ثمة حاجة ماسة إلى نسق سياسي جديد تحدد مساره قيادة سياسية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين ولا يقتصر تركيزها السياسي و التمثيلي على جغرافية الضفة الغربية و قطاع غزة , وسيتطلب ذلك الابتعاد عن إطار أوسلو والتزاماته وسياسة "الامرالواقع" الحمساوية, وإعادة التفكير بالرؤية السياسية والاستراتيجية الفلسطينيتين, وكذلك بدور المؤسسات الوطنية والمدنية، ليتسنى للفلسطينيين جميعا, أن يتحوّلوا إلى لاعبين سياسيين مُنظمين وأكفاء يتصدرون المقاومة الوطنية والمجتمعية ضد المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي.
ان الإنكار المتعمد للرسمية الفلسطينية لأثار أوسلو ونتائجه التدميرية (فلسطينيا) ,فاقم المشكلات الناجمة عنه ، لأنه من الأساس تمت صياغته على هامش و كواليس الرؤية والاجماع التوافقي الفلسطيني ,ولم تجر الرسمية الفلسطينية اية مراجعة نقدية له, فضلاً عن أن ذلك, أفضى إلى تكلّس العقل السياسي الفلسطيني السائد، الذي كفّ عن البحث عن خيارات بديلة، ناهيك عن إشاعته البلبلة في إدراكات الفلسطينيين الجمعية، بما فيها إدراكاتهم لمصيرهم المشترك ولعلاقتهم بقيادتهم التمثيلية.
نحو تجديد مؤسَّسي:
إن الهوية السياسية والثقافية الفلسطينية والمثال الأعلى المُدرَك للوحدة الفلسطينية ما زالت أصداؤهما تتردد بقوة، غير أن الشعب الفلسطيني والذي يعاني التشتت السياسي والجغرافي والاغتراب السياسي عن حالته الوطنية على حد سواء، وتكلس الفكر السياسي لمرجعيته, الأمر الذي يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى التجديد المؤسسي (مركزيا).
ورغم الإقرار الشعبي الفلسطيني ومثقفيه بضعف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الوطنية والتمثيلية، لا زالوا يعتبرونها كيانا حيويا ووطنيا (شرعيا وتمثيليا)، وهي المفتاح الرئيسي لإحياء المشروع الوطني الفلسطيني وتجديد مؤسساته، بالترابط مع كل ما هو نقابي واجتماعي ومدني داخل المجتمع الفلسطيني. فالسلطة الفلسطينية أخذت بالضمور والانحسار السياسي والوطني وهي تبذل جهدها اليوم لتقديم الخدمات الادارية العامة والمحافظة على سيولتها النقدية وامتيازاتها الشخصية, وقد فشلت في رعاية جيل جديد من المواهب والكفاءات الشبابية تنمويا, وثمة دلائل واضحة كل الوضوح على هجرة الأدمغة والشباب الفلسطيني من ميدان المواجهة (الوطنية والاقتصادية).
في السياق نفسه, هناك العديد من الفصائل الفلسطينية التقليدية والتي تواجه تحديات جسيمة, داخلية و خارجية, فقد تنازلت وفقدت (فتح) إحساسها التاريخي برسالتها الوطنية بعد عقود طويلة من ممارسة السلطة، وهي تؤدي وظيفتها الآن كشبكة للرعاية الخدماتية لا كحزب سياسي وطني تحرري, وتواجه (حماس) مشاكل أعمق من ذلك, غياب الاستراتيجية الوطنية، وضعفها في الضفة الغربية وعجزها عن إدارة دفة الحكم في غزة، وفشلها في طرح خيار حقيقي للمقاومة، ووضعها الحالي على هامش اجندة الرأي العام الدولي وتجاذباته, في الوقت الذي وافقتا فيه اي ( فتح وحماس)على تقسيم عملي وسلطوي لفلسطين، جغرافيا وديمغرافيا وسياسيا, مما أدى إلى تَخنْدُق كل منهما وراء رؤيته السياسية الفئوية,على حساب التيار القوي في أوساط الفلسطينيين الذي يرى أن هذه المنافسة اللامبدئية والسلطوية، ساهمت في تقويض وحدة الشعب الفلسطيني، كما أنها أسهمت في تداعي مؤسساته المجتمعية منها والوطنية والتمثيلية, والى تدني تجليات القضية الفلسطينية و مركزيتها إقليميا ودوليا ,اضف الى ذلك, فقدان بقية الفصائل الفلسطينية التقليدية قدرتها على اجتذاب الأجيال الجديدة من الشباب والكفاءات الفلسطينية المهنية والاطر الجماهيرية المتنوعة، فلا زالت هذه التيارات التحتية الجماهيرية والتي أدت إلى ولادتها وانطلاقتها أصلا, تتمتع بحضور مؤثر في المجتمع الفلسطيني ولكنها – للأسف – على هامش بيروقراطيتها الفصائلية والتنظيمية, كما أن البنى التنظيمية والوطنية والمؤسساتية التي تجسد الهُويّة الوطنية الفلسطينية آخذة بالتحلل والانهيار، بيد أن الهوية الوطنية الفلسطينية نفسها ما زالت ثابتة الأركان في الضمير الجمعي والوطني الفلسطيني.
ثمة مؤشرات عديدة على العنفوان والروح الوطنية الديناميكية على المستويات الوطنية اللامركزية الفلسطينية , فالنقابات، والاتحادات المهنية ، والأطراف الفاعلة الأخرى في المجتمع المدني، تمارس نشاطا سياسيا داخليا نابضا بالحياة, وتتشابك مع القادة الأكثر شبابا ممن يستطيعون إعادة الروح إلى السياسات الفلسطينية, فيما توشك السلطة الرسمية الفلسطينية على الاندثار والتهميش وانتقالها من جيل إلى اخر.
نرفض صفقة القرن ونلتزم بأوسلو واستحقاقاته؟!!:
منذ اتفاقيات أوسلو العام 1993، باءت كل الجهود المتتالية للتفاوض حول الحل النهائي بالفشل, ومع تزايد الشكوك حول الطرق التي قد تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، فإن الهدف النهائي لم يعد هو العنصر الموجّه للحسابات السياسية الرسمية, ونتيجة لذلك، بدأت الشرعية السياسية الفلسطينية تتآكل مع تصاعد الرأي في أوساط الفلسطينيين بأن قيادتهم الوطنية عاجزة عن طرح رؤية استراتيجية وطنية ومدنية تفصيلية متماسكة, وسيؤدي المسار الحالي لا محال إلى استمرار الاحتلال وقطعان مستوطنيه، وزيادة وتيرة الاستيطان والضم والتهويد الإسرائيلي, واستفحال الانقسام الاجتماعي والسياسي و الجغرافي الفلسطيني (وطنيا ومؤسساتيا وتمثيليا).
وعلى الرغم من ضمور النشاط المؤسسي الفلسطيني، تبرز في الأفق الآن, بعض المؤشرات على نشاط ديناميكيّ – وطني واجتماعي مدني -على مستوى المواقع الفرعية والجغرافية الفلسطينية, فهناك نشاطاً سياسياً واجتماعيا داخلياً نابضاً بالحياة، الأمر الذي خلق الروابط بين الفئات الشبابية المختلفة (جغرافيا), وأتاح فرصة المشاركة للقيادات الشبابية التي كانت تتعرّض على العموم إلى الإقصاء من جانب السلطة الفلسطينية ومؤسساتها في رسم أولويات المواجهة الفلسطينية مع المشروع الامريكي - الاسرائيلي، في حين ,ان المقاربات الوطنية البديلة التي يجري تبنيها، مثل حملة مقاطعة "إسرائيل" وابداعات المقاومة الشعبية والمدنية السلمية وادواتها, فإنها تنبثق من المجتمع المدني الفلسطيني الناشط وليس من مراكزالقوى التقليدية الفلسطينية، بل إن اكثر الفلسطينيين يتوقعون أن يكون المجتمع المدني ومفاعيله – لا مركزية الأحزاب والقوى السياسية – هو المِهاد والتربة الخصبة لزراعة ونمو جيل من القياديين الفلسطينيين الراديكاليين وطنيا ومبدئيا في المستقبل القريب.
