قد يضطر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى الدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة بعد الهزيمة النكراء التي مني بها (3/9)، في مجلس العموم بعد أن وافق النواب على مذكرة ترمي لتأجيل خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي إلى ما بعد 31 تشرين الأول/ أكتوبر، تفادياً لحصول «بريكست» من دون اتفاق.
وفي ختام نقاش حام، أجرى مجلس العموم تصويتاً حاسماً حقّق فيه النواب الرافضون لحصول بريكست بدون اتفاق فوزاً مدوّياً، إذ أتت نتيجة التصويت 328 مقابل 301، مما سمح لهم الإمساك بزمام الأجندة البرلمانية (التي عادة ما تكون في يد الحكومة)، وبالتالي أصبح بإمكانهم طرح مشروع قانون يلزم رئيس الوزراء المحافظ بإرسال كتاب إلى بروكسل يطلب فيه إرجاء بريكست إلى 31 كانون الثاني/ يناير 2020، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد ينظّم خروج المملكة من صفوفه.
وقبل التصويت، كان جونسون خسر أغلبيته المطلقة في مجلس العموم بعد انشقاق نائب محافظ والتحاقه بصفوف حزب مؤيد لأوروبا. وفي مشهد تحدٍ، انتقل النائب المحافظ فيليب لي من مقعده في مجلس العموم، فيما كان جونسون يلقي خطابه، إلى صفوف حزب الديموقراطيين الأحرار، مبرّراً خطوته بالسياسة التي ينتهجها جونسون في شأن خروج بريطانيا من الاتحاد، مضيفا أن القرار «لم يكن سهلا بالنسبة إليه، خاصة وأنه ظل عضوا في حزب المحافظين على مدى 27 عاماً». وبانشقاق هذا النائب عن «المحافظين»، لم يعد رئيس الوزراء يحظى بالغالبية في المجلس الذي يضم 650 مقعدا، (إذ أنّ جونسون كان يمتلك أغلبية بصوت واحد فقط). كما أنّ هذا لا يعني سقوط الحكومة تلقائياً، فلا يحصل ذلك إلا إذا خسرت الحكومة الثقة في مذكرة تصويت رسمية.
لكن الهزيمة التي تكبّدها جونسون لم يكن سببها انشقاق هذا النائب وحده، بل تحقّقت بفضل تصويت 21 نائباً محافظاً إلى جانب نواب المعارضة العمالية، والنواب المؤيدين للاتحاد الأوروبي من الحزب الوطني الاسكتلندي والليبراليين-الديمقراطيين. ومن أبرز النواب الذين تمرّدوا على رغبة رئيس الوزراء وصوّتوا إلى جانب المعارضة نيكولاس سومس، حفيد رئيس الوزراء الراحل وينستون تشرشل، وفيليب هاموند وزير المالية السابق. وسيتم طرد هؤلاء النواب الـ21 جميعاً من حزب المحافظين وفقاً لما توعّد به جونسون.
إرجاء بريكست
وقبيل التصويت ندّد جونسون، (الذي بنى زعامته للمحافظين على تعهده بإتمام بريكست بأي ثمن الشهر المقبل)، بمحاولات عدد من النواب عرقلة استراتيجيته الخاصة بـ«بريكست»، معتبراً أنّ من شأن هذه المحاولات «إضعاف موقفه خلال التفاوض على اتفاق انسحاب جديد مع الاتحاد الأوروبي». ويعتقد جونسون أنّ إبقاء «خيار الانسحاب من دون اتفاق» على الطاولة، سيجبر بروكسل على الاستسلام في اللحظات الأخيرة، والموافقة على اتفاق اقتصادي أفضل بالنسبة لبريطانيا.
وحذّر جونسون من أنه «لن يوافق تحت أي ظرف» على الطلب من بروكسل إرجاء موعد بريكست، مجدّداً تعهده بإخراج بلاده من الاتحاد، سواء تمّ ذلك باتفاق أم بدونه، تنفيذاً لرغبة 52 % من البريطانيين الذين صوّتوا خلال استفتاء عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد.
يُذكر أنّ جونسون تولّى رئاسة الحكومة قبل أقل من ستة أسابيع، وذلك بعد أن أجبرت رئيسة الحكومة السابقة، تيريزا ماي، على الاستقالة لإخفاقها ثلاث مرات في تمرير اتفاق بريكست الذي أبرمته مع بروكسل. لكن جونسون واجه منذ البدء معارضة حتى من نواب حزبه القلقين من أن تهديده بالخروج من الاتحاد من دون اتفاق، يجازف بالحاق أضرار اقتصادية ببريطانيا، وخاصة لجهة وضع بريطانيا كواحدة من أهم المراكز المالية في العالم، ووجهة مستقرة للمستثمرين الأجانب.
وكان زعيم حزب العمال البريطاني المعارض جيريمي كوربين أعلن (2/9)، أن حزبه «سيفعل كل شيء ممكن لمنع خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق». وأضاف إن المعركة من أجل منع الخروج دون اتفاق «ليست صراعاً بين من يريدون مغادرة الاتحاد الأوروبي ومن يبغون البقاء فيه، وإنما معركة غالبية مناهضة لأقلية تريد خطف نتيجة الاستفتاء لتحويل مزيد من السلطة والثروة نحو من هم في قمة السلطة».
انتخابات مبكرة
وكان جونسون أحال إلى مجلس العموم مذكرة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في 14 تشرين الأول/ أكتوبر. وفي حال نجح النواب الرافضون لبريكست بدون اتفاق في إلزامه بإرجاء موعد الطلاق بين لندن وبروكسل، عندها سيطرح المذكرة على التصويت، علماً أنّ إقرارها يتطلب أغلبية ثلثي النواب. وقال جونسون عقب هزيمته في التصويت: «لا أريد إجراء انتخابات، ولكن إذا صوّت النواب لإيقاف المفاوضات والدعوة إلى إرجاء آخر عديم الفائدة لبريكست، والذي قد يستمر لسنوات، فإن (الانتخابات) ستكون في هذه الحالة الطريقة الوحيدة لحلّ الوضع»!.
أزمة غير مسبوقة
وكان جونسون أثار غضب نواب كثيرين؛ (ليس من خصومه في أحزاب المعارضة فحسب، بل حتى داخل حزب المحافظين نفسه!)، عندما قرر تعليق عمل البرلمان لخمسة أسابيع، حتى 14 تشرين الأول، في مناورة سياسية مكشوفة تترك للنواب القليل جداً من الوقت لمعارضة «طلاق» من دون اتفاق.
ووصف القرار من قبل بعض النواب بأنه «انقلاب وازدراء بالدستور وتحد سافر للديمقراطية في أعرق الديمقراطيات في العالم». وهو القرار الذي أثار كذلك غضب الشارع، حيث نزل آلاف المتظاهرين (31/8)، احتجاجاً عليه في العاصمة لندن وعدد من المدن البريطانية الأخرى.
وكان جونسون هدّد أيضاً بإقصاء «المتمردين» من حزبه، إن صوتوا لصالح اقتراح المعارضة. وهو ما علّق عليه مراقبون بأن رئيس الوزراء المغمور «يقامر بشق صفوف حزبه انتصارا لاستراتيجيته، وهو ما سيدفع الحزب ثمنه باهظا في الانتخابات القادمة». وقال الوزير المحافظ السابق نيك بولز إن «اليمين المتشدد هيمن على الحزب المحافظ»، مضيفاً أنّ الحزب «وقع ضحية ما قد يُعدّ هوسا بأشد أشكال بريكست».
وكشف الاستفتاء على «بريكست» وما تبعه من تطورات، عن انقسامات عميقة بشأن قضايا أكبر بكثير من الاتحاد الأوروبي؛ حيث أثار جدلاً وتساؤلات كل شيء؛ من الانفصال إلى الهجرة والمهاجرين إلى الرأسمالية والإمبراطورية، وصولاً إلى «الحداثة البريطانية».
فأمام زلزال بريكست وارتداداته، باتت الديمقراطية البريطانية، في نظر كثيرين، على المحك، وبات مبدأ التوازن بين السلطات وفعالية عمل البرلمان مطروحاً هو الآخر وعلى الملأ، وخصوصاً بعد أن استهلك سنتين من عمره في محاولات فاشلة للعثور على صيغة مقبولة ومرضية لترجمة بريكست!
ويسود اعتقاد لدى الرأي العام البريطاني بأن علاقة لندن الخاصة مع واشنطن، وضمن إطار دول «الكومنولث»، لا يعوضان عليها خسارة مقعدها الأوروبي. وما يشغل الطبقة السياسية البريطانية الآن، ليس «بريكست» وحده، بل كذلك «كلّ ما تبقى من أمجاد الإمبراطورية الغابرة، وسط عودة نغمة العصبيات القومية»، وطرح احتمال تفكك وحدة المملكة في ظلّ هشاشة الوضع الإيرلندي والمطلب الاسكتلندي بحق تقرير المصير، في وقت تتراجع فيه الديمقراطيات في أوروبا والعالم، ويبرز فيه ميل ونزوع الشعبويين (وجونسون واحداً منهم) للخداع والتضليل والتخلي عن أية قيم ومبادئ سياسية وأخلاقية في لعبة الصراع على السلطة؟!.
بقلم/ فيصل علوش