يكشف هذا التقرير تورّط شركة مايكروسوفت الأميركية في أحد أضخم مشاريع الاحتلال الإسرائيليّ في مراقبة الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة. يزوّد هذا المشروع آلاف الكاميرات الإسرائيليّة المنصوبة على امتداد الضفة الغربيّة بنظام برمجيّ خاصّ يُساعد على تمييز وجوه النّاس بشكلٍ أوتوماتيكيّ، ويتتبّع حركتهم. يرتبط هذا المشروع كذلك بشبكات مراقبة ترصد نشاط الناس عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ وهواتفهم الخلويّة، ويستخدم للتنبؤ بإمكانية أن ينشطوا ضدّ الاحتلال. وعلى خطورة الدور الذي تلعبه مايكروسوفت إلا أن تقرير الصحافيّة سولون Olivia Solon، المنشور يوم 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في NBC News، يقدّم كذلك صورةً مروّعة عن عمق المراقبة الإسرائيليّة للمجتمع الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة التي لا يُضاهيها أي نظامٍ قمعيّ في العالم. أحمد جمال يترجم أهم الفقرات من “لماذا موّلت مايكروسوفت شركةً إسرائيليّةً تُراقب الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة؟”.
استثمرت شركة مايكروسوفت في شركة ستارت-أب Start-up تستخدم تقنية التعرّف على الوجوه لمراقبة الفلسطينيّين على امتداد الضّفة الغربيّة، وذلك رغم تعهد عملاقة التكنولوجيا العلنيّ بأن تتجنّب استخدام التكنولوجيا لانتهاك الحريّات الديموقراطيّة.
تبيع هذه الشركة، وهي شركة AnyVision، التي يقع مقرها في “إسرائيل” وتمتلك مكاتب في الولايات المتحدة وبريطانيا وسنغافورة، نظامَ برمجيّات “تكتيكية متطورة للمراقبة”، اسمه Better Tomorrow. يُتيح هذا النظام للعملاء تحديد الأفراد والأشياء في أي بثّ لكاميرا تصوير مباشر، ككاميرات المراقبة الأمنيّة، وكاميرات الهواتف الذكيّة، ومن ثمّ تتبّع البرمجة الأهداف أثناء تنقّلها بين الكاميرات المختلفة.
بحسب خمسة مصادر مطلعة، فإنّ تكنولوجيا AnyVision تُشغّل مشروعاً عسكريّاً سريّاً للمراقبة في الضّفة الغربيّة. أحد تلك المصادر قال إنّ المشروع يحمل الاسم المستعار “Google Ayosh”، حيث يُقصد بـAyosh المناطق الفلسطينيّة المحتلة [المحرر: أيوش، هي أحرف الاختصار العبريّة لتعبير “يهودا والسامرة” باللغة العبريّة]، فيما يرمز استخدام كلمة Google إلى قدرة التكنولوجيا في البحث عن النّاس. تعقيباً على هذا الاسم، قال أحد المتحدثين إنّ شركة التكنولوجيا الأميركيّة Google غير مشاركة في المشروع.
كان مشروع المراقبة ناجحاً جداً لدرجة أنّ AnyVision فازت بجائزة أفضل نظامٍ دفاعيٍّ في “إسرائيل” لعام 2018. أثناء الاحتفال، أشاد وزير الدفاع الإسرائيليّ بالشركة – دون ذكر اسمها – لمنعها “مئات الهجمات الإرهابيّة” باستعمال “كمٍّ هائلٍ من المعلومات”.
نصب الجيشُ الإسرائيليّ آلاف الكاميرات ووسائل المراقبة الأخرى في أرجاء الضّفة الغربيّة لغرض مراقبة حركة الفلسطينيّين، ومنع الهجمات الإرهابيّة. كذلك تقوم قوات الأمن ووكالات المخابرات بفحص المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتستخدم الخوارزميات في محاولة للتنبؤ باحتمال قيام أحدهم بتنفيذ هجومٍ فرديٍّ واعتقاله قبل ذلك. في هذا الإطار، فإنّ الإضافة التي قدمتها تقنيّة التعرّف على الوجوه تُحوّل كاميراتِ المراقبة غير الفعالة، والمُدعمة بقائمة أسماء المشتبه بهم، إلى أداة مراقبة أقوى بكثير مما كانت عليه.
