تزاحمت الإستقالات مترافقة مع شدٍّ يجري لجرِّ المنطقة لحروبٍ مُدَمّرة وكَبّحِ جِماحِ من يَعْمل على ذلك خاصة في منطقة الشرق الأدنى القديم وبالذات الجغرافيا الآسيوية فيه، اللعبة السياسية العالمية المُتصارعة تَتَجلى بشكل واضح حيث الصراعات الداخلية في دُوَل اللاعب الرئيسي فيها وبين محاور مُتعدّدة تتجاذب وتتصارع بين بعضها البعض.
السؤال: كيف يُمكن النَظَر للمشهد السياسي في ظِلِّ هذه الصراعات؟
لا بدّ أولا من الإشارة إلى أن الّلاعبين الرئيسيين في هذه المنطقة هم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وإيران وروسيا ومعها الصين إلى حدٍّ ما، في حين أن الّلاعبين الفرعيين أو يمكن إعتبارهم أدوات أو مبررات هم حركات ما يُسمى "المقاومة" في لبنان وفلسطين واليمن والعراق، أما غيرهم من أنظمة عربية وسلطة فلسطينيه ليسوا سوى ديكورات يستقبلون الأحداث الجارية بدون أن يكون لهم فِعْل، وردّات فِعّلهم ليست في وارد الّلاعبين الرئيسيين.
ولنفهم ما يجري حولنا يجب الإشارة إلى المشاهد التالية:
المشهد في الولايات المتحدة: نظرتها للمنطقة تتصارع في داخلها بين موقف الدولة "العميقة" وإدارة "البيت الأبيض" في طبيعة الحلول التي سَتُطرح في الموضوع الفلسطيني لكنها أصبحت تتفق في نظرتها لِ "نتنياهو" بأنه سياسي كاذب ويُسَوّف كل شيء في سبيل الحفاظ على الوضع القائم كما هو ليحافظ على زعامته كملك إسرائيلي لا يضاهيه أحد، وفي نفس الوقت إدارة "البيت الأبيض" تتصارع في داخلها حول مفهوم الخطوط العريضة لما يُسمّى "صفقة العصر" لأن جناح السفير"فريدمان" مع ضم الضفة الغربية وتحت شعار "الدولة الواحدة" وجناح "كوشنير" يقترب أكثر من مفهوم الدولة العميقة ووفقا لمشروع رئيس الوزراء الإسرائيلي المُغتال "رابين" والمُتَمَثّلْ في ضم كافة الكتل الإستيطانية لإسرائيل والسيطرة الأمنية الكاملة على الأغوار والأجواء والطرقات في الضفة الغربية وحلول توفيقية في موضوع القدس تحافظ على "الستاتيسكو" القائم في منطقة الحوض المُقدس، و"لا" كبيرة لعودة اللاجئين مع عودة للبعض تحت مُسمى لم شَمِلْ العائلات،وأيضاً تتفق على منع الحرب الشاملة خاصة مع "إيران" وفي "الشمال" مع الإستمرار في تشديد العقوبات الإقتصادية على المحور "الإيراني" ككل لتركيعه، وهذا يتعارض مع المتطرفين أمثال "بولتون"، والنتيجة كانت إستقالته أو طرده.
