منذ عدة دورات لانتخابات الكنيست الإسرائيلي تراجع الملف الفلسطيني كثيرا في برامج مرشحي الأحزاب الصهيونية المتنافسة وفي سجالاتهم. وأدى ذلك، من ضمن أسباب أخرى كثيرة، إلى بلورة اصطفافات جديدة على أسس عقائدية واتجاهات سياسية ـ اجتماعية ذات طابع فكري أنشأت تحالفات انتخابية غير معهودة في تلاصقها وربط مصير كل من مكوناتها بالآخر.
وربما هذا هو أحد الأسباب التي أفشلت رهانات الأطراف المتخاصمة حول تشكيل الحكومة في حدوث انشقاقات وتصدعات لدى الطرف الخصم، وبقيت هذه التحالفات راسخة على الرغم من عقد دورتين انتخابيتين متلاحقتين للكنيست خلال عدة أشهر.
تحالفات ليبرمان وخياراته تأثرت كذلك، وبات اليوم يقدم نفسه «سفيرا» للعلمانية بعد سنوات طويلة كان فيها جنبا إلى جنب مع الأحزاب الحريدية في حكومات متتالية.
ومع ذلك، وربطا بالوقائع على الأرض، بقيت عناوين الملف الفلسطيني حاضرة في السياسات اليومية لحكومة الاحتلال. ويعود تراجع هذا الملف في اهتمامات الأحزاب المتنافسة في الأساس إلى تراجع مساحات الخلاف حوله، بعد أن سادت سياسات اليمين مواقف الأحزاب الصهيونية جميعها تجاه سبل حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيليين، وخاصة بعد أفول المشهد المعتاد للتسوية السياسية المعبر عنها بماراتون المفاوضات ومايسبقها ويرافقها من مزايدات شملت الحكومة ومعارضيها على السواء.
ففي مرحلة التفاوض، كان نتنياهو يجد في الاستقواء على المفاوض الفلسطيني عرض قوة مجانيا، وفي التجاذب مع إدارة أوباما بشأن الاستيطان مجالا لإثبات «حرصه» على مصالح التوسعية الإسرائيلية ، ومن خلال ذلك كسب تأييد المزيد من أوساط المستوطنين وعتاولة اليمين.
وقد شهد العام 2010 ذروة التجاذبات مع واشنطن. لكن نتنياهو قرأ بشكل صحيح حقيقة العلاقات الاستراتيجية الأميركية ـ الاسرائيلية، وفهم في الوقت نفسه أن ماورد في خطاب أوباما الشهير في القاهرة بشأن الاستيطان، إنما كان مجرد تحفيز للمفاوض الفلسطيني كي يوافق على عودة المفاوضات التي توقفت في أواخر العام 2008. وبالفعل تآكل مضمون الخطاب الأميركي وبقي قطار الاستيطان منطلقا بأقصى سرعته.
ووضع نتنياهو نفسه على يمين منافسيه وخصومه بمن فيهم ليبرمان صاحب مشاريع التطهير العرقي بحق الفلسطينيين.ومكنه ذلك أيضا من ترتيب أوضاع الليكود تحت زعامته، وفرض نفسه رئيسا للائتلاف الحكومي سنوات طويلة. وعلى الرغم من أنه لايرغب بـ«الحل الثنائي المتفق عليه»، إلا أنه استثمر أعوام التفاوض لصالح مشروعه السياسي، في سياق فرض الوقائع أحادية الجانب على الأرض.
بعض الملفات الفلسطينية شكلت منطلقا لسياسات الحكومة الإسرائيلية، وأبرزها ملف الانقسام كوقائع وتداعيات. ووجد نتنياهو في ذلك سببا للتعامل مع الملف الفلسطيني عبر مسارين منفصلين، واحد تجاه الضفة والثاني تجاه قطاع غزة. ومنذ وقوع الانقسام، وفي ظل استمرار التفاوض (المتقطع) ،أعلن المفاوض الإسرائيلي أنه لن يناقش مع المفاوض الفلسطيني أي قضية لها علاقة مباشرة بغزة، من زاوية قناعته بأن السلطة الفلسطينية «لاتمون» على القطاع ، وبالتالي شق مسربا تفاوضيا غير مباشر يناقش فيه القضايا التي تخص القطاع بعد أن حصرها بالجانب الانساني، الذي امتد أيضا نحو الضفة على يد «الصفقة» الأميركية وتوائمها مع خطة نتنياهو في «السلام الاقتصادي».
