قبل أن ينشأ الكيان الصهيوني ويستوطن المهاجرون اليهود في فلسطين، وأثناء تشكيلهم لعصاباتهم العسكرية المسلحة، التي ارتكبت أفظع المذابح وأبشع المجازر بحق المواطنين الفلسطينيين، ومنذ إعلان دولتهم ورفع علمهم واعتراف الأمم المتحدة بهم، وهم يحضون بالرعاية الأجنبية، ويتمتعون بالحماية الدولية، ويتلقون المساعدات الدورية، ويحصلون على الأسلحة الفتاكة والتقنية الحديثة، ويتلقون الدعم المالي والتعاطف الإنساني، ويلقون التشجيع والمساندة، وينبري دوماً للدفاع عنهم كبار قادة العالم وأعظم الدول وأعرق الحكومات، الذين لا يتورعون عن تهديد خصومهم وإعلان الحرب على أعدائهم، وهم على هذا العهد يتواصلون ويتوارثون، ويتواصون ويتعاهدون، وبالوفاء به يلتزمون ويعملون، وكأنه تكليف رباني وواجبٌ ديني.
المدافعون عن الكيان الصهيوني والمؤمنون به، والحريصون عليه والمؤيدون له، يعلنون صراحةً أن الرب قد كلفهم بحماية إسرائيل والدفاع عنها، وأنهم ملزمون بسياستهم وغير مخيرين في قراراتهم، فالرب هو الذي يرسل دائماً من يساعد دولة إسرائيل ويحميها، ويكون في خدمتها ويعمل لصالحها، فهذه مهمة دينية يتشرفون بالقيام بها، ويعتزون بتنفيذها والوفاء بها، ويبدو أنه لن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب آخرهم، كما لم يكن جورج بوش أولهم، بل سيكون قادة غيرهم وسيأتي رؤساءٌ من بعدهم، والويل لمن خالفهم أو اعترض عليهم، إذ سيحل عليه غضبهم وسينزل به سخطهم، فإسرائيل في شريعتهم وجدت لتبقى وتأسست لتدوم وتسود، وهي في سياستهم حاجة وضرورة، وفي حياتهم مصلحة ومنفعة.
وعلى الرغم مما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرهم من خدماتٍ جليلةٍ للكيان الصهيوني، إلا أنهم يشعرون تجاهها بالتقصير، ويتقدمون إليها بالاعتذار، ويعدونها بالجديد والمزيد حتى ترضى، وتبقى هي الأشد قوة والأكثر تفوقاً في المنطقة، رغم أنهم يرون اعتداءاتها، ويرصدون جرائمها، ويعرفون نواياها، ويدركون أهدافها، ويعلمون أنها ليست على الحق أبدا، بل هي الظالمة والمعتدية، إلا أنهم يمضون معها ويساندونها، ويبررون لها ويدافعون عنها، ويخافون على أمنها ويخشون على استقرارها.
يجزع العالم للقتلى الإسرائيليين ويصيبهم الفزع لمنظر دمائهم، وتحزنهم دموع الباكين منهم، وتقلقهم الصور التي تنقلها وسائل الإعلام لهم، التي تظهر أطفالهم ونساءهم وهم في حالة فزعٍ وهلعٍ، ويشغلهم مصير جنودهم الأسرى وأشلاء جنودهم القتلى، ويحرصون عند زيارتهم للكيان على زيارة نصبهم التذكاري والوقوف بخشوع أمام متحف محرقتهم، كما يستقبلون ذوي الجنود المفقودين ويستمعون إليهم وينصتون لهم، ويعدونهم ببذل أقصى الجهود الممكنة، وممارسة مختلف الضغوط على القوى الفلسطينية التي تحتجزهم، رغم أنهم أربعة جنودٍ أو أكثر، وبقايا أشلاء وأجزاء أجسادٍ لا تذكر.
بينما يعتقل الاحتلال آلاف الأسرى الفلسطينيين من الرجال والنساء والأطفال، يوضيق عليهم ويعذبهم، ويحرمهم ويصادر حقوقهم، ويعزلهم ويمنع زيارتهم، ويهمل علاجهم ويتأخر في تقديم الدواء لهم، ويقمعهم دائماً ويقتل بعضهم أحياناً، لكن العالم لا ينتبه لهم ولا يقلق لشأنهم، ولا يعنيه أمرهم أو يشغله مصيرهم، ولا يطالب بالإفراج عنهم أو تحسين شروط اعتقالهم، كما هو حاله مع شؤون الإسرائيليين وشجونهم، رغم أنهم آلاف وقد مضى على اعتقال بعضهم أكثر من عشرين سنة متوالية.
يطلق الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً يد إسرائيل لتفتك بالمنطقة وشعوبها، وتقتل أبناءها وتدمر بلادها، إذ يحق لها وفق معاييرهم أن تعتدي وتنتهك، وأن تضرب وتقصف، وأن تقتص وتعاقب، وأن تنهب وتسرق، وأن تغتصب وتصادر، وأن تحتل وتستولي، فقانونهم الأعوج يسمح لها، ويمنحها الحق في أن تقترف كل تلك الجرائم وغيرها، بحجة دفاعها عن نفسها وحمايتها لمستوطنيها، واتقاء لخطرٍ مرتقبٍ أو احباطاً لاعتداءٍ متوقعٍ.
ويجوز لها خلال عدوانها أن تفرط في استخدام القوة، وأن تبادر بالضربات الاستباقية، وأن تجتهد في العمليات الوقائية، ولا بأس إن سقط خلال عملياتها العدوانية قتلى وجرحى، أو تسببت في حالات هدم وتخريب، ونزوحٍ ولجوءٍ، فالقانون الدولي الذي صنعوه بأنفسهم ولأنفسهم، يبرؤها من سوء النية وقصد الإضرار، ويصف ما تقوم به أنه دفاع عن الشعب ومصالحه وأمنه مشروعٌ ومباحٌ.
عوجاء هي السياسة الدولية، وعرجاء هي عدالتهم، وعوراء هي عينهم التي يرون فيها، إذ إن فكر المُعتدَى عليهم أو هَمَّوا بالرد أو الثأر والانتقام، وهو حقٌ مشروعٌ لهم، فإن عملياتهم تصبح خارجة عن القانون، ومخالفة للوائح والنظام، وتصنف بأنها عمليات عدوانية إرهابية غير مشروعية، ومن قبل تمارس دول العالم الكبرى الضغط على المقاومة وحاضنتها، لمنعها من الرد، وإجبارها على ضبط أدائها ولجم غضبها، أو قد يشكلون حلفاً دولياً لمحاربة أصحاب الحق وأهل الأرض، إكراماً لإسرائيل علها ترضى، وحرصاً على أمنها علها تبقى.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 14/9/2019