين على تلمس طبيعة المخاطر التي تتهدد جميع الحقوق الوطنية، بما فيها قضية اللاجئين، والتي تعود إلى جذر واحد هو رفض إسرائيل والولايات المتحدة الإعتراف بحقيقة أن الإحتلال والتهجير الناتج عن تداعيات نكبة العام 1948 هو السبب الرئيسي في كل ما يتعرض له اللاجئون من معاناة سياسية وإقتصادية، وبالتالي فإن أقصر الطرق لمعالجة هذه المشكلات تكون بتحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته لجهة إجبار إسرائيل على إحترام القرارات الدولية ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 194 الذي يكفل حق العودة إلى الديار والممتلكات.

إن ما قدمته مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من تحرك شعبي رافض لأي إجراء أو فعل تُشتَمْ منه رائحة التساوق مع المشاريع الأمريكية - الإسرائيلية والمعبر عنها راهنا بصفقة ترامب - نتنياهو، ليست سوى صورة مصغرة عن موقف جميع تجمعات اللاجئين الفلسطينيين وتمسكها بحق العودة، ولعل مخيمات قطاع غزه في تحركاتها الجماهيرية في مسيرات العودة التي إنطلقت قبل عام ونصف العام، لهي دليل واضح على الإستعدادية العالية لحركة اللاجئين في الدفاع عن حقوقها الوطنية والإجتماعية.

(3)

آفاق الحركة الجماهيرية

■ رغم أن إجراءات وزارة العمل جاءت تحت عناوين قانونية وتندرح تحت ما يسمى «تنظيم العمالة الأجنبية»، إلا أن الحركة الجماهيرية تمكَّنت من أن تُحسِن الربط بين أبعاد الإجراءات في جانبها المحلي، وبين إمكانية إرتباطها بمشاريع سياسية تُحاك ضد قضيتها الوطنية، فعبَّرت الشعارات المرفوعة عن مستوى متقدم من الوعي لدى قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني التي بادرت ونزلت إلى الشارع قبل أن تقرر الحالة السياسية الفوقية شكل التحرك وحدوده.. وفي أكثر من مناسبة كانت الحركة الجماهيرية هي المبادرة، وهي السبّاقة في صنع، لا بل في فرض الحدث بقوة الإلتفاف الشعبي حول خياراتها.

لقد تمكَّنت الحركة الجماهيرية بإصرارها وعزيمتها وثباتها، أن تفرض على الفصائل الفلسطينية الوحدة في التحركات والمطالب، رغم أن بعض الفصائل لا زالت حتى هذه اللحظة غير مقتنعة بجدوى الحركة الجماهيرية وقدرتها على إمكانية تحقيق إختراقات في جدار الحرمان السياسي المزمن في لبنان. وهي لهذا تسعى إلى إبقاء التحركات في الحدود المسيطر عليها بدعوى ومحذور إمكانية إختراقها أمنيا، وهذا ما تُرجم بعدم زج فصائل نافذة، كحركة فتح على سبيل المثال، بكامل طاقتها في ميدان التحركات بذريعة الحرص على عدم توتير الأجواء مع السلطات اللبنانية، رغم سلمية التحركات التي إمتدت لعدة أسابيع متواصلة، دون أن يسجل حادث أمني واحد.

مثل هذه التخوفات لم تجد لها أية أصداء في أوساط الحركة الجماهيرية، التي شهدت تراجعاً في حشوداتها في بعض محطاتها، خاصة بعد عمليتي الإغتيال اللتين إستهدفتا شخصيتين – على يد عناصر أصولية مشبوهة - في مخيم عين الحلوة، والتي حصل إجماع على إعتبار أن المستهدف الأول بالتفجير الأمني هو الحركة الجماهيرية التي ما لبثت أن إستعادت زخمها، لتعود قوية بدورها وثابتة على مطالبها. هذا ما أكدته التحركات التي سبقت وأعقبت جلسة مجلس الوزراء (23/8/2019) التي أحالت ملف العمالة الفلسطينية للبحث، إلى لجنة وزارية، برئاسة رئيس الحكومة.

■ ما يجب التأكيد عليه، أنه من الخطأ النظر إلى التحركات الجماهيرية في لبنان باعتبارها حدثا محلياً بين اللاجئين الفلسطينيين وبين وزارة العمل اللبنانية، بل هو إشتباك على تماس مباشر مع المشروع الأمريكي، وهذا ما يفسر إصرار اللاجئين على رفض إجازة العمل، حتى ولو تم الإعفاء من رسومها، لأن هذه الإجازة تكرس منطق التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين كأجانب، ما يشكل مساً بالمكانة القانونية - السياسية للاجئين يصب في خانة الدعوات الأمريكية والإسرائيلية لتصفية قضية اللاجئين من خلال نزع صفة ومكانة اللجوء عن ملايين اللاجئين، بهدف شطب حق العودة إلى الديار والممتلكات.

■ إن كانت الحركة الجماهيرية قد حددت أهدافها وصاغت مطالبها الإجتماعية، وقدمت صورة رائعة عن تماسكها وصلابتها وقدرتها على رسم تكتيكاتها وصياغة موقفها بشكل سريع، إلا أنها لا زالت تشكو من غياب المرجعية الجامعة التي تشرف على التحركات وتعمل على تطوير أشكال التعبير عنها، وإيصال صوتها إلى الأطراف المعنية الفلسطينية واللبنانية. صحيح أن جميع الفصائل واللجان الشعبية والإتحادات والحراكات الشبابية المختلفة تشارك في التحركات، إلا أن هذه المشاركة تتفاوت بين فصيل وآخر، ولم تأخذ بعد شكل المشاركة المنظمة التي تستند إلى قيادة مركزية تنبثق عنها قيادات محلية ولجان إختصاص مركزية ومحلية، وتسيِّر وفود سياسية للتواصل مع الحكومة والأحزاب والتيارات اللبنانية المختلفة، ومع هيئات دولية معنية بقضية اللاجئين.

■ لقد كان اللاجئون الفلسطينيون، خاصة المقيمون منهم في الدول العربية المضيفة، أكثر التجمعات الفلسطينية تأثراً بحالة التراجع التي أصابت أوضاع م.ت.ف ومؤسساتها المختلفة، وما ترتب على ذلك من فقدان الغطاء السياسي الذي كانت تشكله المنظمة، وهو ما أثّرَ سلباً على الوجود الفلسطيني في لبنان برمته، فبات يشعر أنه مكشوف أمام كل سياسات التمييز والإقصاء التي ترتكب بحقه والتي تترجم عادة بحملات تحريض سياسي معلن ضد الشعب الفلسطيني ومخيماته. لذلك قلنا في أوقات سابقة، ونردد الآن، إن أي غياب لمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني سيترك فراغا من السهل لقوى أخرى أن تملأه.. وهنا تكمن أهمية أن تكون منظمة التحرير، بفصائلها ومؤسساتها، حاضرة بقوة في جميع التحركات الشعبية التي يشكل زخمها مصدر قوة للمنظمة وفصائلها يجب الإستفادة منه لصالح قضية اللاجئين والعلاقة الأخوية المطلوبة مع الدولة اللبنانية وجميع مؤسساتها■

(3)

المصادر الخارجية لإنفاق الفلسطينيين في لبنان

تشكل هذه المصادر روافد مالية مهمة لدعم الإقتصاد اللبناني.. ففي حين يرسل العمال الأجانب ما يتقاضوه من أموال إلى أسرهم في الخارج بما يدعم إقتصاديات دولهم، فإن الفلسطينيين ينفقون جنى عملهم كاملاً في لبنان، إلى جانب الروافد المتعددة للتحويلات المالية من الخارج سواء العائلية منها، أو من خلال المؤسسات العاملة في الوسط الفلسطيني. وفي تقديرات بسيطة لحجم مساهمة الفلسطينيين في الإقتصاد اللبناني، يتبين أن مساهمة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تناهز ثلاثة مليارات دولار.. وفي هذا الإطار نشير إلى مايلي:

1- تنفق وكالة الغوث المعنية بتقديم الخدمات التعليمية والصحية والإغاثية، سنويا، مئات الملايين من الدولارات سواء عبر رواتب موظفيها الذين يزيد عددهم عن ثلاثة آلاف موظف، أو من خلال الإنفاق على القطاعات المختلفة الصحية والتربوية والإجتماعية. ووفقاً للأرقام الصادرة عن الوكالة فقد بلغت قيمة الأموال التي أنفقتها الوكالة خلال أعوام 2016، 2017، 2018 نحو 229 مليون دولار، 232 مليون، و155 مليون دولار على التوالي موزعة على الموازنة بأقسامها الثلاث (الصندوق العام، الطواريء، المشاريع التطويرية).. ناهيك عن مصاريف ونفقات الموظفين الدوليين التي تمول من خارج الموازنة العامة (راجع تقرير إستراتيجية تعبئة الموارد لعامي 2016-2018، صادر عن وكالة الغوث - المكتب الرئيسي - قطاع غزه).

2 - الأموال التي تنفقها المؤسسات المختلفة التابعة لمنظمة التحرير والفصائل الأخرى في لبنان والتي تزيد عن 80 مليون دولار سنوياً وفقا للمعطيات التالية: في حساب بسيط لعدد أفراد قوات الأمن الوطني الفلسطيني والمنتسبين إلى الفصائل وكوادرها، ومخصصات أسر الشهداء والشؤون الإجتماعية، والسفارة وغيرها من المؤسسات والإتحادات فإن العدد يزيد عن 15 ألف مستفيد. ولو إفترضنا أن راتب الفرد الواحد، كمعدل وسطي، يبلغ 400 دولار شهرياً، فإن قيمة الرواتب تصل ما بين 70-80 مليون دولار بعد إضافة الموازنات الإدارية والنثريات (تقديرات خاصة).

