أمد/ كم مرة أحس الفلسطينيون بالألم والحسرة تعتصر قلوبهم؟ وكم مرة أحسوا بأنهم لا يقدرون على البكاء لان دموعهم جفت؟ ولكن الآلام ما تزال تسكن قلوبهم، والحرقة ما زالت تعصر أفدتهم، خوفاً وهماً وحزناً وتردداً وقهراً وألماً، هذه بعضا من أحاسيس شعبنا التي ربما أحسست بها يوما ما، ولكن لا أحد يدري بمشاعرهم الدفينة التي لا تظهر إلى السطح. إذا كتب كل مواطن فلسطيني ما يحزنه وكل همومه وكل مشاكله، ما مقدار الورق الذي يحتاجه ليكتب ويدون كل الهموم وكل الإحزان وكل المشاكل؟ الفلسطينيون بحاجة الى من يستمع اليهم بصدق ليستشعروا بأنه يحمل همهم ومعاناتهم ليعمل على تذويبها وحلها، صحيح أن التخلص من هذه الهموم بسهولة بها نوع من الخيال ولكن علينا أن نرسم الأمل للأجيال نحو مستقبل زاهر ومشرق بعيدا عن منغصات المتنفذين والسياسيين وأصحاب المنافع الخاصة والحزبية. لازال الفلسطينيون يعيشون تحديات مفصلية في مسيرتهم، تحديات أمنية واقتصادية ومالية وسياسية وإجتماعية وثقافية، وأصبح الوطن الفلسطيني مدخلا للصراعات ومحطاً للازمات في المنطقة التي تعاني أصلا من أزمات كبيرة وصراعات مفتوحة. لقد زرع السياسيون والمتنفذون عوامل الإحباط لدى الشباب مما دفعهم إلى الهجرة إلى الخارج، بعد أن أدركوا إن مساحات الأمل بدأت تضيق إمامهم، فسبب إلى غرق الكثير منهم في مياه البحر، فازدادت حرقة شعبنا على أبنائهم الذين هاجروا بسبب التصرفات اللامسؤولة من قبل البعض من المتنفذين والسياسيين وأصحاب القرار الذين لا يعرفون كيف يقودوا البلاد. ولقد ازدادت حرقة الفلسطينيين كذلك على تأخر الحكومات السابقة في تنفيذ حزمة إصلاحات، وانتظر الشعب تفعيل تلك الإصلاحات ولكن وجدنا أن رؤساء الوزارات السابقين واللاحقين مكبلين اليدين بتأثير التحالفات السياسية والحزبية الموجودة بالوطن. لقد ضيعت الحكومات الكثير من الفرص الكبيرة كان بالإمكان أن تستثمر لبناء حياة أفضل للمواطن الفلسطيني وبناء مؤسسات اقوى للدولة الفلسطينية، ولكنهم التهوا بإهدار المال العام في مشاريع لا تجدي نفعا وفي صراعات فئوية وحزبية ضيقة والسماح بالتدخلات الخارجية وتضييع فرص كبيرة على وطننا وشعبنا من الصعب تعويضها. أن حرقة شعبنا على وطنهم لا تخمد بإصلاحات هنا أو هناك بلا يجب أن تكون الإصلاحات في جميع السلطات التشريعية وأهمها السلطة القضائية التي سكتت على الفاسدين من الأولين والآخرين.
