ليست هي المرة الأولى التي تقتحم فيها الحالة العربية الفلسطينية في إسرائيل، هذا المربع السياسي المتعلق بمنصب رئيس الحكومة في دولة الاحتلال.
فقد سبق لعزمي بشارة، يوم كان رئيساً لحزب «التجمع»، أن رشح نفسه لرئاسة الحكومة في إسرائيل، عندما جرى تعديل نظام الانتخابات، لصالح انتخاب رئيس الحكومة من الناخبين مباشرة.
يومها أحدث هذا القرار الجريء صدمة سياسية لدى العديدين، واعتبر مناورة ذكية يقوم بها أحد قادة الأحزاب العربية الفلسطينية، كشف خلالها المزيد من علامات القبح والفساد السياسي والتمييز العنصري في منظومة القوانين الصهيونية التي ترتكز إليها دولة إسرائيل.
خطوة «القائمة المشتركة» في إبلاغ رئيس الدولة دعمها لغانتس رئيساً للحكومة )باستثناء نواب «التجمع» هذه المرة( أحدثت هي الأخرى صدمة سياسية في كل الاتجاهات.
افيغدور ليبرمان، رئيس «حزب بيتنا»، والحاصل على ثمانية مقاعد، صرح بفجاجة، ليرسم الحدود القائمة في العلاقات السياسية والمجتمعية، فاعتبر «الحريديم» (المتدينين) اليهود «خصومه» السياسيين، أما «العرب» (أي الفلسطينيون العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية) فمازالوا بالنسبة إليه «أعداء»، ولا مجال للتعاون معهم في أية تحالفات، أو تقاطعات سياسية. علماً أنه صوت في الكنيست، كما صوت النواب العرب، ضد نظام الكاميرات الذي اقترحه نتنياهو لفرض الرقابة الأمنية والسياسية على صناديق الاقتراع.
حزب شاس المتدين، يبني جزءاً كبيراً من دعايته السياسية وتحريضه الحزبي على مبدأ العداء السافر للعرب الفلسطينيين، ولا يتردد في وصفهم بالقرود. ومع ذلك دخل في حكومة رابين التي وقعت اتفاق أوسلو، رغم أن «القائمة المشتركة» وفرت آنذاك لرابين وحكومته شبكة أمان، لأنه عجز عن استقطاب 61 نائباً يهودياً في الكنيست، وكان هدف «القائمة المشتركة» آنذاك قطع الطريق على اسحق شامير، وفتح الأفق أمام العملية السياسية التي أطلقها مؤتمر مدريد.
غانتس نفسه، الذي أعلنت «القائمة المشتركة» (بدون «التجمع») دعمها له رئيساً للحكومة، عبر عن عميق استيائه لهذا الموقف، وأعلن أن تأييد «العرب» له أضر به، وأضعف موقفه أمام الرأي العام اليميني في إسرائيل.
وهنا يمكن القول إن «القائمة المشتركة» نجحت في تحقيق مجموعة أهداف، من موقعها في الكنيست، ومن لجوئها إلى مناورة سياسية شديدة الذكاء، والبراعة.
■ ■ ■
المعروف سلفاً، أن دعم «القائمة المشتركة» لغانتس، لن يكون مجاناً، هذا ما صرح به بوضوح عضو القائمة النائب في الكنيست أحمد الطيبي. وقد أعلنت القائمة عن شروطها، وهي في مجملها تتعلق بالحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين الفلسطينيين العرب في إسرائيل، من تعليم وسكن ووظائف، وصحة، وعمل وأمن غذائي، ومنع هدم المنازل العربية وغيرها من الشروط، وهي ذات الشروط التي تصوغها الحالة الفلسطينية في إسرائيل في إطار مقاومة التمييز العنصري، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية.
هذا معناه، في التطبيق العملي، أن دعم ترشيح غانتس شيء، وأن منح حكومته (إذا ما كلف بذلك) أصوات «القائمة المشتركة» شيء آخر. فالتصويت للحكومة ومنحها الثقة رهن بالتزامها بشروط «القائمة المشتركة» ومطالبها. وهو ما يضع حكومة غانتس أمام خيارين، أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: إما تلبية شروط العرب الفلسطينيين والرضوخ لضغوط «القائمة المشتركة»، وإما السقوط في الكنيست، وإخلاء المكان لبنيامين نتنياهو ليكون البديل في تشكيل الحكومة.