المشهد في إسرائيل: هنا نرى صراع مُحتدم داخل الطبقة السياسية في نظرتها للحلول المطروحة حول الموضوع الفلسطيني مع إتفاق شامل على عدم الإنسحاب من الأراضي المُحّتلة في حزيران 1967 ومنع أي عودة للاجئين ونستطيع تحديد معالم السياسات بهذا الخصوص في ثلاثِ توجهات، الأول، يتلخص في سياسة التسويف "النتنياهوهية" الهادفةُ إلى الحفاظ على الأمر الواقع كما هو وقضم الضفة الغربية وخاصة ما يُسمى منطقة "سي" ومنع أي محاولة لإعادة التوحّد بين غزة والضفة، والثاني، يُمثّله اليمين المُتطرف وبالذات المستوطنين الذين يعملون على ضم الضفة الغربية كاملة لإسرائيل وفقاً لمفهوم أيديولوجي "الأرض الموعودة" من الرب في "التوراة" في حين حقيقة الأمر أنهم يتخوفون من فرض حلول دولية عليهم وبالذات أمريكية بمفهوم صيغة الدولتين المتآكلة، وهؤلاء يتحالفون مع السفير "فريدمان" وجناحه ويضغطون على "نتنياهو" ليَمْتَثلْ لخطتهم وهو في سبيل بقاءه ملك لإسرائيل مُستعد لذلك ولكن وفق مفهوم ألتدريج في حين تكون الكيانية الفلسطينية في قطاع "غزة"، أما الثالث، فيَتَمثلْ في رؤية الدولة العميقة في "إسرائيل" والتي أصبح حزب "أزرق أبيض" يُمثلها وهيَ تتطابق مع الرؤية "الرابينية" السابقة مع زيادة في مساحة الضم بسبب توسع الكتل الإستيطانية.
بينما في الموضوع "الإيراني" وما يُسميه "نتنياهو" حرب "الشمال" فالخلاف حول مفهوم "التنفيذ" ومفهوم "التوريط" وليس حول النظرة الإستراتيجية، ف "نتياهو" كان يريد توريط إدارة "ترامب" وجرّها للحرب بالإتفاق مع المطرود "بولتون"، في حين الجنرالات في حزب "غانتس ولبيد" ومعهم الدولة العميقة يريدون الحرب كجزء من تحالف على رأسه "الولايات المتحدة" وغير ذلك فهو دمار ومواجهة غير محسوبة النتائج مع الحليف "الروسي" والذي سيجلب معه "الصين" لا محالة في الأروقة الدولية، خاصة "مجلس الأمن".
المَشهد الإيراني: هو أكثر وضوحا لأنه يبحث عن إعتراف من الدول الكبرى وبالذات من الولايات المتحدة الأمريكية بمصالحه المتَعَدّدة وأنها دولة كبرى إقليمية (وهي كذلك) لها نفوذ إقليمي واسع وبما يؤهلها لأن تتوسع إقتصاديا متحالفة بشكل إستراتيجي في ذلك مع "الصين" و "روسيا"، أما في الموضوع الفلسطيني فهي ستقبل ما يقبله ألفلسطينيين بما يعني ذلك إستراتيجياً إدامة الصراع مع دولة "إسرائيل" لأن النخبة السياسية في "إيران" من إصلاحيين ومُتَشَدّدين مؤدلجين دينياُ، يرون فيها منافس قوي وعقبةٌ أمام الإعتراف الأمريكي والدولي بالقوة الإقليمية الكبرى "إيران"، إضافةً إلى أن المدينة المُقدّسة في فلسطين "القدس" جزء أساسي من تراث الإمبراطورية الفارسية وتحريرها سيؤدي بالضرورة لتزعم العالم الإسلامي وتوطيد العلاقة مع العالم المسيحي.
اللاعبين الفرعيين في ما يسمى حركات "المقاومة" على إمتداد الجغرافيا العربية والإسلامية هم العملة "الصعبة" التي تتسلح بها "إيران" في مواجهة إستراتيجية الخصوم عرباً كانوا أم عجم، ومن خلالهم أصبحت دولة ذات نفوذ واسع أقلق الجميع وأصبح من غير المُمكن تجاوزها مهما كانت العقوبات ناعمةٌ أم خَشنةٌ، بل إنها رأس الحربة خاصة في مواجهة "إسرائيل" بما يتعلق في مفهوم النفوذ أو بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
حكام العرب أخطأوا بشكل إستراتيجي وهم يدفعون الثمن الآن!!!
الخطأ الأول، كان في "العراق" فتم تدميرة وأصبحت "أمريكا" و "إيران" تتقاسم النفوذ فيه بشكل رئيسي، وغالباً ما سيصبح بشكل كامل تحت النفوذ "الإيراني".
الخطأ الثاني، تجاهلوا القضية الفلسطينية ولم يدعموا بقوة حتى القيادة الرسمية الفلسطينية في مواجهة سياسات "نتنياهو" بل فضلوا مجاملة "أمريكا" لمواجهة العدو "الإيراني" على دعم القضية الفلسطينية، وفي نفس الوقت وبإسم محاربة الإرهاب دفعوا الحركات الفلسطينية "الإسلامية والوطنية" المقاومة إلى الحضن "الإيراني" بشكل كامل.
الجريمة الإستراتيجية الكبرى، كانت "سوريا"، تآمروا عليها وجلبوا وسَلّحوا ودفعوا الأموال مع العثماني "أردوغان" لكلّ المُجرمين والقتلة والعصابات في سبيل إسقاط الدولة "السورية"،لم يفهموا أن "دمشق" هي قلب العروبة والعرب، ضَحْوا يقلبهم لأجلِ عيون أنابيب الغاز ولأجل الإنتقام من الرئيس "بشار الأسد" الذي هاجمهم عام 2006 وأسماهم "أشباه الرجال"، لقد أطلقوا النار على قلبهم فتوقف قلبهم، وأصبحت "دمشق" قلبٌ آخر ينبض بشكلٍ كامل مع المحور "الإيراني"، بل إنه "قَلبْ" هذا المحور وركيزته التي تستدعي عشرات آلاف من الشهداء للحفاظ عليه.
أما "اليمن" فقد كانت الفَخْ الذي وقعت فيه "المملكة العربية السعودية" وحلفاؤها وذهبت إلية طواعيّة بإسم أمنها القومي، رغم أنهم كانوا قادرين على إحتواء "الحوثي" بالجيرةِ الحَسَنةِ بالحد الأدنى وبالدعم المالي السخي لبناء "اليمن"، لكن عنجهية القوة والتشجيع "الأمريكي" و "الإسرائيلي" أوقعتهم في حرب إستنزافية لا طائلَ منها، وأدّت لأحقاد بحاجة لفترة من الزمن لكي تُشفي الجروح والدماء التي سالت من جهة، ومن جهة أخرى أصبح النفوذ "الإيراني" أكثر شعبيةٌ وأكثر رسوخاُ عما سبق.
العرب كأنظمة وحكام وفقا لما يجري ليس لهم علاقة بمفاهيم الإستراتيجيا بل هم تابع لخُطط وإستراتيجة اللاعبين الرئيسيين، حتى أنهم لم يصلوا لمرتبة اللاّعب الفرعي، ولن يصلوا ما دامت أعينهم وبوصلتهم ليس "فلسطين".
ضِمن السياق أعلاه، يقف الملك المزعوم "نتنياهو" على رِجلٍ ونصف، فسياسة حرب "الشمال" فشلت، وسياسة "التوريط" فشلت، ولم يبقى مُتَشدّدين للتحالف معهم غير "فريدمان" الذي يُريد ضم كل الضفة الغربية لإسرائيل وبما يتعارض مع غالبية النُخَب "الإشكنازية"، وبقيت لِ "نتنياهو" فقط "غزة" ليستعرض عضلاته فيها وعليها وليحاول إنقاذ نفسه، إنّهُ بَعْدَ صواريخ "أسدود" وهروبه للملاجيء يبحث عن صَيّدِ ثَمين لِيَغْسِلَ عاره ويعيد نفسه لمربع الفوز في الإنتخابات القريبة، وهذا بالتأكيد سيجلب علية "صواريخ" تصل لبيته في "قيسارية"، وستكون خطوته إنتقامية غير محسوبة تستدعي قرارات إستراتيجية قَدْ تُشعل المنطقة ككل.
الملك "نتنياهو" بين نارين، نار السِجن ونار الإنتحار، فهل سينتحر "نتنياهو" للهروب من نار السجن؟!!!
بقلم/ فراس ياغي