لسنا بحاجة إلى خطابات نارية ووعود لا يتحقق منها شي، وتهديد ووعيد لم تجلب للوطن وأهلة غير المصائب والصراعات، وسئمنا كثرة الأحاديث منذ الصباح إلى المساء، لان حاجتنا الحقيقة إلى قرارات مصيرية وحاسمة تعيد للوطن ومؤسساته هيبتهما وتفرض سلطتهما وتحقق للشعب بصيص من الأمل في العيش الكريم وغد مشرق للجميع. قد يعتقد البعض إن الإصلاح المنشود يقتصر في تشريع بعض القوانين أو إلغاء القرارات السابقة وتغير الأشخاص وبناء مدراس أو مستشفيات أو تقليل مخصصات أو الامتيازات الممنوحة للوزراء وغيرهم، وزيادة الرواتب لفئات أخرى وتوفير المنح والهبات للاسر الفقيرة والمعوزة، ومعالجة ملف الخدمات والمشكلة الأبرز الكهرباء ونقص المياه وفتح المعابر، وقد تكون كل ما ذكرناه مطلوب ولكنها ليست الحل لان المطلوب اكبر بكثير من ذلك. المفروض والمطلوب يبدأ العمل وفق خطة شاملة تعالج كل مشاكل الوطن هنا وهناك، والاهم من ذلك إن نضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وفق معيار الخبرة والكفاءة، وإعطاء الكفاءات الوطنية دور إستراتيجي في هذه المرحلة الحساسة, وهو الأمر الذي لم يحدث سابقا. علينا إعادة النظر والعودة إلى نقطة البداية لمعالجة أصل المشكلة وهو الإنقسام والذي سبب لنا من الويلات والمشاكل، ووضع معالجات حقيقة له وفق روية موضوعية تراعي مصلحة كافة مكونات الشعب الفلسطيني وتحفظ لهم حقوقها وواجباتهم . اعادة بناء الجهاز القضائي والعمل على استقلاليته وعدم التدخل في شؤونه، وتقليص عدد الوزارات وفق مصلحة الوطن وليس لمصلحة حكمها وإبعادهما عن الصراعات السياسية، لتمارس عملها بمهنية ووطنية. إن مهمة من تقع عليهم مسؤولية التغير والإصلاح اليوم ليست سهلة تماما، إنما هي وضع أساسات للدولة الناجحة القوية وهو المطلوب منهم رغم الصعوبات والتحديات من الداخل والخارج، لكنها هي الحل الأمثل لكل مشاكلنا، لنكون إما البقاء بنفس الماضي أو الانطلاق نحو المستقبل وهنا مفترق الطريق. علينا أن ننجح أولا في معركة مهمة جدا ألا وهي معركة البناء الذاتي، وتوفير عناصر القوة الذاتية وهو الأمر الذي يتطلب منا بدقة:
1- توفير إستحقاقات الإصلاح الديمقراطي بكل الأبعاد والمعاني ولاسيما ونحن شعب نعشق الديمقراطية والحرية.
2- تصحيح وزيادة وتائر وإتجاهات البناء والتطوير والنماء المؤسساتي والعمل المهني التنظيمي.
3- تكامل أجهزة ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وعدم تنازع وتضارب المجهودات والإنجازات فيما بينهما.
4- الحزم والضرب من حديد في مواجهة عناصر الفوضى الإجتماعية والتعصبات الفكرية والتحزبات والتكتلات الهدامة وفوضى القوى والعشائرية والعائلية كالنزعات الخاطئة وفوضى السلاح والفلتان الأمني والمجتمعي وبروز مراكز القوة. 5- الحزم بالإجراءات والعقوبة والمحاسبة الرادعه والمكاشفة حيال السلوكيات السلبية، لأن "أمة تفقد قيم سلوكياتها سوف تفقد قيم أهدافها ونبل تطلعاتها". 6- يجب أن يكون هناك آليه تثقيفية وإعلامية وتربوية في مستوى العمل التعبوي وفي مستوى البناء المعنوي وبناء الإنسان وتعزيز الثقة بالمنجزات ومواجهة العمل الإعلامي والتعبوي المعادي والمضاد بكافة صوره، بحيث تكون لدينا آلية إعلامية منافسة "قادرة على التأثير والتنوير والتثقيف".
7- العمل الحثيث لتوفير كل عناصر وأبعاد الوحدة الوطنية، سواء في النطاق الشعبي أو في نطاق العلاقة بين الشعب والسلطة أو في نطاق القوى السياسية والتنظيمية.
8- لابد من خلق برامج للبناء المستقبلي على مستوى الثقافة والتعليم والتعليم العالي والأبحاث العلمية والتقنية خصوصا، والصحة والإقتصاد والتكنولوجيا تجمع ما بين الخصوصية والإحتياجات وضرورات التحديث والتنوير ومواكبة مستوى التطور العلمي والحضاري للمجتمعات الراقية ولمستوى تطلعنا للتقدم والنماء الحضاري وضرورات مواجهة المستقبل.
