ما يَجْمَعُ حركتي حماس والجهاد الإسلامي كثير جدًا، إذ تشتركان في الخلفية الإسلامية، والرؤية السياسية، والإيمان بمركزية المقاومة لتحقيق الأهداف، والتحالف الإقليمي. وهما جزء من الشعب الفلسطيني الذي يواجه استعمارًا استيطانيًا يستهدف الفلسطينيين جميعًا، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.
وما يفرق بينهما لا يمكن التقليل من شأنه مع أنه أقل مما يجمع بينهما، فحماس ذات الخلفية الإخوانية التي تتحالف مع قطر وتركيا خلافًا للجهاد، تتحالف في الوقت نفسه مع إيران وحزب الله، وتسعى لإعادة علاقاتها مع سوريا، كما أنها اختارت المشاركة في السلطة عبر بوابة الانتخابات، ثم عن طريق الحسم العسكري/الانقلاب، الذي جعلها سلطة ومقاومة في نفس الوقت، بينما لم يشارك "الجهاد" ذو الخلفية الإخوانية أيضًا في السلطة، وهذه نقطة خلاف كبيرة. كما يُغلّب الجهاد البعد الوطني أكثر مما تفعل "حماس" التي كانت حتى فترة قريبة فرعًا للإخوان المسلمين.
إن هذا التباين في الموقف من السلطة قاد إلى سلسلة تباينات تتركز في تزايد قبول "حماس" بالتهدئة، واستعدادها لمعادلة "هدوء مقابل هدوء" مع تخفيف الحصار، على أمل أن تصل إلى هدنة طويلة الأمد إلى حين معركة التحرير مقابل اعتراف بسلطتها ورفع الحصار، بينما حركة الجهاد متحررة من قيود السلطة ومسؤولياتها وامتيازاتها ومكاسبها، وترى ضرورة الاستمرار في مشاغلة العدو إلى حين المنازلة الكبرى، والامتناع عن هدنة دائمة، خصوصًا في ظل استمرار الحصار والجرائم الإسرائيلية، وخاصة تلك التي ضد مسيرات العودة.
كانت الحركتان قادرتين حتى الآن على احتواء الخلاف بينهما من خلال تكاملهما في الرد على العدوان الإسرائيلي، فكانت الجهاد تستفيد من كونها خارج السلطة رغم حرص إسرائيل على مهاجمة مواقع "حماس"، حتى إذا كان مطلق الصواريخ عليها سرايا القدس أو أحد الأجنحة العسكرية الأخرى، لأنها تحمّل "حماس" المسؤولية عن كل ما يجري في القطاع كونها المتحكمة بالسلطة هناك.
لقد اتُّخذ قرار اغتيال بهاء أبو العطا منذ فترة، واختارت حكومة بنيامين نتنياهو التوقيت الملائم، وحضّرت المشهد بشكل مسبق، بحيث أي متابع للتصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين وما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية يلاحظ أن هناك سيناريو اغتيال يحاك اسمه أبو العطاء، فهو المسؤول عن "خرق التهدئة" و"الملتزم بالأجندة الإيرانية". وعملًا بسياسة "فرّق تسد" المعتمدة عند كل استعمار، حبكت إسرائيل الحكاية بعدم تحميل "حماس" مسؤولية الرد الذي قامت به حركة الجهاد، خلافًا لما فعلت بالسابق، رغم أن الرد وصل إلى إطلاق مئات الصواريخ والقذائف التي أدت إلى تعطيل حياة مليوني إسرائيلي .
رغم ما حدث من انفراد الجهاد وتفرد إسرائيل به، وهو مؤلم، فإن التهويل بالشرخ بين حركتي حماس والجهاد مبالغة مخلة بما هو موجود في الواقع، وفخ من الخطر الوقوع به كونه يمس بالعلاقات الوطنية، كما أن التهوين من الشرخ وكأنه غير موجود والزعم بأن رد الجهاد وحدها تقريبًا كان بالاتفاق والتنسيق عبر الغرفة المشتركة؛ لا يعكس الحقيقة، ولا يساعد على معالجته ومنع اتساعه. فالمطلوب الاعتراف بالشرخ وما أدى إليه، ودراسة أسبابه، والعمل على تجاوزها قبل أن يقع الفأس بالرأس، والانزلاق نحو الاقتتال.
إن معضلة وتعقيدات الجمع ما بين السلطة والمقاومة المسلحة في الواقع الملموس في فلسطين بشكل عام، وقطاع غزة بشكل خاص، وفي ظل الانقسام السياسي والجغرافيا والمؤسسي؛ تستدعي التفكير بها. فمن حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال، وامتلاك قدرات عسكرية، ومن حقهم استخدامها في الدفاع عن النفس في حالة العدوان وإعادة الاحتلال، بالاستناد إلى الوضع الخاص للقطاع بعد إعادة انتشار القوات المحتلة فيه، الذي جعله شبه محرر، ولكن تصوّر إمكانية استخدامها كأسلحة هجومية والتوصل إلى توازن الردع، في ظل الوضع الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي؛ يشكل قفزة في الهواء، وتجاوزًا لشروط موازين القوى التي لا تزال مختلة بشكل جوهري لصالح قوات الاحتلال.