هذا من شأنه أن يحول «القائمة المشتركة» إلى ما يسمى «بيضة القبّان» (حسب تعبيرنا) أو «إشارة الميزان» (حسب التعبير الإسرائيلي)، مما يحول «القائمة المشتركة» من قوة سياسية، لا تكتفي بالاحتجاج والمعارضة والتصويت بـ «لا»، إلى قوة تشتبك في ميادين أوسع، وتملك شكلاً من أشكال الضغط السياسي. هذا هو جوهر الدور الواجب أن تلعبه في الكنيست، أي تحويل القوة السياسية للحالة الفلسطينية في إسرائيل، إلى قوة ضاغطة، من داخل المؤسسة ومن خارجها.
■■■
واضح أن بين هذه المطالب والأهداف، وبين إمكانية تحقيقها مسافات واسعة، وحقول ألغام عديدة، ولا نعتقد أن «القائمة المشتركة» وصل بها التفاؤل بحيث تعامت عن الاحتمالات المرتقبة.
غير أننا نعتقد، في الوقت نفسه، أن خلف هذه المناورة، والسياسة الجديدة هدفاً رئيسياً مباشراً تهدف «القائمة المشتركة» إلى تحقيقه، ألا وهو استبعاد نتنياهو عن سدة الحكم وإنهاء مرحلته، التي حملت للفلسطينيين، في إسرائيل، وفي المناطق المحتلة، الكثير من الأضرار الفادحة.
لو قيل إن نتنياهو «يمين خشن»، وغانتس «يمين ناعم»، وأن لا فرق بين الاثنين، ففي هذا القول تجاهل للعديد من الفروقات السياسية بين تحالف اليمين واليمين المتطرف، وبين تحالف الوسط واليسار الصهيوني وبعض أطراف اليمين؛ إن في الصياغات الداخلية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية (والمقالات والدراسات الإسرائيلية حافلة بالمعلومات القيمة المتعلقة بهذا الشأن) أو بما يتعلق بالسياسات اليومية في قضايا الاحتلال.
ولو قيل إننا سنكون أمام تحالف جنرالات، فإن الواقع يقول إن الجنرال، حين ينتقل إلى السياسة، يتخلى عن بذته العسكرية، ويبدأ في الانغماس في الحسابات السياسية. وعلينا ألا ننسى أن الجنرال شارون هو صاحب القرار بالانسحاب من القطاع، بعدما فَقَدَ الأمل في أن يكون للاستيطان فيه مستقبل، وأنه هو صاحب مشروع الانكفاء خلف «الجدار» والهروب من المعركة السياسية والعسكرية مع الفلسطينيين في المناطق المحتلة. والمؤرخون يعتقدون أنه لو بقي شارون في الحكم لكان الصراع اتخذ مساراً مختلفاً.
إخراج نتنياهو من سدة الحكم مكسب سياسي كبير، خاصة وأن بديله هو السجن بعد ما ثبت تورطه في العديد من الفضائح.
ولعل إصرار نتنياهو على تولي الحكم، ولو بالاشتراك مع غانتس، في حكومة «وحدة»، شرط أن يكون هو رئيس الحكومة، يحمل في طياته العديد من الإشارات الواجب قراءتها بتأنٍ.
أمام «القائمة المشتركة» رحلة شاقة مليئة بالمصاعب والعوائق، والمعارك السياسية، في الكنيست وخارجه، وعليها، كما نعتقد، أن تحرص، وهي تخوض هذه المعارك، على أن تصون وحدتها ووحدة الحركة الشعبية وصون موقعها باعتبارها القوة المعارضة الأولى، في البرلمان الإسرائيلي، وأن على عاتقها كشف حقائق المشروع الصهيوني وزيف ديمقراطيته عبر التصدي لمنظومة القوانين العنصرية. هذا هو الانتصار الأكبر الواجب أن يبقى تحقيقه نصب الأعين.
بقلم/ معتصم حمادة