المشهد في اسرائيل تحكمه عدة عوامل مرتبطة بطبيعة التأسيس التي قامت عليها كحل للمسألة اليهودية في أوروبا وترابط ذلك مع دورها الوظيفي في خدمة الاستعمار الغربي في المنطقه والذي كان احد الأسباب لقيامها، إضافةً لارتباطها بمفاهيم أمنيه كونها دولة احتلال واستيطان عدا عن المفاهيم التوراتية المرتبطة بفكرة تشكيل الكيان "الاسرائيلي" في "فلسطين" منذ الأساس والذي صاحبه صراعات داخليه بين العلمانيين والحريديم على طبيعة هوية الدولة كان يتم تجاوزها وفقاً لمفاهيم الصهيونية العلمانية كنتيجة لموازين القوى الداخلية.
في فترة الملك "نتنياهو" تم تقوية الفكر "الحريدي" والوطني الصهيوني الديني على حساب علمانية الدولة كفكره صهيونية قادها مبام وتفريعاته فيما بعد من حزب "العمل" الى "ميرتس" وفي نفس الوقت كانت صهيونية الليكود ايضا علمانية لكنها أقرب للفكر الوطني الصهيوني الديني، وهذا كله ارتبط أيضا بالتناقض بين "الاشكناز" ذي الغالبية العلمانية و"السفارديم" الذين بطبعهم مُتدينين ويعانون من الإضهاد من قبل حزب "مبام" سابقا، ولاحقا جاءت الكتلة الروسية التي بمجملها ترفض بالمطلق الفكره الحريديه والدينيه وعلمانيتها هي الاقوى.
وبالنظر لمشهد ما بعد الصهيونية في إسرائيلي خاصة بعد الانتخابات نجد ان المصالح الشخصية المرتبطة بفكرة واحده في كثير من الاحيان تطغى على غيرها، فحزب "الجنرالات" و"ليبرمان" يرون في "نتنياهو" قيادة فاسدة مستعدة لتسليم "الحريديم" ما يريدون في سبيل بقاءه ملكا لإسرائيل كون صراع "نتنياهو" بالأساس هو شخصي اكثر من اي شيء آخر، إسرائيل الآن تعيش في فترة ما بعد الصهيونية وهذا بحد ذاته يجد تعبيراته في الصراع على هوية الدوله وطبيعتها المستقبلية بما يؤسس لاحقا لقبولها بشكل علني وكجزء من المحاور في منطقتنا.
الجميع ما عدا اليمين المتطرف من مستوطنين، موحدين استراتيجيا في مفهوم الامن والنظرة للفلسطينيين، والخلافات وحِدتها ليست في طبيعة الاستراتيجيا وإنما في الطريقة والأسلوب، التعامل بشدة وحزم ام عبر تفاهمات وتهدئه بما يتعلق بقطاع غزه، والحفاظ على مكون السلطة الفلسطينية في الخدمه الامنية بعيدا عن مفاهيم تؤسس فعلياً لمفهوم الدولتين.
الجديد في هذا المشهد الذي يرجح صعود "غانتس" بشكل مرحلي لرئاسة الوزراء باعتقادي مسألتان، الاولى، إنهاء حقبة الملك "نتنياهو" الفاسدة والتي ادت لصعود الارثوذكسية اليهودية بشكل متسارع، والثانية تتعلق بالخطة الامريكية التي تتطلب حكومة مستعدة للمفاوضات مع الجانب الفلسطيني وبما يؤسس لكيان فلسطيني مفصول ديمغرافيا عن دولة اسرائيل ولكن تحت مظلتها السيادية لاعتبارات الامن القومي الاسرائيلي ومصالحها الاقتصاديه والتوراتيه.
الملك "نتنياهو" يصارع للبقاء او للعفو ومغادرة الحلبة السياسية، لذلك يستخدم خبرته ودهاءه لتحقيق أحدهما، وهذا سيطيل عملية تشكيل الحكومة الاسرائيلية بعض الوقت، لكن في النهاية سيكتشف شركاء "نتنياهو" في حزبه وفي الاحزاب اليمينية أنهم كانوا جسر العبور وشبكة الامان للملك وعائلته من تهم الفساد التي تلاحقه ليصل الى صفقة او عفو ويعتزل.
المشهد ما بعدَ الصهيونية في إسرائيل يتفاعل بقوة وسيكون بدون "نتنياهو"، لكنه وفي خلال فترة بسيطة سنرى تشظي للأحزاب الكبيرة واليمينية في ظاهرة تُعيد طبيعة التوازنات الداخلية وفقا لمفاهيم جديدة أساسها هوية دولة "إسرائيل" وحدودها وعلاقاتها بالجيران ونظرتها للحلول المقترحة لحل القضية الفلسطينية إستعداداً للإنخراط والتحالف ضمن المحاور القائمة على الأرض، بينما ستحافظ احزاب الحريديم على وحدتها وقوتها التي ستتصارع مع الكتلة "الروسية" التي يمثلها "ليبرمان" بشكل حاد، والسؤال المطروح الآن: هل تستطيع إسرائيل ما بعد الصهيونية حسم هوية الدولة القادمة وحدودها؟!!! أم أن التوراتيين من مسيحيين صهاينة ومستوطنين وصهيونية دينية وحريدية ستخطف الهوية لتصبح "حشمونائية"؟!!! في كلتا الحالتين "إسرائيل" ما بعد الصهيونية ليست "إسرائيل" الصهيونية الهرتزلية البنغورينية.
بقلم/ فراس ياغي