لا شك أن "حماس" هي القوة الأكبر في القطاع، ولكن هذا لا يعطيها حق التفرد والتعالي والهيمنة، بحيث تكون الفصائل الأخرى ملحقة بها، ما يتطلب إقامة غرفة عمليات مشتركة حقيقية مستندة إلى توافق سياسي وطني على أساس الشراكة والقواسم المشترك إلى حين تعميم ذلك في الانخراط في منظمة التحرير بعد إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني.
كما على حركة الجهاد أن تحدد موقفها من النظام السياسي الفلسطيني، خصوصًا السلطة، وهل ستنخرط فيها أم لا، لأن موقفها ضبابي، لا سيما أنّ عدم انخراطها لا يعطيها الحق في التصرف المنفرد، سواء في الرد على العدوان، أو المبادرة إلى الهجوم على قوات الاحتلال من دون اتفاق وتنسيق مشترك، لأن عواقب ذلك لن يقتصر عليها، بل يشمل الجميع.
يُسجّل للجهاد أنه خاض معركة وحده، وغطت صواريخه مساحات شاسعة، وأنه لم يستخدم كل ما يملكه من قوة، كونه لا يريد دفع الأمور إلى مواجهة شاملة، ولكن يسجل عليه أنه لم يجهز نفسه لتفادي اغتيال معلن، ولم يستعد مسبقًا للرد المناسب يجبي الثمن من الاحتلال من دون دفع هذا الثمن الباهظ.
كما كان بمقدور "حماس" أن تشارك في الرد على الاغتيال والعدوان الذي تعرض له القطاع جنبًا إلى جنب مع الجهاد، ولكن ضمن التزام صارم برد محسوب جماعي، في رسالة مشتركة تقطع الطريق على سياسة "فرق تسد"، وتدل على عدم التهاون مع عودة إسرائيل لسياسة الاغتيالات، وإلا ستستخدمها مرارًا وتكرارًا بدون رادع، وضد الجميع، وأولهم "حماس".
أما من يقول إن ما حصل يدل على أن ما يجري في الكواليس بين "حماس" واسرائيل عبر الوسطاء أكبر ما هو ظاهر على السطح، وأن تقدمًا قد حصل على طريق تحقيق الهدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار، وكذلك بالنسبة إلى صفقة جديدة لتبادل الأسرى، وذلك ضمن رؤية أن نتنياهو يستثمر في الانقسام الفلسطيني ويريد بقاء "حماس" في حكم غزة ... فعليه أن يعيد التفكير في الوضع مليًا، لأن حكومة نتنياهو تتنصل من تطبيق التفاهمات، وتفضّل – حتى الآن – استمرار معادلة "هدوء مقابل هدوء" مع تخفيف الحصار وليس رفعه.
ويضاف إلى ذلك أن هناك على ما يبدو خطة ترسم، ويقترب موعد تنفيذها، تهدف إلى التوصل إلى هدنة طويلة الأمد بعد عدوان واسع يضعف المقاومة في غزة بشكل كبير، ويبقي على "حماس" ضعيفة، ولكن قادرة على ضبط الوضع، وربما دفعها إلى الانضواء تحت مظلة السلطة من دون إنهاء الانقسام.
كما أن "حماس" مثل غيرها تدرك أن مصير نتنياهو على كف عفريت في ظل عدم فوزه في الانتخابات الأخيرة، وسعيه لانتخابات ثالثة غير مضمونة النتائج، أو حكومة وحدة ضمن شروطه مع اقتراب خطر توجيه الاتهامات له .
لو كانت "حماس" تمسك في يدها اتفاقًا، أو تراهن بثقة على الإمساك به لما وافقت على شروط الرئيس محمود عباس لعقد الانتخابات، التي أظهرتها بمظهر الضعيف. صحيح أنها قد تكون فعلت ذلك مراهنة على عدم إجرائها نتيجة عدم جهوزية حركة فتح، وعلى أنها إذا جرت لن تُخرج "حماس" من السلطة عبر صناديق الاقتراع، بل ستحصل في أدنى التقديرات على نسبة كافية هي وحلفاؤها ستمنح الانقسام الشرعية إذا لم يسبق أو يتزامن إنهاء الانقسام مع إجراء الانتخابات.
تريد "حماس" تجنب أو تأجيل مواجهة شاملة في وقت غير مناسب لها، أو انفجار شعبي ضدها، أو كليهما، من خلال المشاركة في الانتخابات، وإلقاء المسؤولية عن القطاع على الحكومة التي ستُشكل بعد الانتخابات، مع الاحتفاظ بكل مصادر قوتها.
يكمن المخرج لما سبق في بلورة رؤية شاملة جديدة، وإستراتيجية موحدة، وقيادة واحدة، يتم الاتفاق حولها على مختلف القضايا بين مختلف الأطراف الفلسطينية، بما فيها توحيد الأجنحة العسكرية للمقاومة في جيش واحد يخضع للقيادة الواحدة.
لا يوجد ما يكفي إلى قرب اعتماد هذه المقاربة، وإنما نشهد ارتجالية وتجريبية وانتظارية ورهانات خاسرة وتغليبًا لمصالح الفرد والفصيل على المصلحة الوطنية من مختلف الأطراف، ما يجعل الخلاص في أيدي الشعب والنخب المطالبة بالتحرك العاجل لفرض إرادة الشعب ومصلحته على الجميع.
هاني المصري
مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت