تلقى حزب «روسيا الموحدة» الحاكم ضربة موجعة في الانتخابات المحلية والإقليمية (8/9)، إذ حققت المعارضة الروسية فوزاً واضحاً في انتخابات مجلس مدينة موسكو، بعد أن فاز مرشحوها في 20 دائرة انتخابية من أصل 45 دائرة، ما كسر إلى حدّ ما احتكار الحزب الحاكم للمجلس الذي كان يسيطر على 38 من مقاعده. كما لحقت بهذا الحزب خسارة مدوية في منطقة خاباروفسك، في أقصى شرق البلاد، حيث حاز «الحزب الوطني الليبرالي الديمقراطي» على 34 مقعداً من أصل 35 مقعداً في البرلمان المحلي. وما خلا ذلك، لم تحمل نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في جميع الأقاليم الروسية، أية مفاجآت تذكر.
وجرت انتخابات مباشرة لاختيار حكام 16 إقليما روسيا، والمجالس التشريعية في 13 كياناً إدارياً روسياً، من بينها شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من أوكرانيا في 2014. وفاز فيها المحافظون الحاليون أو المحافظون المؤقتون المعينون من قبل الكرملين، بحصولهم على أكثر من 50٪ من الأصوات.
وفي موسكو، تمكّن مرشحون مستقلون، ينتمي أغلبهم إلى حزب «روسيا الموحدة» الحاكم، من الفوز بـ 25 مقعداً، في حين فاز مرشحو «الحزب الشيوعي»، وهو أكبر حزب معارض مُعترف به رسمياً، بـ13 مقعداً، (مقابل ستة مقاعد في الدورة السابقة). أما «يابلكا» (الحزب الديمقراطي الروسي المتحد)، الذي يُعد الحزب المعارض الحقيقي الوحيد الذي أُتيحت له المشاركة بالاقتراع، فاستطاع أن يوصل لأول مرة أربعة أعضاء إلى المجلس. بينما فاز حزب «روسيا العادلة»، (يسار الوسط)، ويُعدّ أيضاً من «المعارضة الرسمية»، بثلاثة مقاعد (مقابل 1 سابقاً)، في ما اعتبر مؤشراً واضحاً على تزايد السخط في العاصمة.
ومثّل هذا التراجع الكبير لـ«روسيا الموحدة» النتيجة الأكثر بروزاً في الانتخابات. نظراً لأن السلطات رفضت عشرات المرشحين ومنعتهم من خوض الاقتراع، خشية احتمال فوز بعضهم من المرتبطين بالمعارض ألكسي نافالني، ما يمكن أن يوفر لهم منصّة انطلاق للانتخابات البرلمانية المقبلة المقرّر إجراؤها عام 2021.
وأظهرت النتائج أن التصويت كان «انتقامياً» من الحزب الحاكم. ففي إحدى الدوائر، فاز مرشح معارض طالب نافالني بدعمه من خلال «التصويت الذكي»، على المرشح المؤيد للحكومة في دائرة رفضت لجنة الانتخابات تسجيل ترشيح أحد المعارضين فيها. وفي دائرة أخرى أقصى «التصويت الذكي» رئيس فرع موسكو لحزب «روسيا الموحدة»، الذي كان فاز في أربع دورات انتخابية سابقة.
وأشارت النتائج، في نظر المراقبين، إلى التغيير الكبير في مزاج الناخبين، على الرغم من ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع، إذ بلغت نسبة الإقبال أقل من 22 %، في مؤشر إلى عدم استجابة الناخبين إلى الدعوات الحثيثة التي أطلقتها السلطات للإقبال على الانتخابات.
تراجع شعبية الحزب الحاكم
وكانت شعبية الحزب الحاكم تراجعت بشكل قياسي وغير مسبوق خلال العام الحالي، وذلك على خلفية الاستياء وتصاعد الغضب الشعبي من تردي المستوى المعيشي، ورفع سن التقاعد على المستوى الوطني، (وهو إجراء لا يحظى بأي شعبية)، إضافة إلى الأحاديث المتداولة عن فساد النظام. كما انخفضت شعبية بوتين أيضاً للأسباب ذاتها.
حملة «التصويت الذكي»
وكان المعارض نافالني (43 عاماً) أطلق حملة «التصويت الذكي»، داعياً مؤيديه إلى التصويت إلى المرشحين الأوفر حظاً لهزم مرشحي الحزب الحاكم والموالين له، حتى لو أدى ذلك إلى التصويت لصالح أحزاب رسمية تعتبر بالنسبة إليه «داعمة للكرملين»، مثل الحزب الشيوعي.
وفي سبيل ذلك، أنشأت المعارضة موقعا إلكترونيا شهد رواجا واسعا، تم رفع لوائح المرشحين عليه، مع دعوة الناخبين إلى التصويت لأشخاص محدّدين في كل دائرة من أحزاب المعارضة القريبة من السلطة، بهدف ضمان عدم تفرّق أصوات الناخبين بين المرشحين الآخرين، وضمان خسارة مرشح حزب السلطة بهذه الطريقة.
وكما يبدو، فإنّ هذه الحملة قادت إلى نتيجة غير مسبوقة في الانتخابات، ما أثار مخاوف من استخدام آليات مماثلة خلال الاستحقاقات الانتخابية القادمة في المستقبل، ووصفت أوساط روسية النتائج بأنها «مؤشر إلى انتقال الاحتجاجات من الشارع إلى صناديق الاقتراع».
وأدى التجاوب مع هذه «الحملة» إلى تغيير ملموس في نفوذ الأحزاب الفائزة، على رغم أن المعارضة دعمت بهذه الطريقة أحزاباً أخرى، بسبب غياب مرشحيها المستقلين، لكنها أظهرت قوتها وقدرتها على التأثير في الشارع، ما يعني أنه «قد يحسب لها حساب مختلف في الانتخابات المقبلة على المستوى الفيدرالي» وفقا لبعض المحللين.
وبرز ما يشبه «الاحتفال بالنصر» لدى مواقع المعارضة، إذ وجّه المعارض نافالني على موقعه الإلكتروني «رسالة تهنئة» إلى الروس، ووصف النتائج بأنها شكلت «التجربة الأولى لعمل جماعي معقد ومنظم، ليس فقط من طرف ناشطين، بل ومن طرف الناخبين أنفسهم، وهذا هو الأهم».
وفي أول رد فعل من السلطات، وصف عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين، الانتخابات في العاصمة بأنها «الأكثر حماسة ومنافسة في التاريخ الحديث»، مشيداً بزيادة التنوع السياسي بـ«دوما موسكو» بفضل ظهور كتل جديدة، ومعرباً عن أمله أن يفيد ذلك برلمان المدينة عموماً.
احتجاجات المعارضة
وأطلقت حملة «التصويت الذكي» بعد اتخاذ لجنة الانتخابات المركزية قراراً بإقصاء 57 مرشحاً من السباق على مقاعد برلمان العاصمة، بينهم 12 مرشحاً مستقلاً يمثلون المعارضة التي لا تحظى باعتراف رسمي.
لكن هذه الخطوة أجّجت احتجاجات واسعة في موسكو منذ منتصف تموز/ يوليو الماضي، وأسفرت مظاهرات المعارضة التي لم يرخص لمعظمها، عن توقيف 2700 شخص، في سابقة من نوعها منذ موجة الاحتجاجات في 2011-2012، التي سبقت عودة بوتين إلى الكرملين بعد توليه رئاسة الوزراء. وسجنت السلطات لفترة قصيرة جميع مرشّحي المعارضة تقريباً الذين أرادوا خوض الانتخابات في موسكو.
وكنتيجة لذلك، جذبت هذه الانتخابات (التي كان يمكن أن تكون هادئة وعادية مثل سابقاتها)، انتباه واهتمام المراقبين وحوّلتها إلى ما يشبه الاستفتاء على شعبية الرئيس الروسي فلاديدير بوتين، كما قال هؤلاء، وخصوصاً في ظلّ نشاطات المعارضة والاحتجاجات الحاشدة وحملة الاعتقالات التي سبقت عملية الاقتراع، وأصبحت الانتخابات، تالياً، موضع ترقب واهتمام، بوصفها «بروفة» للانتخابات البرلمانية القادمة، يمكن أن تعكس تبدّل الموازين السياسية في البلاد، وتُساهم في استشراف آفاق المستقبل السياسي، في وقت تشهد فيه الحياة السياسية المدارة بقبضة قوية في روسيا توترات واضحة، على مستوى الشارع وعلى مستوى العلاقة بين السلطة والمعارضة، بعد عشرين عاماً من وجود الرئيس بوتين في السلطة!.
بقلم/ فؤاد محجوب