هل شكل خطاب نيويورك عودة معلنة إلى أحضان أوسلو؟

بقلم: معتصم حمادة

(1)

■ لا يخفي المراقبون تقديرهم أن المحطات الرئيسية، التي شهدتها حالة السلطة الفلسطينية، في الأسبوعين الماضيين، في تتبعها المتراكم، رسمت منحى لمسار سياسي تعتمده السلطة في إدارة الشأنين السياسي والعام، بما في ذلك العلاقة مع دولة الاحتلال.

فمن خطاب نيويورك، الذي تجاهل قرارات المجلس الوطني ودورتي المجلس المركزي (الـ 27 + الـ 28) وقرار وقف العمل بالاتفاقيات مع دولة الاحتلال، والذي أعاد الاعتبار لاتفاق أوسلو، وللمفاوضات العبثية، والذي لوّح علناً بورقة حق العودة واللاجئين في سوق التنازلات؛ إلى التراجع عن قرار رفض استلام أموال المقاصة، احتجاجاً على حسم ما يعادل رواتب الأسرى وتعويضات الشهداء؛ إلى إعادة إحياء لجان التنسيق عملاً ببروتوكول باريس الاقتصادي؛ إلى تعزيز العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، باستيراد 2000 طن زيتون من وزارة الزراعة الإسرائيلية؛ إلى تشكيل لجنة للحوار مع الولايات المتحدة الأميركية؛ إلى إطلاق، بشكل مرتجل، الدعوة الملتبسة لانتخابات تشريعية، ... كل هذه الخطوات، إن كانت تعبر في مجموعها عن سياسة ما، فهي سياسة لم تتحرر بعد من قيود أوسلو، وقيود بروتوكول باريس، بل، وبوضوح أكثر، هي سياسة لا تملك تصوراً للتحرر من هذه القيود، بل ما زالت تتربع، مرتاحة، هنيئة، في أحضانه، وتحاول في الوقت نفسه أن تغلف تنازلاتها بادعاءات مفبركة بأنها انتصارات، تكذبها الوقائع الصادمة، كما تكذبها ردود فعل الرأي العام، الذي فَقَدَ الثقة في السلطة وقيادتها، وبات يشعر أنها تحولت، في سياساتها، وممارساتها، إلى عبء ثقيل، يلقي بنفسه على عاتق مواطن، بات جلّ همه أن يوفر لأفراد عائلته، في نهاية كل شهر، ما يسدّ رمقهم و يقيهم خطر العذاب جوعاً

(2)

لم تقدم السلطة على استلام أموال المقاصة، والتراجع عن قرارها، دون تمهيد.

مهدت لذلك بتصريحات لوزير المال شكري بشارة، حين حذر من أن السلطة لن تستطيع الاستمرار في تسديد الرواتب والالتزامات المالية، إلا لفترة محدودة،(أي لا تتعدى (الأشهر الثلاثة)) إذا لم تجد حلاً لأموال المقاصة، أو بديلاً لها. جاء ذلك في حديث نقلته عنه وكالة الأناضول بتاريخ 4/9/2019. كما أكد في السياق أن 65% من إيرادات السلطة توفرها أموال المقاصة. وأن المصارف المحلية لم يعد باستطاعتها أن توفر قروضاً إضافية للسلطة، وأن موظفي السلطة الذين باتوا يتلقون فقط 50% من رواتبهم، لم يعد بإمكانهم تسديد قروضهم للمصارف، ولا للتجار، وبالتالي بات الوضع كله على وشك الانهيار.

الشيء الذي لم يقله وزير المال، أن السلطة بقرارها وقف استلام المقاصة، أرادت أن تمارس دوراً بطولياً، لكنه دور مرتجل، غير مبني على دراسة، ولم يوفر لهذه الأموال البدائل؛ الأمر الذي، وبدلاً من أن يحول القرار إلى مصدر قوة، حوله إلى عامل إضعاف للسلطة، وللمجتمع الفلسطيني، وكشف إلى أي مدى باتت السلطة، ومؤسساتها وأجهزتها وماليتها، أسيرة لبروتوكول باريس الاقتصادي، ولتطبيقاته. وأن السلطة لم تضع سياسة بديلة للخروج من قيود هذا البروتوكول، مع أن المجلس المركزي، في 5/3/2015 اتخذ قراراً واضحاً، دعا فيه

إلى الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل، لكن السلطة وبدلاً من أن تضع سياسيات بديلة لبروتوكول باريس الاقتصادي، عطلت تنفيذ القرار، وأوقعت المجتمع الفلسطيني ضحية سياستها العبثية المرتجلة، وسياسة الارتماء في أحضان أوسلو وبروتوكول باريس .

(3)

خطت السلطة خطوة أولى نحو استعادة أموال المقاصة والتراجع عن قرارها، حين وافقت على «اقتراح» وزير المال الإسرائيلي موشيه كحلون، أوجد لها مخرجاً، ألا وهو أن تسترد أموال ضرائب الوقود والمحروقات (البلو) بذريعة أنها أخرجت من آلية المقاصة، وباتت تجني من قبل السلطة مباشرة. وبذلك استردت السلطة، ملياري شيكل إسرائيلي، مكنها من مواصلة دفع الرواتب والتعويض الجزئي على بعض الحسومات على رواتب الموظفين.

كان من الطبيعي أن يستقبل الرأي العام قرار السلطة بصمت ودون ضجيج، لأنه عالق بين فالقين يضغطان عليه بشدة، هما نتاج للسياسة المرتجلة للسلطة. ولعل هذا ما شجع السلطة، على المضي قدماً فوافقت على استعادة كامل الأموال المتراكمة لدى سلطة الاحتلال، في خطوة تراجعية، كشفت هزالة وهشاشة السلطة الفلسطينية وهشاشة سياستها. وحاولت في، السياق نفسه، أن تدعي أن أزمة أموال المقاصة لم تنتهِ بعد، وأن إسرائيل ما زالت تحتجز أموال الأسرى والشهداء، وأن السلطة، لن تتخلى عن هذه الأموال.

المثير أن السلطة لم توضح ما هي الضغوط والآليات التي سوف تتبعها لاسترداد باقي الأموال، خاصة وأن القرار بيد إسرائيل، هي التي قررت الحسم وهي التي ما زالت تمارس هذا القرار وتنفذه.

المثير أيضاً أن السلطة لم تعتذر للمواطن. لم تشرح له لماذا تراجعت عن قرارها برفض استلام أموال المقاصة. لم تكاشفه بواقعها المزرى، وأوضاعها المفككة، بل مارست عليه وأمامه سياسية عنترية فارغة المضمون، حاولت من خلالها أن تغطي عيوبها وعوراتها الفاضحة. ولم تشرح للمواطن ما هي المكاسب التي تحققت مقابل المعاناة التي عاشها في الأشهر الماضية.

الأكثر خطورة من هذا، أن السلطة، دخلت معركة وهمية، مجردة من أي سلاح، في الوقت الذي أهملت ما في يدها من أسلحة فعّالة، إن هي أرادت أن تجابه الفرصة الإسرائيلية. والمجال السياسي هنا واسع في مداه. كان ممكناً وقف التنسيق الأمني. كان ممكناً وقف استيراد السلع الإسرائيلية. كان ممكناً تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل؛ وبالتالي منح المعركة بعدها السياسي الحقيقي.

هي ليست قضية مالية بحتة، بل هي قضية (أولاً وآخراً) سياسية من الطراز الأول. فقد جرى حسم أموال الأسرى والشهداء، بقرار سياسي، وكان يفترض أن يكون الرد سياسياً. والمجال ما زال متاحاً أمام السلطة لخوض معركة استرادا أموال الأسرى والشهداء، ما دامت تعترف أن أزمة أموال المقاصة لم تنتهِ بعد. السلطة تعترف بوجود معركة، وبوجود أزمة، لكنها تحجم عن خوض المعركة، حرصاً على مصالح الطبقة السياسية العليا. وحتى لا تصاب هذ المصالح بضرر، تراها تضحي بدلاً من ذلك بمصالح المواطنين، حرصاً على مصالحها الفئوية

(4)

مباشرة بعد الإعلان عن استلام أموال المقاصة، منقوصة، وفي ظل استمرار حسم أموال الأسرى والشهداء، أعلن عن إحياء لجان العمل المشترك بين السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال، والخاصة بتطبيقات بروتوكول باريس. وأوضحت التصريحات أن وظيفة هذه اللجان هي التنسيق من أجل تطبيق البروتوكول ضمن آليات «تحفظ أموال السلطة» تحت سقف نظام المقاصة؛ بحيث تحتسب أموال السلطة المجابة من قبل سلطة الاحتلال على المعابر، وتحتسب أموال إسرائيل مقابل «الخدمات» المقدمة لمناطق السلطة.

المراجع المعنية في السلطة، اعتبرت إحياء اللجان انتصاراً لها، فهذه اللجان معطلة منذ العام 2000، أي منذ اندلاع الانتفاضة الثانية.

وأدعت أن هذا سيكفل للسلطة استرداد أموالها كاملة، ماعدا أموال الأسرى والشهداء، التي تصر إسرائيل على حسمها والتي سلمت بها السلطة.

الشيء الذي لم تعترف به السلطة، هو أن هذا القرار بإحياء اللجان المشتركة، يندرج في سياق معاكس تماماً لقرار وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل. وأنه قرار يهدف إلى إدامة العمل بالاتفاقيات، وتكريسها في العلاقة اليومية مع دولة الاحتلال. أي أن السلطة تحاول أن تنزع عن قراراتها مع إسرائيل طابعها السياسي، وتحاول أن تضعها على حدود التعاون التقني والفني ليس إلا، وهذا ما يدلل على أن السلطة مرة أخرى، لا تملك ولا تريد أن تملك، استراتيجية للخروج من بروتوكول باريس الاقتصادي، ولا من اتفاق أوسلو، وأن اللجان التي تشكلها، وآخرها لجنة وقف العمل بالاتفاقيات، ماهي إلا لذر الرماد في العيون، وتغطية عملية التهرب من استحقاقات قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، وتضليل الرأي العام، والتغطية على عجزها، وفشلها في رسم سياسة مقاومة للاحتلال. وما كل الضجيج الإعلامي إلا صدى لطبل أجوف، خالٍ من أية معاني، سوى إعلاء صوت الضجيج، للتغطية على حقائق السياسة اليومية للسلطة.