لم يكن تغييرُ الموقع السياسي والمنظومة الفكرية للعديد من القوى الفلسطينية, باستخدام مبرّراتٍ سياسيّةٍ موضوعية عند البعض ,او تسويقية براغماتية عند البعض الاخر, مسألةً جديدةً في التاريخ الفلسطينيّ المعاصر, فعلى صعيد الفكر السياسيّ الفلسطيني، تدحرج الخطابُ الرئيسي للحالة الفلسطينية من :
"تحرير فلسطين التاريخية وإقامة الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة على كامل التراب الوطنيّ الفلسطيني"؛ إلى خطاب "دولتين لشعبين" مرحليا؛ ليصل أخيرًا مع اتفاقيّة أوسلو ونتائجها التدميرية الى سلطة الحكم الذاتيّ "مخترة بدون ختم مختار"، وتحوّلِ هذه السلطة إلى موظّفٍ أمنيٍّ صرْف، مهمّتُه حمايةُ المستَعمِر ومستوطنيه! وما " التنسيق الأمني المشترك" بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية خيردليل على ذلك.
هذا الانزلاق الخطير في الموقع والفكر السياسي ,من شعار "حل الدولتين" الى اوسلو واستحقاقاته ونتائجه, اتى تعبيرًا عن مصالح الشريحة البيروقراطيّة التي نمتْ وتضخّمتْ وترعرعت في مؤسسات السلطة الفلسطينية واداراتها, عبر التمويل الخليجيّ أساسًا وللمقايضة السياسية حتما, فغدتْ مناصبُها وامتيازاتُها وسلطتُها ورأسُ مالها الاجتماعيّ والمهني أهمَّ من المسألة الوطنيّة وامتيازاتها, لذا, وجدتْ تلك الشريحة البيروقراطية والإدارية الوظيفية حليفَها الأساسي مع الرأس المال الفلسطينيّ المهاجر والخليجي بدرجة أساسية.
في ذات السياق ,وعلى سبيل المثال لا الحصر, بعض الفصائل الوطنية الفلسطينية والتي تدعي اليسارية منها, لحقت بركب السلطة وامتيازاتها الوظيفية, من دون أنْ تمتلك حتى مجرّدَ القدرة على التمايز اللفظيّ عن نهج السلطة وفكرها, فاضحت ديكورا لها لا اكثر ولا اقل, ودعموا تراجعَهم الموقعي والفكري بسلسلةٍ من التبريرات الإيديولوجيّة لتكون بمثابة "مراجعة فكريّة ضرورية للمتغيرات الإقليمية والدولية"؟!,وهل هناك مراجعة نقدية موضوعية بحجة حماية "المشروع الوطني" والتأقلم مع "المتغيرات" تقود الى تبرير الانهيار السياسي والانبطاح والاستسلام؟!.
ان التاريخ والسمعة النضالية , ليست "جوازَ سفر" إلى مواقعَ تفترق عندها الوطنية !!! من يرسم متطلّبات النضال الوطني في سمته المرحلية والتأكيد على الثوابت، مقابل الاصطفاف في طريق خدمة المشروع المعادي للقضية الوطنية و حقوقها, لان الخطاب الشعبويّ حول "التاريخ النضاليّ السابق" لتسويق الانهيار والعجز في الأداء السياسي، و التمترس خلف مصطلحات "البدايات" و"رموز الثورة", ليس اكثر من التبرير للتنازلات السياسية المجانية و السياسات التوصيفية البراغماتية لواقع الحال, وهو أيضا, تدعيم للدعاية الشعبويّة المبرِّرة للتنازل والسقوط السياسي في احصان المشروع التصفوي الانهزامي المتناقض مع أولويات وابجديات المشروع الوطني الفلسطيني.
ليس ثمّة ما هو أسوأ من اعتماد الانحطاط والتخلف في الأداء السياسي و البرنامجي مدخلًا نظريًّا إلى التغيير ,فالهزيمة السياسية يجب أن تكون مدخلًا إلى مراجعة السياسات والتوجّهات والبرامج النضالية من أجل تجديد التمسّك بالمبادئ والثوابت والمكتسبات الوطنية والسياسية من جهة، واجتراح آليّاتٍ جديدةٍ للعمل الوطني والجماهيري من جهة أخرى.
ان التجديد والتغيير في الحالة الفلسطينية ابعد ما يكون عن" المركزية الفلسطينية", لتحاشي سلطة الجغرافيا وسلطة الاحتواء، لابد من السعي وراء التجديد الفلسطيني من "اللامركزية الفلسطينية", في الأطر الجماهيرية والنقابية والمؤسسات المدنية والاجتماعية ,لان سلطة المركز الفلسطيني والتشتت الجغرافي سيحولان دون ذلك.
بقلم/ د. باسم عثمان