“الفرضية الأساسية في أي مجتمعٍ حرّ هي أنّه يجب أن لا تخضعَ للتتبع من قبل الحكومة في حال لم يكن هناك أيُّ شكٍ بأنّك ترتكب أيّ مخالفة. يُفترض أنّك بريءٌ إلى أن تثبُت إدانتك”، يقول شانكار ناريان Shankar Narayan، مدير مشروع التكنولوجيا والحرية في اتحاد الحريات المدنيّة الأميركيّة. يضيف: “الاستعمال الواسع لتقنيات مراقبة الوجوه تَقلِبُ فرضيةَ الحرية رأساً على عقب، وهكذا نصبح مجتمعاً يكون الجميعُ فيه مُتـعقَـباً طوال الوقت بغض النظر عما يفعلونه”.
وأضاف: “قد تكون تقنية التعرّف على الوجوه الأداة الأمثل لتحكّم الحكومات الكامل في المساحات العامّة، لهذا علينا التعامل معها بحذرٍ شديدٍ. من الصّعب رؤية كيف أن تطبيقها على سكانٍ مُقيدين [كالفلسطينيّين في الضّفة الغربيّة] يتجاوب مع المبادئ الأخلاقيّة لشركة مايكروسوفت”.
عندما تواصلت NBC News لأول مرّة مع AnyVision لغرض إجراء مقابلة، أنكر المدير التنفيذيّ للشركة إيلون إيتشتاين Eylon Etshtein معرفته عن Google Ayosh، وهدّد بمقاضاة NBC، وقال إنّ AnyVision هي “أكثر شركة أخلاقيّة عرفها الإنسان”. جادل إيتشتاين في كون الضّفة الغربيّة “منطقةً محتلة”، وتساءل عن الدافع وراء تحقيق NBC، مشيراً إلى أنّ المراسل قد تلقّى تمويلاً من مجموعة فلسطينيّة ناشطة، لإجراء هذا التحقيق.
في الردود المكتوبة اللاحقة على أسئلة وادعاءات قناة NBC، قدّمت AnyVision اعتذاراً عن فورة الغضب، وراجعت موقفها. قال إيتشتاين: “كوننا شركة خاصّة فإنّنا لسنا مخولين بالتحدث بالنيابة عن أيّ دولة أو شركة أو مؤسسة”.
بعد عدة أيام، قدّمت AnyVision ردّاً مختلفاً، إذ قالت: “نُـنكِـر وبشكلٍ مؤكدٍ تورط شركة AnyVision في أيّ مشاريع أخرى غير التي قمنا بالتصريح عنها سابقاً [يقصد استعمال برمجيات الشّركة في الحواجز الموجودة في الضّفة الغربيّة]”.
استُعمِلَت تكنولوجيا AnyVision كذلك من قبل الشّرطة الإسرائيليّة لتعقّب المشتبه بهم في الشّوارع التي يتحكم بها الإسرائيليون في القدس الشرقيّة، حيث 3 من بين كلّ 5 أشخاص هم فلسطينيون. يُظهِر أحد الفيديوهات التي تُقدّمها الشركة في عروضها، وهو فيديو حصلت عليه NBC News، بثّاً حيّاً لكاميرا تراقب الناس، بما يشمل الأطفال والنساء اللواتي يرتدين الحجاب والعباءات، بينما هم يمشون في شوارع القدس. تعليقاً على الفيديو، قالت AnyVision إنّه لا يعكس “علاقة مستمرة مع العملاء”، يقصد بذلك الشّرطة الإسرائيليّة.
عندما فازت AnyVision بجائزة إسرائيل الدفاعيّة المرموقة The Israel Defense Prize، والتي تُمنَح للجهات التي “حسّنت بشكلٍ كبيرٍ من أمن الدولة”، لم يُذكر اسم الشّركة في الإعلان الإعلاميّ، لأنّ مشروع المراقبة كان سريّاً. كما وُجِّه الموظفون في الشّركة بعدم الحديث عن الجائزة علناً. مع ذلك، فقد عثرت NBC News على صورة لفريق الشّركة وهو يستلم الجائزة، وهي عبارة عن شهادة تُـثني على AnyVision “لتفوقها التكنولوجيّ ومساهمتها المباشرة في منع هجمات إرهابيّة”.
في بيانها للإعلام قالت الشّركة: “العديد من الدول والمنظمات تواجه مجموعة متنوعة من التهديدات، سواء تلك المتعلقة بالحفاظ على الطلاب والمعلمين آمنين في مدارسهم، أو تسهيل حركة الأفراد في الدخول والخروج من المباني العامّة، وأوضاع أخرى قد يواجه فيها الأبرياءُ أيّ خطر. إنّ مهمتنا الأساسية هي المساعدة في إبقاء جميع الناس آمنين، من خلال تقديم أفضل تكنولوجيا من نوعها، وذلك في أي مكان ينشأ فيه هذا التهديد”.
من ناحيته، رفض الجيش الإسرائيليّ التعليق على Google Ayosh، أو على استلام AnyVision جائزة الدفاع الإٍسرائيليّ.
ارتباطات AnyVision العسكرية
تمتلك شركة AnyVision، التي أطلقت عام 2015 ما تدعي أنّها “الخوارزميّة الرائدة عالميّاً للتعرّف على الوجوه”، علاقاتٍ وثيقةً مع الجيش الإسرائيليّ والمخابرات. ضمن هيئتها الاستشاريّة، تضع الشّركة اسم رئيس جهاز الـ”موساد” الساّبق تامير باردو Tamir Pardo. أما رئيس الشركة فهو أمير كاين Amir Kain، والذي كان مدير دائرة الأمن في وزارة الدفاع الإسرائيليّة من عام 2007 حتى عام 2015. كما أنّ العديد من الموظفين الحاليين قد أدوا مهمةَ خدمتهم العسكريّة الوطنيّة في وحدة تجسس نخبويّة، هي وحدة 8200 في الجيش الإسرائيليّ، وهي وحدة تضاهي وكالة الأمن القوميّ في أميركا – NSA، أو مراكز الاتصالات الحكوميّة البريطانيّة – GCHQ.
صُمِّم المنتجُ الأساسيّ للشركة بهدف التقاط وجوه عدة أشخاص مشتبه بهم من بين حشد ضخم. يقوم المنتج بمراقبة كثافة الحشد وتعقب وتصنيف الأنواع المختلفة من المركبات، وفقاً للمواد الترويجية. تصف الشّركة هذا النظام بأنّه “غير طوعي”، لإنّه لا حاجة للأفراد أن يكونوا مُسَجلين مسبقاً كي يتم تحديدهم تلقائياً. تدعي الشركة أنّها نشرت هذه التقنية على أكثر من 115,000 كاميرا.
يُذكر أنّ الشّركة أقرّت علناً بواحد من مشاريعها في الضّفة الغربيّة، وهو مشروع توفير تقنية التعرّف على الوجوه ونصبها في 27 حاجزاً يضطر الفلسطينيون المرور عبرها إلى داخل “إسرائيل”. يضع العمال الفلسطينيون بطاقات الهويّة الخاصّة بهم فوق جهاز مستشعر (sensor)، ويُحدقون بالكاميرا أمامهم والتي تستخدم تقنية التعرّف على الوجوه للتأكد من هوياتهم. كما صرحت الشّركة في تدوينة لها نشرت في أغسطس/ آب الماضي، بأنّ هذه التقنيّة “تُقلّل بشكل جذريّ أوقات الانتظار على المعابر الحدوديّة”، وتوّفر”حماية غير متحيّزة على الحدود بهدف تحديد وردع الأشخاص الذين ارتكبوا أعمالاً غير قانونيّة”. مع العلم أن هذا النظام لا يُستخدم في حواجز الضّفة الغربيّة المنفصلة، أي تلك التي يمرّ منها فقط الإسرائيليون.
في عام 2007، وبالاعتماد على حوارات مع شخصياتٍ إسرائيليّة رسميّة سابقة، قدّرت الباحثة في جامعة هارفارد ياعيل بيردا Yael Berda أنّ الحكومة الإسرائيليّة تمتلك قائمة فيها ما يقارب 200 ألف “إرهابيّ مُحتّمل” في الضّفة الغربيّة تُريد مراقبتهم، وهو ما يعني خمس عدد الذكور في الضّفة الغربيّة في ذلك الوقت. إضافةً إلى ذلك، هناك قائمة أخرى تحمل 65 ألف اسمٍ اعتبروا ممن يشكّلون خطراً جنائياً. تتضمن القائمتان أشخاصاً مشكوك بارتكابهم جنحاً معينة، وكذلك أشخاصاً يُعتبرون ممن يجدر فحصهم بشكل دقيق لأسباب أخرى، مثل انتقاد “إسرائيل” على فيسبوك مثلاً، أو لمجرد أنّهم يعيشون في قريةً تحظى فيها “حماس” بشعبية كبيرة.
تصرح الباحثة بريدا، والتي كتبت كتاباً عن بيروقراطية الاحتلال الإسرائيليّ: “لا يقتصر هذا النظام على تتبع الأشخاص المشكوك بقيامهم بتنفيذ عمل عسكريّ أو قيامهم بالتدرب على ذلك، أو أي شيء من هذا القبيل”. بينما رفض الجيش الإسرائيليّ التعليق حول عدد الأشخاص الذين يقوم بمراقبتهم حالياً في الضّفة الغربيّة.