إحياء اللجان لتطبيق بروتوكول باريس، انتهاك للشرعية الفلسطينية متمثلة في قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، وقضية تستحق أن تحال إلى المحكمة الدستورية، لتقاضي مرتكبيها، على تمردهم على قرارات المؤسسة الوطنية، الملزمة لكل دوائر السلطة دون استثناء ومؤسساتها التنفيذية

(5)

في خطوة مماثلة لخطوة استرداد أموال المقاصة، بالشروط الإسرائيلية، وخطوة إحياء لجان التنسيق لتطبيقات بروتوكول باريس الاقتصادي، أقرت حكومة السلطة الفلسطينية، في اجتماعها، شراء 2000 طن زيتون من إسرائيل. بذريعة أنه مخصص للكبيس، وأن الكمية المتوفرة في الضفة لا تفي بحاجة السكان الاستهلاكية. وطبقاً لمعلومات أخرى فإن ما تم شراؤه العام الماضي من الزيتون من إسرائيل تجاوز 5000 طن، إلى جانب كميات كبرى من التين والتين الشوكي (الصبار) وغيره من الإنتاج الزراعي في إسرائيل. وليس خافياً، وباعتراف الصحافة الفلسطينية نفسها، فإن كثيراً من المنتج الإسرائيلي يعاد تعليبه في الضفة الفلسطينية على يد كبار التجار، وباعتراف دوائر السلطة الفلسطينية، التي تمنحه شهادات المنشأ باعتباره منتجاً فلسطينياً، يتم تصديره إلى الدول العربية المجاورة، كما يتم تصديره ، بالتنسيق مع الشركات الإسرائيلية، إلى الدول الأوروبية للتهرب من مقاطعة المستهلك الأوروبي، لمنتج المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية. وطبقاً لمصادر موثوقة،

فإن كميات كبرى من منتج المستوطنات يتم تهريبه عبر تجار كبار في الضفة، إلى السوق الفلسطينية، ويتم الترويج له باعتباره منتجاً فلسطينياً.

هذه الوقائع تضعنا أمام تساؤلات عدة. منها:

1) لماذا تستورد الحكومة في السلطة الفلسطينية إنتاجاً زراعياً إسرائيلياً، رغم قرار المجلس الوطني والمجلس المركزي، و«القيادة الفلسطينية» (25/7/2019) بوقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، ومقاطعة الإنتاج الإسرائيلي.

2) ما هي الضمانة، جدلاً وليس تسليماً بمبدأ الاستيراد، أن ما سوف يوزع في الضفة على أنه من «داخل إسرائيل»، ليس من إنتاج المستوطنات الإسرائيلية المزروعة في الضفة، والتي لا يتوقف ساكنوها عن إحراق زيتون الضفة واقتلاع أشجاره وإلحاق الضرر بموسمه ومصالح المزارعين.

3) لماذا لم تصدر الحكومة في السلطة الفلسطينية حتى الآن، قرارات واضحة تماماً وصارمة، ولا تصدر قيادة السلطة مراسيم جازمة تحرم، الاستيراد واستهلاك المنتج الإسرائيلي تحت طائلة المسؤولية أمام القانون.

4) ما هي أشكال الرقابة التي تفرضها السلطة الفلسطينية على استيراد الإنتاج الإسرائيلي وإنتاج المستوطنات، خاصة، وأن الأسواق الفلسطينية مازالت تعج بالبضائع الإسرائيلية.

5) إلى متى ستبقى السلطة تشكو وتنوح وتولول بأننا بتنا أمام «احتلال بلا كلفة» وأن العاملين في السلطة، «باتوا موظفين لدى سلطة الاحتلال»، وإلى متى ستبقى تتسول تأييد «المجتمع الدولي»، دون أن تتقدم هي، خطوة ولو واحدة، في تطبيق ما تقرر في المؤسسة الوطنية لمجابهة سياسات الاحتلال، ومقاومتها ميدانياً.

تساؤلات عديدة، من شأنها أن تضعنا، في نتائجها، أمام واقع مكشوف لا تستطيع الخطابات الرنانة، ولا «التحديات» الفارغة أن تغطي عليه.

مازالت السلطة الفلسطينية، وقيادتها لم تخرج من تحت سقف أوسلو، وبروتوكول باريس، ومازالت رهاناتها السياسية لم تغادر هذا السقف، رغم إدراكها أنها رهانات خاسرة، وفاشلة، ولا تنتج سوى الكوارث.. والمزيد من المهانة ■

 

معتصم حمادة