لا بُدّ من إرجاع ظاهرة اليسار الفلسطيني إلى حاضنتها الأولى، التي تخلّقت في فضائها، كما لا ينبغي اتهامها أو المرافعة عنها بعيداً عن روح الحقبة التي تشكلّت فيها وصعدت من خلالها. ولعلّ حركة القوميين العرب التي راحت تتعالى وتتّسع من بداية خمسينيات القرن الماضي، بفعل الخطاب الناصريّ في مصر، هي الأمُّ التي توالد منها غير حركة قومية وعروبيّة، نادت بوحدة الأُمّة، وأضفت عليها الكثير من الهالات والقداسة، وتنوّعت تلك الحركات إلى مسمّيات عديدة، وصار لكلّ منها خطابه وخصوصيته وهويته.
وقد يكون حزب البعث بكل انتماءاته القُطرية، في العراق وسوريا وغيرهما، والحركات أو الأحزاب الاشتراكية القومية، والحركات الناصرية والقومية ، بكل تصنيفاتها وأسمائها .. هي ما شكّل لُحمة المدّ القومي الذي سيطر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في عالمنا العربي، بموازاة الأحزاب والتشكيلات والإرهاصات الماركسية اللينينية، التي انتعشت بعد هزيمة حزيران، وتراجُع وإخفاق " القومية " في التحرير وفي إيجاد إجابات شافية للسؤال التحرّري والاجتماعي والاقتصادي والديمقراطي، ولهذا رُبّما راحت الحركة القومية، ذات الطابع الفلسطيني، وبسبب ضغط سؤال التحرير الوطني، تعلن اعتناقها الماركسية، باعتبارها الأيديولوجيا القادرة على حمل الفلسطينين، مِمَن يؤمنون بها، لتخليص بلادهم من الاحتلال، وإقامة نظام اشتراكي، وخصوصاً أن ثمة سنداً كونيّاً سيدعم هؤلاء وسيمدّهم بأسباب الحضور والفاعلية والنفاذ، ألا وهو الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو والأممية الاشتراكية العالمية.
وصعد نجم اليسار الفلسطيني الجديد، مع نهايات ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي. وكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي الإطار الأول والأكبر الذي ضمّ معظم مَنْ كانوا في حركات القوميين العرب، قبل أن تتناسخ هذه الجبهة، وتنفصل عنها جبهات منها إلى خارجها؛ مثل الجبهة الديمقراطية والقيادة العامة وغيرهما .. فيما ظهرت جبهات وطنية فلسطينية، بقيت تنتمي إلى المقولة القومية، وخاصة البعث، لكنها كانت تتبع، نظرياً، على الأقل، وسياسياً، نظامي البعث في سوريا والعراق.
كلّ تلك الجبهات شكلّت اليسار الفلسطيني. وهنا، لا نغفل بعض المكوّنات المجهرية الصغيرة، اليسارية الماركسية اللينية، التي ظهرت وانطفأت، ولم تستطع البقاء والتواصل والصمود، وسرعان ما انفرطت.
وثمة تشكيل ماركسي آخر، هو امتداد للحركة الشيوعية الفلسطينية بعدما تفسّخ إلى غير عنوان، وأصبح جزءٌ منه تابعاً للحزب الشيوعي في الداخل الفلسطيني، والآخر في الأرض المحتلة العام 1967، وآخر في الأردن .. قبل أن يتّخذ لنفسه، مع مطلع مرحلة أوسلو اسم حزب الشعب، بعدما كان تنظيمياً شيوعياً ، له مداخلاته على الأرض.
.. هذا كُلّه هو الذي كوّن اليسار، الماركسي والقومي. ولا أدري لماذا كانت الأدبيات تصف حركة فتح بأنها حركة يمينية، رغم " ثوريّتها " وصدوعها الواضح بهدف حاسم يتغيّا تخليص البلاد من الغزاة، وإقامة دولة ديمقراطية في فلسطين؟! وأعتقد أن فتح قد وسمت بهذه " اليمينية " لأنها نأت بنفسها عن أن تتبنّى مرجعية فكرية أيدولوجية، تقيّدها، وتحدّ من تشريع بوّاباتها لَمنْ أراد أن ينتمي إلى صفوفها، من كل المشارب والتوجّهات.
وبرأيي ، فإن اليسار الفلسطيني لم يعد، منذ أوسلو حتى اليوم، قادراً على أن يشكّل قوة أو تياراً عريضاً قادراً على إحداث فرق تاريخي، في السياسة أو الحياة، بقدر ما انكمش وتراجع ، وأصابه الوهن .. ولم يعد نخبةً يُشار إليها بالبنان.
أسباب الأزمة:
ويمكن أن نتلمّس الأسباب الجوهرية الكبيرة، التي أدت إلى إخفاق اليسار وتراجعه، وتتمثّل في:
- انهيار الاتحاد السوفييتي؛ إذ أن كل الأحزاب والتشكيلات اليسارية في العالم قد أصبحت في مهبّ الريح، بعد أن فقدت الظهير الكونيّ لها، والذي كان يمدّها بالنسغ الفكري وبالدعم المعنوي والمالي .. بلغةٍ أخرى؛ كيف لهذه الأحزاب، التي كانت تعتمد الماركسية اللينينية أن تظلّ رافعة للواء الفكر الأحمر، وقد أخفق هذا الفكر وأعلن فشله وإفلاسه على أرضه، التي أقام عليها بنيان نظريته؟ فإذا فشلت الماركسية في البلد الأمّ .. فكيف لها أن تنجح في الأطراف ؟! مع العلم أن من منظّري الماركسية نفسها مَن أعلن عن وصولها إلى نهايتها التراجيدية، أو اصطدامها بجدار النهاية المؤسفة.
- عدم قدرة اليسار الماركسي عامة، والفلسطيني خاصة، على إجراء مراجعات فكرية عميقة، تستطيع أن تجد البديل من داخل النظرية أو من خارجها، وتجد الفكر الأكثر موائمة لخصوصية اللحظة التاريخية والمكانية، التي تتطلب فكراً قادراً على توليف الإجابات المطلوبة لكل المتطلبات والأسئلة الحارقة والكبيرة، التي تتقدم نحو هذا اليسار.
- وبظنّي فإن المفكرين اليساريين الماركسين في الجبهات اليسارية الفلسطينية، لم يقدموا لنا نتاج تبصّرهم ومعاودتهم وسبر غورهم للفكر الماركسي اللينيني، حتى وإن أخفق في غير مكان .. لكن اليساريين الماركسيين وقعوا في اعتبار أن الماركسية هي "دّين" مثلها مثل باقي "المقدّسات" ما جعلهم غير قادرين على الذهاب بعيداً في التأويل، والتحرّر من جمود وثبات وقداسة وحرفيّة النص الماركسي اللينيني، رغم أن الماركسية هي فكر بشري واجتهاد إنساني وسياق وضعي، وليس ديناً سماوياً قد يحدّ من فتح الفضاءات للتفسير والتأويل والخروج بخلاصاتٍ وَفِقْهٍ جديد.
- إن اليسار الفلسطيني الذي ضعفت شوكته بعد خروج الثورة من بيروت العام 1982، وجد نفسه دون استطالات وأذرع تمكّنه من مواصلة حضوره وتأثيره، إذ وجد نفسه مُنساقاّ مع ما تبقّى من قوى الثورة في مكان بعيد عن المجابهة والمقاومة والنضال المباشر، ما أضعفه وجعله إطاراً لا يستطيع أن يفعل أكثر من إبداء الآراء وطرح الأفكار، كما وجد نفسه محاطاً باستحقاقات ومتطلبات وشروط الجغرافيا والقوى الإقليمية واللحظة التاريخية .. وهذا ما يفسّر تماهيه مع الخطّ السياسي الذي مضت فيه منظمة التحرير وعلى رأسها فتح، وتعاطت مع أوسلو، حتى ولو رفضتها لفظياً، بعد أن كان اليسار فيما مضى من عقود، قادراً على تشكيل "جبهة رفض" استطاعت بنسبة أو بأخرى أن تكون كابحاً أمام هرولة السياسي وسعيه للوصول إلى حلول لا تلبّي الحدّ الأدنى المطلوب من الحقوق الفلسطينية. وأرى بأن اليسار الفلسطيني الذي وجد نفسه على جزء من الأرض الفلسطينية بعد أوسلو ، أراه قد دفع ثمن "عودته" المجزوءة وغير الكاملة إلى جزء مرهق من الوطن، وليس إلى كامل التراب الوطني، كما أنه عاد إلى فلسطين بموجب اتفاق سياسي، وصفه هو بأنه هابط وغير ملائم ، ولم يعد على ظهر دبّابة تحرّر البلاد والعباد .. وهذا ما جعل اليسار يدفع الثمن نفسه، الذي دفعته حركة فتح، باعتبارها عرّابة الاتفاق والحلّ الأوسلوي.