وقد سعت حكومة نتنياهو ولاتزال أن تفرض على الحالة السياسية والشعبية في قطاع غزة شروط تهدئة تتناقض مع عناوين البرنامج الوطني الفلسطيني، مستغلة تراكم أزمات القطاع وأهله بسبب الحصار وتداعيات الانقسام.
والمفارقة أن الملف الفلسطيني، وعلى الرغم من تراجعه في خطاب السباق الانتخابي الإسرائيلي، يزداد أهمية من زاوية السعي الرسمي الإسرائيلي الحثيث لاستثمار مجيء إدارة ترامب وإعلان عناوين صفقته من أجل إغلاق هذا الملف نهائيا وفق الرؤية الاستعمارية التوسعية الإسرائيلية. ولهذا السبب، تزيد حكومة نتنياهو من وتيرة تغولها التوسعي على الأرض، وتسعى لكسب موافقة رسمية أميركية على الكثير من مشاريعها التي تصب في فرض التهجير والتطهير العرقي في القدس والأغوار وعدد من المناطق التي تضعها ضمن خارطة دولة إسرائيل الكبرى.
وأعطت حكومة نتنياهو للمستوطنين دورا مركزيا في تحقيق مشروعها التوسعي، من خلال إطلاق يدهم في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وعقاراته ووفرت لهم الحماية «القانونية» عبر محاكم الاحتلال وشجعتهم على تزوير عقود ملكية بأملاك فلسطينيين غائبين، وزودتهم بمحامين على نفقتها كي يرسموا إجراءات الاستيلاء على هذه الأملاك بقرار من المحاكم الاحتلالية. ونشهد في الفترة الأخيرة اعتداءات همجية يقوم بها المستوطنون في موسم قطاف الزيتون في محاولة لمنع الفلسطينيين من جنيه.
مايزيد من قلق نتنياهو أن الملف الفلسطيني غير محصور في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967، بل هو قائم ويتنامى في أراضي الـ48 ويمتد في مختلف بقاع الأرض. وقد أزعجه كثيرا أن يتمكن الصوت العربي من إنجاح «القائمة المشتركة» كقوة ثالثة في الكنيست الثاني والعشرين.وقد حاول استخدام سعي «المشتركة» للحصول على نتائج متقدمة في الانتخابات في تحفيز المزيد من جمهور اليمين للتصويت لصالح الليكود على اعتبار أن الأحزاب العربية تشكل خطرا على الديمقراطية وعلى يهودية دولة إسرائيل. وعند فوز القائمة المشتركة، اتهم خصمه الرئيسي غانتس بالتنسيق معه.
وخلال العامين الماضيين،اقترحت أحزاب الحكومة بتشجيع من نتنياهو مشاريع قوانين متعاقبة تنضح بالعنصرية ضد الفلسطينيين، وتم ترسيم الكثير منها، من بينها «قانون القومية» العنصري الذي يحصر حق تقرير المصير باليهود.
وتجاه الشتات الفلسطيني وملف اللاجئين صعدت الحكومة الإسرائيلية من محاولاتها لتصفية أركان هذه القضية وخاصة وكالة الأونروا، ووجدت في إجراءات ترامب ضد الوكالة وفي محاولة إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني رافعة هامة لتحقيق هذا الهدف. لكن إجماع المجتمع الدولي جاء معاكسا للرؤية الأميركية ـ الإسرائيلية، فاستمر في تقديم الدعم المالي للأونروا وغطى نسبة كبيرة من حصة واشنطن التي امتنعت عن دفعها.
وفيما تحدث كثيرون عن اقتراب موعد إقصائه من الساحة السياسية، لايزال نتنياهو يرى في الملف الفلسطيني منصة للقيام بمناورات ضد خصومه، ويستخدمه فزاعة الخطر القادم من غزة وحتى من الضفة من أجل تمرير الكثير من سياساته. وقد بدأ مؤخرا يعزف على وتر قرب وقوع الحرب من أجل تمرير تشكيل «حكومة وحدة» وفق الشروط التي يريدها.
إسرائيل وعقدة الملف الفلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت