ياسر عرفات : أنت فينا حي لا يموت . مهما طوى الزمان من السنين ، فإن لفائف الذكريات لا تبلى ولا تتهتك ، بل تظل محتفظة لك بأحلى الذكريات ، ومتجددة بأجمل الابتسامات . فسلام عليك في الذكرى الـ 15 لرحيلك .
أبا عمار! يا عظيماً عيشتُه ، ويا شامخاً ميتتُه ، ويا زعيماً ودعناه ، فأودعناه قلوبنا ، وأسكناه وجداننا الوطني الحر. ويا قائداً عظيماً تقزَّمت أمامه كل القيادات ، ففي غيابه لبس كثير ممن لا يستحق، ثوب القائد. ولكنهم لم يحملوا بندقية القائد ولا فكر القائد ولا رحمة القائد ولا وطنية القائد.
أما مقعد الزعامة فهو شاغر، لا يجرؤ أحد من " القديسين! " أن يقترب منه ، فليس كل مَن نعتَه المنتفعون بالقائد أن يتوهم أنه أصبح فعلا قائداً فيتجرأ ويجلس على كرسي القيادة ، مهما هتف له البائسون في الأرض الفلسطينية ، فما كان هتافهم وتسحيجهم له إلا حفاظا على راتبهم الشهري ولقمة عيش أولادهم . فهل من متطلبات القيادة هو التحكُّم في أرزاق الشعب ، والعمل على قطع الصلة بين فئات الشعب الواحد؟. إني أعلم وغيري يعلم ، أنه بمجرد خلو كرسي رئاسة السلطة الحالية سيتناحر " القديسون! "، وسيتحاربون ويتقاتلون ، ويتحالف بعضهم ضد بعض، وتأخذ التصفيات الجسدية طريقها إلى المقاطعة، وتسيل الدماء من أجل المناصب . ونسي " القديسون ! " أن رئاسة السلطة تكليف وليس تشريفاً ، لأنهم نسوا تعاليم ياسر عرفات ، وبهرت السلطة والسطوة والفخامة كلَّ مَن جاء من " القديسين! " بعد ياسر عرفات، كما بهرهم الجاه والثراء والتسلط على رقاب الناس ، فعميت عيونهم وانغلقت أفئدتهم ، واندفعوا في غيهم وضلالهم ونهمهم يعمهون، لا يبالون لوم اللائمين ، ونصح الناصحين . فهل هؤلاء قديسون أم هم لاعبون في ملاعب الكذب والخداع والتحايل؟ .
كان أبوعمار رحمه الله شيخاً زاهداً عفيف النفس واليد واللسان ، عاش على الكفاف وهو المهندس يوم أن كان المهندسون بعدد أصابع اليدين . عاش بسيطا في لبسه وأكله ، وشربه ، فما كانت ثيابه إلا الكاكي الذي ينام فيه ويصبح به، بل ويقابل زعامات العالم وقياداته بنفس الكاكي والكوفية والعقال ، والبسطار العسكري . لم تُغرِهِ البدلات والقمصان الإجليزية الفاخرة ولا العطور الباريسية الفاخرة ولا الكرفتات الفاخرة ولا الأحذية الفاخرة ، ولا السيارات الفخمة ولا الطائرات الضخمة ، ولم تُصرف له البدَلات السخية ، ولم يبنِ له قصوراً وفنادق في عواصم بعض البلدان ، بل كان نومه مع الثوار الفدائيين يحتضن بندقيته ويتوسد كوفيته وينام على الرمل والحصى الغليظ ، زينته في حياته وطنيته وكوفيته ومسدسه الذي يتدلى على جنبه. لم يتفنن بنشر أطباق الموائد بما لذ وطاب ، بل كان أكله مع المرافقين له متواضعاً كأكل أي إنسان بسيط ، وهو القادر على تحقيق وامتلاك كل ما سبق وأكثر، ولكنه كان يستحي من الله ويستحي من شعبه أن يكون في عيشة رغدة وشعبه ما زال فقيراً محروماً من ملذات الحياة . هذا هو الثائر الذي يميزه من السلاطين القائمين على رأس السلطة وإدارة أعمالها ، الذين يسميهم أحدهم بالقديسين. وكأني بهم لم يسمعوا قول الجنرال " جياب " القائد الفيتنامي المنتصر على قوى الشر الأمريكية: " الثورة والثروة لا يلتقيان " . نعم ، فالثورة كانت في عهد عرفات فقط ، لا يتكسَّب بها ولا يجمع الملايين من الدولارات من ورائها . أما الثروة فقط فهي في يد " القديسين! " الذين اعتقلوا سلطة الشعب وأمواله وانتصاراته ومنجزاته الوطنية، وأودعوها في خزائنهم ، وأحكموا عليها مغاليقهم . وهاهم يشربون أنخابهم على حساب الشهداء والأسرى والجرحى والمحرومين من الشباب الضائع في مهب الريح .