9- لابد من التقدم في مضمار بناء مؤسسة القضاء وإعمال سلطتة، حيث أن العدل هو أرقى قيمة من قيم الحكم الصالح، وأن توفير العدل أصبح رهنا بمؤسسة قضائية تتمتع بالقدرة والكفاءة والنزاهة، والسلطة الضرورية لحياتنا، فبدون العدل لن نبني ونطور وننمي مجتمعنا ولن نحقق نظامنا ولن تكون هناك قيم نبيلة ولن يكون هناك إستقرار إجتماعي، "ولا أمن ولا أمان".
ومن البديهي أن هناك فارقا بين القدرة والرغبة، وبين الممكن والطموح، ولكن يجب أن يكون هناك إتجاه وخطوات على طريق هذا الإتجاه وإرادة تراكم تحقيق الإنجازات جزءا جزءا، لكي نصل إلى مبتغانا وأحلامنا وأمالنا في مجتمع فلسطيني عتيد قوي وراقي تتوفر لديه عناصر القوة والتقدم والرقي الأخلاقي والقيمي.
وفي هذا السياق أريد التأكيد أيضا على أن من أهم الأسباب لتحقيق النصر والإزدهار والتطور والرقي لشعبنا ووطننا يكمن في التالي:
1- الإيمان المطلق بعدالة القضية.
2- الثقة التامة بالقيادة الفلسطينية وبقراراتها وبرامجها.
3- إلتفاف جماهيرنا الفلسطينية حول نفسها ومساندة قادتها وحمايه مؤسساتها من التخريب والإشاعات والفتن.
4- إعتبار القضية الوطنية الفلسطينية المحطة المركزية الأولى في أجندة كل فرد من أفراد المجتمع. وإنطلاقا من هذه الأسباب فلابد من توفر أسباب أخرى لتدعيمها والثقة بها مثل:
1- إعادة النظر دوما في الهيكل الحكومي والتنظيمي والمؤسساتي الفلسطيني. 2- وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
3- الإصلاح الإداري المستمر في البنية الداخلية والخارجية (وخصوصا السفارات والدوائر الدبلوماسية ومؤسسات العمل الأهلي والوزرات التي تتعامل مباشرة مع المواطنيين).
4- ترسيخ مفهوم العدالة النسبية.
5- المحاسبة المستمرة وملاحقة الفاسدين والمرتشين والأفاقين المنافقين.
6- إشاعة مفهوم العمل المشترك.
7- صياغة القوانين وتطبيقها بالعدل.
8- وضع كافة القوى والمؤسسات والدوائر وكذلك الأفراد تحت السيطرة. ومما لا شك فيه أن مدى ما نمسك به من إستحقاقات في الأرض والإستقلال، في تحرير إنساننا وأرضنا وبحرنا وفضائنا، هو الأساس لميزان قوتنا المضافة إلى قوة الروح الفلسطينية.
ومما لا شك فيه أيضا أن الجانب الآخر لميزان قوتنا هو مدى ما نرتب ونشحن فيه عناصر قوتنا الذاتية، فإن تنظيم وإستنهاض القوى الذاتية هو أمر في غاية الأهمية لكي ينطبق الذاتي مع الموضوعي في لحظة واحدة ويتحقق حينها النصر المبين، في بناء وتطوير ونماء مجتمع محلى وإقامة دولة مستقلة حديثة، وهذا النجاح بحد ذاته هو جزء من عناصر وعوامل معركتنا مع الجانب الإسرائيلي الغاشم من أجل حريتنا وإستقلالنا، حيث إن كل مقدار من الحرية يغذي القوة الحضارية لدينا، وكذلك فإن كل مقدار من النجاح الحضاري يغذي قوة معركة حريتنا.
اذا في حال تطبيق الأسس والمبادئ آنفا الذكر والعمل بها، فلن نجد خللا في هياكلنا وبنيتنا الوطنية والتنظيمة، بل سنجد مدا وتطورا ونماءا وقوة مهما كانت تحطيم إراداتنا أو القضاء على قضيتنا الوطنية، وسنجد أنفسنا أمام حقائق نحن صنعناها بإرادتنا وبإيماننا، وكذلك بعملنا المتواصل الدؤوب والمستمر.
*آخر الكلام: لقد حرم شعبنا من العيش بحرية وسلام وإطمنان، نتيجة تكالب عليه القوى الشريرة والتي سلبت منه الأمن والأمان والعيش الكريم، وآن الأوان أن نصوغ فجرنا بأيدينا، لأننا صلينا لبزوغ الفجر الفلسطيني.
بقلم/ رامي الغف