انشغل كثيرون بمن سيكون رئيس الحكومة الإسرائيلية القادمة بعد الانتخابات. وهذا طبيعي ربطا بالسجل الأسود لنتنياهو خلال فترات رئاسته المتوالية، دون أن يعني ذلك الرهان على قدوم بديل «متفهم» لحقوقنا الوطنية. ولكن يمكن القول إن نتنياهو، صاحب المشروع التوسعي الاستعماري العنصري، قد استفاد من بقائه على رأس المشهد السياسي والحزبي الإسرائيلي لفترة طويلة كي يقطع شوطا بعيدا في تنفيذ هذا المشروع.
وزاد مجيء ترامب من خطورة برنامج نتنياهو على المشروع الوطني الفلسطيني مع اتحاد عناوين الصفقة الأميركية مع خطته «السلام الاقتصادي»، لتتبلور عبر ذلك عناوين المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي ضمن تطبيقات موحدة على الأرض.
لذلك، لا يمكن النظر إلى اهتزاز موقع نتنياهو على رأس الهرم السياسي في إسرائيل وانتهاء مرحلة تفرده بالحكم على أنه شأن إسرائيلي داخلي، في سياق الصراع على مقعد رئاسة الوزراء.
لا يختلف كل من الحزبين الكبيرين، «الليكود» و«أزرق ـ أبيض» عن الآخر فيما يخص الموقف من الحقوق الفلسطينية، وقد عبر قادة الحزبين عن ذلك بوضوح. وهدف الحديث السابق عن خطورة برنامج نتنياهو هو الدفع باتجاه استنهاض السبل الوطنية الكفيلة بمواجهته والحد من توغله في تصفية القضية الفلسطينية،مع الإشارة الضرورية إلى أن مواجهة هذا البرنامج ينبغي أن تكون في مقدمة أجندة العمل الوطني الفلسطيني بعدما بات موضع إجماع من معظم الأحزاب الصهيونية.
ويمكن القول إن توغل نتنياهو في سياسته التوسعية يعود أولا إلى أن خطواتها العملية كانت المتحرك الوحيد على الأرض، في ظل غياب تطبيق عناوين ومحاور البرنامج التحرري الفلسطيني، وهو ماساهم باستمرار «الاحتلال المجاني» الذي تمارسه إسرائيل. وعلى الرغم من أن حملات التهويد والتهجير والاعتداءات قد قوبلت بمواجهات مع الاحتلال في القدس ومحيطها إلا أن هذه المواجهات جاءت موضعية وكرد على فعل احتلالي معين، ولم تأت في سياق برنامج وخطة وطنية. واستفاد نتنياهو بشكل كبير من حالة الشلل الذي تعانيه الحالة الفلسطينية بفعل الانقسام واستمرار التمسك الرسمي(عمليا) ببقايا اتفاق أوسلو والسياسات التي أدت إليه، وازدادت الأمور سوء مع تهميش المؤسسات الوطنية وقراراتها وخاصة تلك التي حسمت مسألة القطع مع اتفاق أوسلو ودعت إلى التخلص من قيوده السياسية والأمنية والاقتصادية.
وفي ظل هكذا وضع كان من الطبيعي أن تسابق حكومات نتنياهو الزمن كي تضيف الكثير من الوقائع الاستيطانية على ما قامت بها سابقاتها، مستفيدة من توافق إدارة ترامب مع أهدافها في ضم الاستيطان ومناطق عدة من الضفة في مقدمها القدس والأغوار، تمهيدا لإقامة «إسرائيل الكبرى». ولقد وظف نتنياهو هذه السياسات ـ إضافة إلى كونها تعبر عن برنامجه ـ لكسب المزيد من المؤيدين وخاصة في صفوف المستوطنين وغلاة المتطرفين ليزيد من نفوذه ونفوذ حزبه مع كل محطة انتخابية للكنيست.