وإذا ما تأملنا قول رودنسون "من اليسير أن نجد في تراث ماركس ما نبرّر به أية فكرة، إن هذا التراث كالكتاب المقدس، حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيه نصوصا تؤيد ضلالته" .. فلماذا لم يستطع فقهاء الماركسية اللينينية والأمميون الإشتراكيون من إيجاد أفكار مناسبة، من داخل الماركسية، ليواصلوا اجتهادهم .. لاجتراح صيغ تجعل الماركسية حيّة نابضة ومتواصلة، وإن كانت مختلفة بعض الشيء أو أحدثت إزاحة داخل النص الماركسي .. لكنها ستبقى محافظة على روح الماركسية اللينينية! والجواب هو، كما أراه، أن ثمة أسلوبين لتفسير أيّ فكر، إما أن نقوم باقتراض أفكار ما، من ثقافات ونظريات سابقة، أي من ثقافات وافدة، وهو ما أطلق عليه المفكرون بتقنية التوفيد .. وإما أن الأفكار تكون محصّلة لصراع سياسي، وهذا ما أسموه بتقنية التسييس. وأزعم أن النُخب الفلسطينية كافّة، يسارية ويمينية، لم تسطع أن تبلور أو تجد أو تخلّق فكراً.. توفيدي أو تسييسي!.. وبهذا فإن العقل السياسي الفلسطيني هو عقل مجرّد، لم يصل إلى شفافية ونصاعة العقل المؤيّد الصوفي، أو العقل المسدّد الفقهي .. ما يعني أننا أمام أزمة فكرية سياسية مُركّبة، تحتاج إلى أن نمعن النظر جيداً فيما نحن فيه من فراغ.
بلغة أخرى؛ لا يمكن أن نفهم أزمة اليسار إلا إذا نظرنا بعمق إلى أزمتين كبيرتين هما:
- الأزمة الوطنية الفلسطينية بشكل عام، لأنها أدخلت الكلّ الفلسطيني في أزمة حقيقية.
- أزمة الأيديولوجيا، التي باتت تنتمي إلى عهد ولّى، وأصبح اليسار بلا حلفاء، وبلا برنامج، ولم يعد كافياً لأن يتغطّى بمظلّة "المعارضة".
واليسار، الآن، لدية أزمة قيادة، وأزمة ورموز .. تقدر على التأثير والاستقطاب، ولديه أزمة مصادر تمويل، ما دفعه للمنظمات غير الحكومية ليعمل فيها ومعها، بمعنى أصبح ضدّ نفسه لأن هذه المنظمات تخدم اليمين العالمي، أي أنّ اليسار أضحى جزءاً من منظومة أعدائه التقليديين.
وإذا نظرنا إلى الخريطة الأقليمية والعالمية، سنجد أن اليسار، الذي عرفناه وعرفه العالم، قد تراجع، وتقدّم اليمين واليمين الديمقراطي، في العديد من الدول.
لقد اعتاد اليسار، فيما مضى، على مواكبة الحراك اليساري الإقليمي والدولي، ولم يكن لديه "منهج " للتطوّر الذاتي أو النهوض الذاتي، على كل المستويات .
والذين استطاعوا، في العالَم، من اليساريين، الاستمرار والبقاء، هم أولئك الذين كانت لديه مقوّمات التواصل، رغم أزماتهم، التي عرقلت مقومات نهوضهم إلى حدّ كبير، أي أستطاعوا أن يحافظوا على برامجهم الاجتماعية، وعملوا، ما أمكنهم، علىى تطويرها، وغطّت على سقوط أيديولوجيتهم، في زمن ترنّحت فيه الأيديولوجيات الكبرى وهوت.
وهنا في فلسطين، والعالم العربي عامةً، ما زال اليسار عارياً، لا يملك أيّ أيديولوجيا أو برامج أو مصادر أو رموز وقيادات تستطيع أن تقوم بعملية مراجعة عميقة من جديد، وإن بملامح جديدة.
إن الاقتصار على التنظير والإجهاش باللغة والمصطلحات، لم يعد كافياً أو مقنعاً، في زمن الاندفاع والإبداع والجموح والتجريب والشفافية، وإنّ صرف المزيد من الكلام والخطاب المكرور القديم، لا يمكن أن يشكّل وصفه إنعاش أو إحياء لليسار.
ماهو المطلوب إذاً ؟
لست على يقين، من وجود مساحة في الوضع الفلسطيني للمُكَوِّن اليساري، لأن المسافة، سياسياً، بين اليسار وبين ما اصطلح عليهم باليمين الفلسطيني وأعني حركة فتح، قد ضاقت سياسياً وواقعياً.
وربما، قد يكون اليسار قد تأخّر كثيراً لأن يقوم بعملية مراجعة تاريخية واسعة وشاملة، والتي كانت ممكنة قبل عشرين عاماً، على الأقلّ .. ما يعني أن اليسار قد عبر كل مراحل الأزمات الظرفيّة، دون مراجعة أو تطوير أو تبديل، ودخل إلى أزمة الوجود، التي قد يكون في مراحلها النهائية. وهذا قد يعني أن اليسار غير موجود جوهرياً، بل شكلياً لا غير.
ومن هنا، نرجو أن يقوم اليسار بإعادة موضعة وجوده داخل البُنى الاجتماعية والسياسية الفلسطينية الحالية، والتي تغيّرت بصورة كبيرة، لأن الُبنى اليسارية تشغل حيّزاً في البنى الاجتماعية والسياسية لزمنٍ مضى .. أي أن اليسار، اليوم، موجود، ويشغل حيّزاً في الذاكرة والتاريخ، وليس في الواقع الحاضر.
إن كيّفيات التموضع تحتاج إلى جرأة عالية لخلع جلباب الماضي والفكر اليساري التقليدي، وتحتاج إلى قدرات إبداعية لطرح بديل وطني؛ فكري سياسي واجتماعي، يستطيع استقطاب جمهور واسع وجديد من الشعب الفلسطيني، الذي لم يعد يقتنع أو يكتفي بالشعارات الطنّانة، وإنما يتلهّف لقوى جديدة تستطيع أن تجترح حلولاً ورؤى لأزماته السياسية والوطنية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية.
قلنا إن المسافة السياسية والوطنية بين اليسار واليمين الفلسطيني ضاقت إلى حدّ الصفر، ليس فقط ضمن الحيّز السياسي والفكري، بل هي أكثر تعقيداً، لأنها ضاقت بهما معاً، داخل مكوّن الأزمة الوطنية نفسها.
إن اليسار واليمين الفلسطيني، من حيث مكوّناتهما الهيكلية ينتميان إلى زمن غير قائم! وثمة تغيّرات هائلة قد حدثت في التكوين الاجتماعي والسياسي والفكري الفلسطيني، وصرنا نرى تجلّيات وجوده على أرض الواقع، عملياً، بصورة أكثر حيوية وحضوراً، رغم افتقارها للبنية التنظيمية الواجبة، حتى تكون بديلاً ملائماً عنهما.
إن القوى الاجتماعية والاقتصادية الفاعلة اليوم على الساحة الفلسطينية، التي تصنع الأحداث وتؤثّر في الواقع .. هي قوى خارج التكوين السياسي أو النظام السياسي الفلسطيني ، بمعنى أنها ليست من فتح ولا من اليسار.
وإن عدم توفرّ المكوّنات الهيكلية الناظمة لهذه القوى الجديدة .. لن يستمر طويلاً، وسيجد النظام السياسي نفسه، بجناحيه التقليديين اليمين واليسار، أمام قوى جديدة ستدفعه الضرورة والحيّز الفارغ، للانتظام والتشبيك والتشكيل البديل الموضوعي، عاجلاً أم أجلاً، لأن طاقة الاستفادة من القوة التاريخية، لليمين واليسار، والتي منحتهما القدرة على البقاء حتى اليوم .. ستنقذ قريباً وستنتهي، بعد أن تبيّن عجزهما وإخفاقهما في التطوّر والتغيير والتجديد.
المتوكل طه