ولكن أحب أن أقول للجنرال!!! القديس ، صاحب الملاعب الخضراء ، الذي يريد أن (يُكوِّش) على مقاليد السلطة ويقتسمها مع مَن يسميهم " قديسين! " ، أقول له : لقد اختفى القديسون والأحبار والصدِّيقون برحيل أبي عمار، رحمه الله . أما مَن جاء بعده فهم العشرون المبشرون بنار جهنم ، الذين جعلوا القضية الفلسطينية " شركة مساهمة محدودة " لهم ولأقربائهم وأنسبائهم . فهؤلاء ليسوا " قديسين " ، وإنما هم كما أسميتهم من قبل : " الكهنة " . نعم ، هم كهنة السلطة الفلسطينية المهيمنين على كل شيء فيها . ومن الواجب أن يؤثروا المصلحة الوطنية العامة ، ويتخلوا عن مطامعهم العتيقة حتى تنجح حركة فتح التي قزَّموها، وباعدوا بينها وبين أحلام الشعب الذي يحب حركة فتح ، وينتمي إليها ويؤيدها ويناصرها . ففتح تستحق منا الحب والتأييد والمناصرة فهي رائدة الكفاح المسلح الذي نسيه القديسون ، وهي صاحبة الطلقة الأولى التي نسيها القديسون ، وهي ثورة فلسطين الحديثة بزعامة وقيادة أبي عمار ، الذي نسيه القديسون ، بل تنكَّروا له ولمبادئه ودفنوا بندقيته وإرثه النضالي ، وطمروا ميراثه الوطني ، وأخذوا يتسابقون على هبش مال الصدقات ، ونهب الثروات ، والتكويش على كل المُقدَّرات . فمن أين لنا عرفات جديد ؟. من أين لنا زعيم وقائد وطني فيه مواصفات أبي عمار: يرعى الثورة والثوار، ويعيد العاصفة إلى الميدان، ويَسُوس الشعب بالمحبة والوفاء وصدق الوعود وتصديق الأقوال بالأعمال ؟.
نعم ، إذا أفسح الكهنة الطريق لشباب فتح ، أحفاد أبي عمار ، فإن فيهم ومن بينهم ألف أبي عمار. ففلسطين التي ولدت أبا عمار قادرة على ولادة توائمه الوطنيين ، المنتمين لفلسطينيتهم بالآلاف ، الذين مازال ولاؤهم كله لفلسطين ولشعب فلسطين أينما كان تواجده . لا يشاركهم في هذا الانتماء أي معتدٍ أثيم . فليعلم الفتحاويون - الذين أتمنى لهم التغيير مع الإصلاح - أنهم لن ينجحوا في أية انتخابات فلسطينية مادام الكهنة باقين على صدر الوطن ، مغتصبين حق الترشح من الشباب الفتحاوي ومن الوطنيين الفتحاويين ، فعليهم أن يُصلحوا ما أفسده (القديسون!) بصناعة ربيع فتحاوي حقيقي لفرز الشباب الوطني الثائر ، واستبعاد الكهنة والمتسلقين وأولئك الذين يدَّعون أنهم من الأوائل ومن الأوصياء على العرش الفتحاوي . فإن لم تفعلوا - ولا أراكم تستطيعون أن تفعلوا الآن - فلا تدخلوا الانتخابات لأنكم ستخسرونها ، وأرجوكم وأتوسل إليكم أيها الفتحاويون أن تتعظوا وتأخذوا الدروس والعبر من انتخابات 2006 . فلا تواجهوا منافسيكم بأشخاص جربناهم ومللناهم وكرهناهم . نريد وجوها شابة جديدة حتى يُقبل عليها الشعب بالتأييد والمناصرة . وليرفع القديسون والكهنة والأوصياء والمستوزِرون أياديهم عنهم ، فهم يعرفون طريقهم ، وبوصلتهم قضيتهم الوطنية الفلسطينية واضحة المعالم . أخيراً أبا عمار لك المجد والخلود، ولروحك السلام الموعود ، ولذكراك كل الحب والتقدير والاحترام .*.
للكاتب الصحفي/عبدالحليم أبوحجاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت