لاشك أن مصطلح السجين الأمني من أكثر المصطلحات التي تسبب الأذى الحقيقي للأسير الفلسطيني على المستوى القانوني والسياسي والإداري والإنساني داخل السجون، كونه يختلف عن المصطلحات القانونية المعروفة مثل: سجين الحق العام، والسجين السياسي، والأسير والمعتقل والمختطف فجميع ما تقدم يتبع لقوانين معلومة لا لبس فيها. وكل له حقوق تميزه عن غيره تنبع من ظروف حبسه.
أما مصطلح السجين الأمني فهو ابتداع إسرائيلي خالص ولا يوجد ما يقابله في كتب القانون الدولي، وتعود نشأته بعد عام 1958، عندما تولى مصلحة السجون (الشوباص) ضابط جاء من خلفية أمنية يدعى "أرييه نير" الذي تسلم قيادة مصلحة السجون من عام 1958-1976، على أثر حادث سجن شطة الشهير الذي هرب منه ما يقارب 66 أسير فلسطيني وعربي، بعد أن قتلوا عدد من الحراس الصهاينة واعتبرت مصلحة السجون هذا الحدث باليوم الأسود في تاريخها، تم على أثره إقالة الرئيس السابق وهو أستاذ دكتور في علم الاجتماع يدعى "تسفي حرمون"، وقام "أرييه نير" فور تسلمه بعمل إجراءات إدارية منها: عزل الطاقم القديم وتعيين جيل جديد يتمتع بالشباب وأكبرهم لا يتجاوز الأربعين عامًا، ومعهم أوامر بإطلاق النار على كل أسير يحاول الفرار، وعمل على إنشاء سجون جديدة محصنة،
كما تم تقسيم السجناء إلى قسميين رئيسين قسم للجنائيين وهم يهود وعرب على حدٍ سواء، وقسم أمني ويضم كل من قام بعمل أمني ضد أهداف في دولة الاحتلال بدافع قومي، والأمني هنا عربي فقط، فاليهودي الذي يقتل عربي علي خلفية قومية لا يعتبر سجين أمني حسب التعامل الإسرائيلي، هذا المصطلح الإداري الذي نشأ على قاعدة أمنية سياسية جرد الفلسطيني من حقوقه القانونية والسياسية والإنسانية أيضًا، رافق هذا المصطلح إجراءات قمعية تجاه كل أسير بدءً من لحظة الاعتقال ثم التحقيق ثم الحقوق الممنوحة لكل سجين في ظروف العيش داخل السجن من الاستيقاظ والنوم والطعام والحديث مع الآخر والاغتسال والعلاج ومراسلة الأهل، والزيارة، والتعليم، والمحاكمة ، وحتى الوفاة دخل السجن قد يرحل إلى مقبرة يجهل فيها مكان دفنه ليكمل اعتقاله فيها لأنه سجين أمني.
بقى هذا التعريف خاص بمصلحة السجون حتى منيت الدول العربية بالنكسة المشهورة في حزيران عام 1967، ففي بداية الأمر اعترفت أجهزة دولة الاحتلال بأن ما قامت به من عدوان تجاه الأراضي الفلسطينية هو احتلال، وأصدرت أمرًا عسكريًا بإطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن سرعان ما تراجعت.
على أثر جدل دار بين اليمن واليسار في إسرائيل حول طبيعة الفعل ففي الوقت الذي اعترف فيه اليسار والوسط اليهودي بأنه احتلال، جادل اليمني الإسرائيلي بقوة و اعتبر الأرض الفلسطينية أرضًا إسرائيليًة قديمة تم تحريرها من الغزاة الفلسطينيون، الأمر الذي دفع خبراء القانون في دولة الاحتلال بإيجاد تكيف يتوافق مع هدف الاحتلال دون تحمل المسؤولية السياسية والقانونية للأهالي والاعتراف بشرعيتهم لإقامة كيان سياسي لهم.
وذلك من خلال انكارها بأنها اراضي محتلة واعتبرت أن هذه الاراضي هي أراضي متنازع عليها لأن من كان يحكمها ليست الأهالي، فالضفة الفلسطينية كان يحكمها الأردن وغزة كانت تدار بحكم مصري، وبهذا تم إنكار صفة الاحتلال عليها، وأطلقت عليها مصطلح الأراضي المدارة، (الإدارة العسكرية ثم الإدارة المدنية) وكانت قوات الاحتلال في هذه الفترة قد اعتقلت أكثر من عشرين ألف فلسطيني وأقامت سجون كبيرة في رفح وسيناء، وأنكرت عليهم حقوقهم وبحثت عن مصطلح يساعدها في الإنكار للحقوق السياسية والقانونية، ويتوافق مع رؤيتها سابقة الذكر؛ فوجدته في مصلحة السجون جاهزة وهو سجين أمني، فحولته من مصطلح إداري يحمل العنصرية الصهيونية، إلى مصطلح سياسي يجسد العنصرية الصهيونية بأبشع صورها، منطلقة من نظريتها الأمنية الشاملة كون الأمن هو البقرة المقدسة الذي لا يمكن التخلي عنه، وبهذا يبيح الاحتلال لنفسه قلب المفاهيم والحقائق بإنكار حق الفلسطيني في النضال والمقاومة الذي كفلته له كل الشرائع والقوانين الدولية ويحوله من صاحب قضية عادلة إلى مخرب يعبث في أمن دولة آمنة.
لم تقف عنصرية دولة الاحتلال عند هذا الحد بل قامت بتطوير هذا المصطلح ليحقق لها غاياتها وأهدافها الشاذة عن القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، ويحقق لها إمعان شهوتها الانتقامية في الأسرى والمناضلين الفلسطينيين بعد توقيع اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993تم إطلاق أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين كان آخرهم في 9/9/1999،م ولكن دولة الاحتلال صنفت الأسرى الفلسطينيين على قسمين قسم سجين أمني عادي وسجين أمني يده ملطخة بدماء اليهود، على أثر هذا التصنيف أمضى مئات الأسرى ربع قرن من الأسر وهناك من تجاوز الثلاثين عامًا وآخرون مكثوا أكثر من خمسة وثلاثين عامًا مثل كريم يونس.
وعلى أثر الانسحاب من قطاع غزة في سبتمبر 2005، ضمن خطة فك الارتباط أحادية الجانب، تم وصف الأسرى الفلسطينيين من قطاع غزة بأنهم مقاتلون غير شرعيون، والجدير بالذكر أن الأسير الفلسطيني القابع في السجون الإسرائيلية يصنف حسب الغايات الإسرائيلية، إلى ثلاثة تصنيفات أولهم؛ سجين أمني إداري يحكم من أربعة إلى ستة أشهر، ضمن قانون الطوارئ لقوات الانتداب البريطاني لعام 1945، عملت دولة الاحتلال على رفده بعدة أوامر عسكرية ليتناسب مع غاياتها الانتقامية والأمنية من الأسرى من خلال تجديده كلما تنتهي المدة سالفة الذكر، وهناك أسرى مكثوا لأكثر من عشر سنوات بسبب هذا التمديد، و ثانيًا؛ سجين أمني محكوم، قد يجدد له حكمًا إداريًا عند خروجه فيبقى قابعًا في السجن لمدة غير محددة، و ثالثًا؛ سجين أمني يده ملطخة بالدم وهو محكوم بأحكام خرافية منهم من هو محكوم بعشرين مؤبد ومنهم من هو محكوم 40مؤبد، وهناك من حكم ب 64 مؤبد، والمؤبد للسجين الأمني 99 سنة.
فالسجين الأمني كل شيء له مشدد ومضاعف، والمعاناة ليست بالحبس فقط والبعد عن الأهل بل بإجراءات يومية مغمسة بعذابات نفسية أكثر منها جسديًة، هادفًة تصفية الأسير معنويًا وجسديًا وعقليًا أيضًا، وهناك سجاء أمنيون من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، والقدس، وترفض دولة الاحتلال إخراجهم أو الحديث عنهم من خلال إبرام صفقات التبادل بحجة أنهم مواطنون يحملون الهوية الإسرائيلية ولا سيادة للسلطة عليهم، وهم في هذا الخصوص يتم معاملتهم بازدواجية المعايير. فمن جانب الحكم والعقاب يفرض عليهم حكم عسكري كونهم مخربون فلسطينيون، ولا تعدهم مواطنون لدولتهم، وفي المقابل ترفض أي مساعدة مالية أو معنوية أو قانونية مقدمة لهم من السلطة الفلسطينية أو من الصليب الأحمر بحجة أنهم مواطنون إسرائيليون.
في المقابل يعتبر الصليب الأحمر كل الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من سكان قطاع غزة والضفة الغربية والقدس أيضًا هم معتقلون مدنيون تنطبق عليهم اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949م، نظرًا لأنهم يخضعون للاحتلال الإسرائيلي، ورفض دولة الاحتلال هذه الوصف الدولي للأسرى بحجة أن القانون الإسرائيلي أكثر سموًا من القانون الدولي.
هكذا يتبين أن إحجام إسرائيل عن إضفاء الصفات القانونية للأسرى الفلسطينيين ووسمهم بالسجين الأمني وهو وسم عنصري غير قانوني يتوافق مع الغايات الإسرائيلية العامة في اغتصاب أرض فلسطين وإنكار وجود شعبها.
بقلم/ د. محمد البطة