3- الأموال التي تنفقها مؤسسات المجتمع المدني العاملة في الوسط الفلسطيني والتي يتجاوز عددها نحو 60 مؤسسة تعمل بشكل جدي. ولو إفترضنا أن معدل الموازنة السنوية لكل مؤسسة نحو مليون دولار فهذا يعني أن قيمة ما تنفقه هذه المؤسسات يناهز الـ 60 مليون دولار امريكي (تقديرات خاصة).

4- التحويلات التي ترسلها الجاليات الفلسطينية في الخارج إلى أسرها في لبنان والتي تشكل مصدراً آخرا من مصادر الإنفاق الفلسطيني في لبنان، وعلى سبيل المثال فقط فقد تكونت معطيات لدى لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين الذي يحولون جزءاً من دخلهم شهرياً من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى لبنان بحوالي 35 ألف شخص، بمعدل 550 دولار أميركيا شهرياً، وبذلك تبلغ تحويلاتهم سنويا حوالي مبلغ 230 مليون دولار أميركي (اللجوء الفلسطيني في لبنان: واقع العيش وإرادة التقدّم، صادر عن لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، 2018). وبإمكاننا القياس على ذلك باحتساب عدد الفلسطينيين المقيمين في دول الخليج العربي وفي أوروبا وأمريكا وكندا والذين يرسلون أموال الى أسرهم في لبنان من أجل تقدير تحويلاتهم، مقارنة مع نحو 7.2 مليار دولار قيمة تحويلات اللبنانيين في الخارج إلى أسرهم في لبنان (راجع تقرير للبنك الدولي وردت تفاصيله في صحيفة الشرق الأوسط في 17 أيار/ مايو 2019)، ومع حوالي 3.6 مليار دولار أمريكي قيمة تحويلات العمال الأجانب إلى خارج لبنان، وفقاً لتقرير صادر عن «الإسكوا» في عام 2016 (جريدة الأخبار 10 كانون الأول/ ديسمبر 2018).

5- إضافة إلى ما سبق، فهناك مصدر هام جداً وقد يكون الأكثر أهمية بين مصادر إنفاق الفلسطينيين في لبنان وهو قيمة الإنفاق الإستهلاكي للأسر الفلسطينية في لبنان والذي يقدر بنحو نصف مليار دولار أمريكي وفقاً لاحتساب التالي: يبلغ عدد الأسر المقيمة فعليا في لبنان أكثر من 55 الف أسرة وفقاً للتعداد العام للسكان الذي أنجزته الحكومة اللبنانية عام 2017 وبمعدل وسطي للأسرة الواحدة يبلغ أربعة أفراد ما يعني أن العدد هو حوالي 200 ألف فرد. وقد أشارت دراسة صادرة عن وكالة الغوث والجامعة الأمريكية في بيروت عام 2015 إلى أن متوسط إنفاق الفرد الفلسطيني في لبنان يبلغ 190 دولار شهرياً (المسح الأسري الإقتصادي - الإجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، 15  كانون الأول/ديسمبر 2010: موقع وكالة الغوث على الانترنت www.unrwa.org)، أي 2.280 دولار للفرد سنويا، بمعنى أن مجموع ما ينفقه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يبلغ حوالي 500 مليون دولار أمريكي..

6- إنطلاقا مما سبق، وإلى جانب تحويلات الفلسطينيين في الخارج إلى أسرهم في لبنان، التي إكتفينا منها بمثال تحويلات الإمارات؛ يمكن إحتساب التالي:

  200 مليون دولار متوسط قيمة ما تنفقه وكالة الغوث.

80  مليون إنفاق منظمة التحرير والفصائل.

  60 مليون حجم إنفاق المؤسسات الأهلية.

  500 مليون دولار قيمة الإنفاق السنوي للفلسطينيين..

وبالتأكيد فإن حجم مساهمة الفلسطينيين في لبنان بالإقتصاد اللبناني لا تقتصر على مصادر الإنفاق فقط، بل وأيضا على الموارد البشرية، بما تختزنه من خبرات علمية ومهنية وحرفية وتربوية، وتشكل رافداً مهما في دعم وتطوير الإقتصاد اللبناني. وبالتالي، فإن أي مقارنة ما بين العمالة الفلسطينية والأجنبية لا يمكن أن تستقيم إلا في إطار المساهمة الإيجابية للفلسطينيين في تطوير القطاعات المختلفة للإقتصاد اللبناني■

بقلم/ فتحي كليب