أبلغ وزير المالية الفلسطيني شكري بشارة، مجتمع المانحين أن المواجهة المالية الحالية مع إسرائيل تدفع بالاقتصاد الفلسطيني نحو مصير مجهول، وأن تعديل بروتوكول باريس بات حتميا، مؤكدا أن الحكومة الفلسطينية ستلجأ للتحكيم الدولي بهذا الخصوص.
وقال بشارة في كلمته، الليلة الماضية، خلال اجتماع للمانحين يسبق اجتماعا مقررا اليوم الخميس للجنة ارتباط المساعدات الدولية للشعب الفلسطيني برئاسة النرويج، يعقد سنويا على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، "لن يكون من المبالغة القول إن هذه الجولة من المواجهة المالية مع إسرائيل تحتوي على جميع العلامات الدالة على تهديد وجود الصرح الاقتصادي والمؤسسي الفلسطيني، لكنها في الوقت نفسه، فرصة فريدة لنا جميعًا للمشاركة، مرة واحدة وإلى الأبد، في بذل جهد عظيم لإعادة التفاوض على شروط بروتوكول باريس ومراجعته وإعادة صياغته".
وأضاف: نعلم جميعًا أن هذا البروتوكول، شأنه شأن الإطار الشامل لاتفاقات أوسلو، كان هدفه ترتيبات مؤقتة مدتها خمس سنوات. الآن، وبعد العام الخامس والعشرين، تجاوز إلى حد بعيد ولفترة طويلة جدواه، وأصبح مصدراً رئيسياً لإعاقة استدامة الاقتصاد الفلسطيني.
وقال بشارة إن الخيار الوحيد المتبقي أمام الحكومة الفلسطينية "هو السعي إلى وضع حد لممارسات إسرائيل الخطيرة، من خلال اللجوء إلى محكمة الاختصاص للتحكيم الشرعي".
وأضاف: في كل سيناريو يمكن تصوره بما يتعلق بمستقبل علاقاتنا الاقتصادية مع إسرائيل، فإن شرط تعديل البروتوكول هو عامل حتمي. نحن الآن على مفترق طرق ويجب علينا المضي قدماً، لذلك لا نريد من المجتمع الدولي أن يتعاطف مع موقفنا فحسب، بل أن يدعم جهودنا بشكل فعال أيضاً".
ولفت بشارة الى توسع الفجوة بشكل هائل بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، على مدى العقدين ونصف الماضيين، "وأصبحت الحقائق الاقتصادية بين فلسطين وإسرائيل مختلفة اختلافًا جذريًا".
وأوضح أن اقتصاد إسرائيل نما من أقل من 100 مليار دولار في منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى قوة اقتصادية تبلغ 360 مليار دولار في عام 2018، في حين أن اقتصادنا عالق بما قيمته 14 مليار دولار تقريباً، فيما يبلغ معدل دخل الفرد في إسرائيل الآن 35 ألف دولار، بينما يبلغ في فلسطين 2800 دولار فقط.
وأضاف: بالنظر إلى هذه التناقضات الصارخة، لم يعد بمقدور اقتصادنا الخضوع للاقتصاد الإسرائيلي من خلال آليات بروتوكول باريس.
وأكد بشارة موقف القيادة الفلسطينية بأن اقتطاعات اسرائيل الاخيرة من عائدات المقاصة، بما يوازي مدفوعاتها لعوائل الشهداء والجرحى والأسرى، تجاوز لا يمكن قبوله.
وقال: خلال السنوات الثماني الماضية فقط، فرضت علينا إسرائيل رسومًا بمبلغ 3.5 مليار دولار فيما يتعلق بالخدمات الصحية والمياه وإمدادات الطاقة ومعالجة مياه الصرف الصحي وغيرها من الرسوم، لكن في معظم الحالات، لم تزودنا إسرائيل بأية فواتير بسيطة ومفصلة تبرر مثل هذه الادعاءات، وبموازاة ذلك، حجبت مستحقات لنا تتجاوز 700 مليون دولار من 8 قضايا معلقة ولم يتم تسويتها، وقد طلبنا من إسرائيل مرارًا وتكرارًا بذل الجهود لإصلاح الوضع، ولكن دون جدوى".
وأضاف: عندما بدأت إسرائيل في شهر شباط بخصم مبلغ إضافي قدره 12 مليون دولار شهريًا، أي 144 مليون دولارًا سنويًا من مواردنا الخاصة، كان هذا بالنسبة لنا تجاوزًا نهائيًا لم يعد بإمكاننا قبوله".
واعتبر بشارة ان الإجراءات الإسرائيلية ضربت جهود وزارة المالية لتصويب إدارة المال العام، على مدى السنوات الست الماضية، والتي حققت فيها نجاحا لافتا في تقليل العجز الجاري في الموازنة.
وقال: اتبعنا استراتيجية خلال السنوات الست الماضية أهدافها: الحد من العجز المزمن في الميزانية والقضاء عليه في النهاية وذلك لتوجيه الموارد تدريجياً إلى تمويل التنمية، وإلغاء الأعباء المالية غير المبررة، مع اعتماد سياسات مالية فعالة لزيادة الإيرادات، وإعداد الاقتصاد الفلسطيني لسيناريو انخفاض المساعدات الدولية، من خلال تعزيز القدرة على الاعتماد على الإيرادات الذاتية.
وأضاف: بحلول العام 2018، كنا في طريقنا لتحقيق هذه الحتميات الاستراتيجية، فعلى سبيل المثال، ارتفعت إيراداتنا الإجمالية في العام 2013، والتي بلغت 2.3 مليار دولار لتصبح 3.8 مليار دولار في العام 2018، بزيادة قدرها 65% خلال ست سنوات، وبموازاة ذلك، اتبعنا رقابة صارمة على إدارة النفقات، واحتفظنا بنفقات التشغيل بشكل تراكمي بنسبة أقل من 10% خلال فترة 6 سنوات، بينما نعمل على حصر عدد العاملين في القطاع العام، وكانت النتيجة انخفاضاً ملموسًا في عجز الموازنة من 12% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2013 إلى 3.5¡ عام 2018، بالطبع في الحالتين بعد مساعدات الجهات المانحة، التي انخفضت طوال الفترة بشكل منتظم عن معدلات الدعم السابقة التي تجاوزت 1.2 مليار دولار عام 2013 إلى حوالي 450 مليون دولار عام 2018.
وأضاف: نشهد الآن انخفاضًا آخر، ونعتقد ألا يتجاوز إجمالي المساعدات 350 مليون دولار عام 2019، أي ما يقارب 2.5¡ من الناتج المحلي الإجمالي بالمقارنة 10% عام 2013.
وقال: رغم التطورات السلبية في معدل المساعدات، فقد حافظنا على الدين العام 1.3 مليار دولار، ما يقارب 10% من الناتج المحلي الإجمالي طوال تلك الفترة، وأقل من 17 من إجمالي القروض غير المسددة التي يقدمها القطاع المصرفي الفلسطيني، الذي يتكون من 22 بنكا.
وأضاف: قمنا عام 2016، في خطوة غير مسبوقة، بضخ السيولة في السوق عن طريق خفض معدلات الضريبة، ما أدى إلى انخفاض ضريبة الدخل الشخصية وضريبة دخل الشركات من 20 إلى 15، وقد ساعدنا هذا القرار في توسيع القاعدة الضريبية، مع زيادة فعالة في عدد دافعي الضرائب بنسبة تجاوزت 40.
وكشف بشارة، في اجتماع المانحين، عن خطة لإعادة النظر في النظام الضريبي الفلسطيني، بما يحقق قدرا أعلى من العدالة الاجتماعية.
وقال: نعمل على تعديل معايير نظامنا الضريبي لجعله أكثر توافقًا مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي في فلسطين، ونتوقع أن نكون قادرين على الكشف عن برنامجنا بهذا الخصوص بحلول نهاية هذا العام.
ولفت الى برنامج سندات الخزينة قصيرة الأجل، الذي أطلقته وزارة المالية عام 2016، كوسيلة دفع للقطاع الخاص، "وساعد هذا البرنامج في إيقاف موجة تراكم المتأخرات مع ضخ سيولة كبيرة في السوق، في ظل غياب المقرضين وآليات سوق رأس المال".
وأضاف: منذ بدء البرنامج، أصدرنا بالفعل سندات خزينة 900 مليون دولار، تم سدادها جميعها في تواريخ استحقاقها المحددة.
وقال بشارة إن الأزمة التي بدأت في شهر شباط بسبب الاقتطاعات الإسرائيلية الإضافية من عائدات الضرائب الفلسطينية، وما ترتب على ذلك من قرار للقيادة برفض استلام عائدات المقاصة ناقصة، وضعت مصير النجاحات التي تحققت على مدى السنوات الست الماضي، على الصعيد المالي، في مهب الريح.
وقال: باختصار، أدت النتيجة المباشرة للمواجهة المالية إلى اضطرارنا للتخلي عن أكثر من 60¡ من إيراداتنا الحكومية، بشكل أساسي تلك التي تولّد من خلال الجمارك والمبالغ المستردة من الضرائب التي تدين بها إسرائيل لنا، واعتبارًا من شهر شباط لم يكن لدينا خيار سوى تبني موازنة للطوارئ تعتمد بالكامل على نهج الترشيد النقدي.
وأوضح أن موازنة الطوارئ انطلقت من عدة افتراضات وقواعد تشغيلية على مدى الأشهر السبعة الماضية، أهمها انخفاض عائدات المقاصة من 60% من إجمال الإيرادات العامة إلى صفر، وتراجع الجباية المحلية بنسبة 20¡ بسبب انعكاس ازمة المقاصة على الاقتصاد، وعدم توقع أية زيادة في المساعدات الدولية.
وفي مواجهة هذا الوضع، قال بشارة إن الحكومة اتخذت جملة الإجراءات، من بينها تجميد جميع عمليات التوظيف، وتأجيل عمليات الاستحواذ على الممتلكات والأصول الثابتة الأخرى، وتعليق برامج التطوير، باستثناء البرامج القائمة التي يتعين المضي قدمًا فيها، وبذل كل ما هو ممكن لحماية الشرائح الضعيفة اجتماعيا، واضطررنا إلى زيادة الاقتراض المحلي لمدة لا تقل عن 6 أشهر لتمويل الفجوة الاقتصادية.
وأضاف: رغم التحديات الصعبة للغاية، تمكنا من دفع أكثر من 60¡ من إجمالي فاتورة الأجور الخاصة بالقطاع العام في الوقت المناسب، 100 من رواتب أصحاب الأجور المنخفضة. ويشكل هؤلاء حوالي 55¡ من جميع موظفي القطاع العام، وقمنا بمواءمة مدفوعات الأجور في غزة والضفة الغربية وزيادة تحويلات الميزانية إلى غزة من 95 مليون دولار قبل المواجهة إلى 107 ملايين دولار شهريًا الآن.
وتابع: من أجل الوفاء بهذه الالتزامات، اضطررنا إلى زيادة الاقتراض من البنوك المحلية بمقدار 500 مليون دولار، وقد رفع ذلك التزاماتنا اتجاه القطاع المصرفي المحلي من 1.3 إلى 1.8 مليار دولار، أي من نسبة 10¡ من الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 14، ولن نمضي قدماً في زيادة الاقتراض المحلي لتجنب الضغط على سيولة النظام المصرفي، وقد وافينا أيضًا بجميع التزامات خدمة الدين للنظام المصرفي، بما في ذلك استرداد جميع أذون الخزينة التي كانت مستحقة خلال الـ7 أشهر الماضية.
وقال بشارة إن الإجراءات التي اتخذتها وزارة المالية للتعامل مع أزمة المقاصة نجحت في تجنب الاسوأ، لكنه حذر من أن هذه الإجراءات استنفدت، وبات مستقبل الاقتصاد الفلسطيني يتوقف على ما ستؤول إليه الأمور في العلاقة المالية مع إسرائيل.
وقال: "من خلال التخطيط الفعال ومتابعة الأولويات الوطنية اعتقد أننا تجنبنا السيناريو الأسوأ حتى الآن، لكن ماذا بعد؟ الجواب بسيط. كل هذا يتوقف على مستقبل العلاقات الاقتصادية والمالية مع إسرائيل في الأسابيع المقبلة".