“لم توجد قط أي تقنية مراقبة لم تقم بالتأثير بشكلٍ سلبيّ على المجتمعات المُهمّشة، وما زال غير واضح حتى الآن إذا كانت هناك أي فرصة لوجود نظام مراقبة للوجوه غير متحيّز ويمكنه أن يتوافق مع الديموقراطية”، يقول ناريان من اتحاد الحريات المدنيّة الأميركيّة.
يُذكر أنّ لدى AnyVision منتجٌ آخر يسمّى SesaMe، والذي يوّفر خدمة إثبات الشّخصية للحسابات المصرفيّة وتطبيقات الهواتف الذكية.
عدا عن عملها مع الحكومة الإسرائيليّة، باعت شركة AnyVision تقنية التعرّف على الوجوه للكازينوهات، وملاعب الرياضة، والتجار ومدن الملاهي في أنحاء الولايات المتحدة. كما عرضت الشركة تلك التقنية، ولكنها قالت إنّها لم تبعها، أمام هيئة حماية الحدود والجمارك في ولاية أريزونا كمركّب لشاحنة مراقبة، كما تواصلت الشركة مع مدارس ثانويّة بعد عدة حوادث إطلاق نار وقعت فيها، من ضمنها الحادث في مدينة سانتا في، في ولاية تكساس، وذلك لعرض تقنية التعرف على الوجوه بهدف الحفاظ على الأطفال آمنين.
كذلك فُحِصت التقنية التي تُقدّمها الشّركة في روسيا، وتحديداً في مطار دوموديدوفو Moscow’s Domodedovo، وذلك عام 2018. لكن AnyVision قالت إنّها ألغت كافة الأنشطة هناك. إضافةً إلى ذلك، صرّحت Cyber Dome، وهي شركة أمن نيجيريّة، لقناة NBC News بأنّها باعت تقنية AnyVision لشركات محليّة، لكن AnyVision أنكرت ذلك.
يُذكر أن المدراء التنفيذيين لشركة Anyvision اعتبروا الضّفة الغربيّة موقع فحصٍ واختبار [مختبر] لتقنيات المراقبة التي تملكها، وهذا ما صرّح به أحد موظفيها السابقين. يقول ذات الموظف: “لقد تم إيصال الفكرة لنا بكثافة [من قبل إدارة AnyVision] بأن الحكومة الإسرائيليّة كانت الإثبات على مضمون كل شيء نقوم به على مستوى العالم. لقد فُحِصَت هذه التقنية ميدانيّاً في واحدة من أكثر مناطق العالم تطلّباً لأنظمة المراقبة، ونحن الآن نقوم بنقلها إلى مناطق أخرى في السوق العالميّ”.
عن ذلك يقول إيتشتاين: “كانت إسرائيل أول منطقة نُثـبِـتُ فيها فاعلية التقنيّة التي طوّرناها. لكن اليوم تأتي 95% من عوائدنا الماليّة من عملاء خارج إسرائيل”.
أثار هذا الأمر قلق مجموعات حقوق الإنسان ومجموعات الحريات المدنيّة، إذ رأوا أنه يجري استخدام الفلسطينيّين كما لو أنّهم فئران تجارب لصادرات تقنيات المراقبة.
وصف ناريان هذا التصرف بأنّه “مثير للقلق ولكنه بعيد جداً عن كونه جديداً”، وأضاف: “أحد الأسرار الصغيرة القذرة في موضوع الذكاء الإصطناعيّ وتقنية التعرّف على الوجوه بأنّه إذا رغبت أن تجعلها أكثر دقةً فإنّ هذه الرغبة تتطلب جوعاً نهماً للبيانات. هناك العديد من الجهات التي توّرطت فيما قد أسميه تصرفات غير أخلاقية من أجل جمع المزيد من هذه المعلومات”.
في مقابل ذلك، يقول نديم الناشف، المدير التنفيذي والمؤسس المشارك لمؤسسة “حملة”، التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين، إنّ “تعزيز وظيفة الحواجز عن طريق استعمال تقنية التعرف على الوجوه يعني استدامة أطول للاحتلال”. ويضيف: “الفلسطينيون يريدون كافة حقوقهم مثلهم مثل أي إنسان آخر بدون أن يكونوا مُحددين في حرية الحركة”. يُضيف الناشف القول إنّه من المحزن أنّ شركات أميركية ضخمة مثل مايكروسوفت تتحدث علناً عن امتثالها لمبادىء حقوق الإنسان، لكن يبقى ذلك على “مستوى التصريحات” فقط، وتستثمر بعد ذلك في شركات مثل AnyVision “بدون التحقق من عملياتها أو تحديدها”.
ترجمة: أحمد جمال موقع متراس