اصطدام طموح نتنياهو بولاية خامسة بجدار نتائج الانتخابات لا يدل فقط على تراجع قوة «الليكود» أمام خصومه، بل يدل أيضا على استعصاءات في طريق تحقيق برنامج رئيسه، على الرغم من قوة الدفع التي منحته إياها خطوات صفقة ترامب المتدحرجة. وقد لمس قسم لابأس في حجمه من جمهور الناخبين الإسرائيليين أنه وعلى الرغم من أن نتنياهو يمضي في سياساته في خدمة الاستيطان إلا أنه يدافع بالأساس عن مستقبله الشخصي ويبحث عبر سلسلة من المناورات عن تحالفات وصيغ «قانونية» تنقذه من تداعيات ملفه القضائي.
وعلى امتداد العامين الماضيين، كثَّف نتنياهو من تطبيق سياساته التوسعية والعنصرية التي استهدفت فلسطينيي الـ48 عبر خطوات وإجراءات وسياسات متعددة. وكان ترسيم «قانون القومية» العنصري في مقدمة هذه الإجراءات. ومنذ العام 2015 صعد على نحو ملحوظ من هجومه على الأحزاب العربية وممثليها في الكنيست وخاصة بعد نجاحهم في تشكيل «القائمة المشتركة كرد ناجع على محاولات تهميشهم على طريق إقصائهم من خلال رفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست إلى 3,25% بدلا مما كانت عليه(2%) واستطاعت القائمة بفعل هذه الوحدة من إفشال هذه المحاولات وحصلت على 15 مقعدا وباتت القوة الثالثة في الكنيست وهو الأمر الذي كررته في هذه الانتخابات، وتسعى القائمة إلى توظيف هذا الانتصار في خدمة قضايا الجماهير العربية عبر وضع جميع الأطراف الأخرى في المشهد الحزبي الإسرائيلي أمام واقع مستجد يفرض إعادة النظر في السياسات والقوانين العنصرية التي طبقت ضد الفلسطينيين في أراضي الـ48 منذ قيام دولة الاحتلال.
ولقد رأى معظم المراقبين في هذا الخطاب نقلة نوعية في العمل السياسي والحزبي العربي في إسرائيل من خلال الاشتباك السياسي والبرلماني والحقوقي مع المنظومة الصهيونية المؤسسة لجميع السياسات المعادية لحقوق فلسطينيي الـ48 بالعيش بكرامة ومساواة في أرضهم ووطنهم.
في جميع الحالات: بقاء نتنياهو على رأس الحكومة أو شريكا فيها أو انصرافه من العمل السياسي، تبقى مواجهة الاحتلال بكافة تعابيره وتجسيداته هي العنوان الأساسي في أجندة العمل الوطني الفلسطيني، ربطا بالحقيقة الراسخة الذي يجسدها واقع الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الذي يواصل تدمير حياة هذا الشعب وينهب أرضه وممتلكاته. وأي رهان على أن نتائج الانتخابات يمكن أن تفتح على صفحة جديدة في التسوية هو رهان قاتل، ومن المؤسف أن تظهر مؤشرات تكرر استعداد المفاوض الفلسطيني للعودة إلى حلبة التفاوض وفق مجموعة غريبة من المرجعيات توضع فيها قرارات الشرعية الدولية على هامش ماهب ودب من المبادرات والاتفاقات والقرارات التي تتجاوز الحقوق الفلسطينية أو على الأقل تقزمها.
وفي جميع الحالات التي ذكرت، ترسم صفقة ترامب بقلم الاستيطان خريطة «الحل» السياسي الذي تدخره لما بعد الانتخابات الإسرائيلية، وقد سرب كثير من الصحف بعضا من ملامحها، التي تترجم بدقة الشروط الأمنية والتوسعية الاسرائيلية ، فتشطب قضية اللاجئين الفلسطينيين والقدس والأغوار وتتحدث عن كيانية فلسطينية هزيلة تقل في صلاحياتها عن حكم إداري ذاتي. والمفارقة أنها مع كل هذا التقزيم للحقوق الفلسطينية فإنها ترهن تحقيق هذا الفتات بمرور مرحلة انتقالية لخمس سنوات من التفاوض، وتستفيد هذه الإدارة من تجربة أوسلو التي كرست مقولات جديدة في ديبلوماسية التفاوض جوهرها «الانتقالي هو الحل الدائم» ، و«لاتأخذ .. حتى لاتطالب»!
بقلم/ محمد السهلي