شكل لبنان ساحة هامة للنشاط والانتاج الثقافي والادبي الفلسطيني، حيث كانت بيروت على مدى سنوات طوال مركزاً هاماً للثقافة والإبداع الفلسطيني، وبرزت فيها أسماء عديدة من الكتاب والمفكرين والمثقفين الفلسطينيين الذين لعبوا دوراً هاماً وكبيراً في بناء المشروع الثقافي الفلسطيني الذي تلازم مع المشروع الوطني الفلسطيني التحرري.
إبداع رغم آلام العيش في المنفى
وعلى الرغم من آلام العيش في المنفى، تمكن الشعب الفلسطيني في لبنان من النجاح والتقدم في ميادين العلم والثقافة والإبداع، والتغلب على شروط النفي القسري، وبادر إلى الخروج من قيودها، وأبدع في شتى المجالات الثقافية والأدبية، الفنية..، لأنه كان يدرك أن الثقافة والإبداع هي جزء من معركته ومسيرته النضالية من أجل العودة واسترجاع فلسطين، وطريق ذلك لا يقتصر فقط على المقاومة المسلحة والجماهيرية، وإنما أيضاً بالفكر والكلمة، وبحفظ التراث وباستثمار كل ساحات الثقافة والإبداع الخلاقة، وتسخيرها بما يخدم قضيته ويحافظ على هويته الوطنية ويصونها من مؤامرات الطمس والتزوير.
في هذا الميدان لمع من بين صفوف شعبنا الفلسطيني في لبنان الكثير من الأسماء التي وصلت إلى أعلى المراكز في حقل الإبداع الأدبي والثقافي ... وسطعت نجومها في سماء وعالم الإبداع. وحققت إنجازات عديدة، أسهمت بشكل كبير في صيانة الهوية الوطنية الفلسطينية وحفظ ذاكرة الشعب الفلسطيني ومواجهة كل محاولات تزوير وتشويه الحقائق والتاريخ، وتمكنوا من وضع فلسطين في المكانة المرموقة التي تستحقها على الخارطة السياسية والثقافية العربية والعالمية، إلى جانب دورهم في نقل صورة المعاناة الفلسطينية الناجمة عن الاحتلال الاسرائيلي وإبراز عدالة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في النضال والمقاومة من اجل استعادة حقوقه الوطنية المشروعة.
إنتكاسة المشروع الثقافي الفلسطيني
بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982 أصيب المشروع الثقافي الفلسطيني بانتكاسة، وبدأت مرحلة جديدة في المشروع الوطني الفلسطيني، حيث أقفلت العديد من مراكز الابحاث والدراسات وتوقف العديد من الدوريات والصحف الفلسطينية، وتعطل دور الاتحاد العام للكتاب والادباء والصحفيين الفلسطينيين الذي عاش حالة من الشلل والانقسامات التي جاءت انعكاساً للانقسام السياسي الذي شهدته الحالة الفلسطينية في تلك المرحلة، والتي تركت آثاراً سلبية كبرى على وحدة الاتحاد وعمل هيئاته وفروعه التي تعطلت وعاشت حالة من التمزق والاغتراب، انعكست سلباً على المشروع الثقافي والادبي الفلسطيني الذي أصيب بخلل بنيوي، مما أدى إلى تراجع الانتاج الثقافي والأدبي والفكري بشكل كبير باستثناء بعض الأعمال القليلة التي تظهر بين الحين والآخر، ولكنها سرعان ما تنحسر وتتراجع نتيجة غياب الرعاية والاهتمام وعدم وجود عوامل مساندة ومحفزة لتنامي وتطوير هذه الأعمال الإبداعية.
وهنا لا بد من القول إنها لمفارقة كبيرة أن المجتمع الفلسطيني الذي طالما استطاع أن يتخطى أزماته وتداعيات اللجوء وآلام النكبة، وأن يتقدم بإبداعاته الفكرية والأدبية والثقافية ..، وأن يساهم بشكل كبير في الازدهار الثقافي في الدول العربية، تحول اليوم إلى مجتمع ضامر الإنتاج على الصعيد الأدبي والثقافي والإبداعي وبشكل خاص على صعيد الجيل الجديد وفئة الشباب التي تعيش اليوم نوعاً من «البطالة الابداعية»، وتعاني من غياب بنية حاضنة ومحفزة على التنافس الإبداعي.
هذه المعضلة تعيدنا إلى القضية الجوهرية والرئيسية، وهي غياب الاطار المعني بالنهوض بالواقع الثقافي والأدبي، ونقصد هنا الاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين الذي ما زال غائباً عن ساحة العمل الثقافي والادبي الفلسطيني في لبنان.
مبادرات لتشكيل لجنة تحضيرية
ونتيجة المناشدات المتواصلة من عشرات الكتاب والأدباء الفلسطينيين في لبنان والمراسلات المتواصلة للأمانة العامة للاتحاد في رام الله، قامت الامانة العامة قبل عامين بمبادرة لتوحيد الاتحاد، وعقدت لهذه الغاية اجتماعات تشاورية في سفارة دولة فلسطين في بيروت 30-1-2017، بحضور الأمين العام للاتحاد مراد السوداني وعدد من أعضاء الأمانة العامة ومشاركة كتاب وادباء من رام الله، الاردن وسوريا ولبنان، خرج منها المجتمعون بتوافق على تشكيل "لجنة تحضيرية" لإعادة تأسيس فرع الاتحاد في لبنان، وتم الاتفاق فيها على فصل الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين- فرع لبنان، عن الاتحّاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين والتفاعل من الاتحادين مع الأمانات العامة في الداخل.
وحُدّدت مهمة اللّجنة التحضيرية الجديدة للاتحاد، بالعمل خلال أشهر، على استكمال تثبيت وحصر العضوية والاعداد لعقد المؤتمر العام للفرعوانتخاب هيئة ادارية جديدة.
وبالفعل انطلقت اللجنة التحضيرية باندفاع بعملها وجولاتها على المناطق والمخيمات، وعقدت سلسلة من اللقاءات وورش العمل مع عدد واسع من الكتاب والأدباء الفلسطينيين في لبنان، استمعت خلالها إلى رؤيتهم المستقبلية لعمل الاتحاد واقتراحاتهم العملية لكيفية النجاح في انجاز مؤتمر الفرع، إلى جانب اقتراحاتهم التعديلية على دستور الاتحاد ونظامه الداخلي.
وتمكنت اللجنة التحضيرية من تنسيب عدد لا بأس به من الكتاب والأدباء الفلسطينيين في لبنان، ورفعت تقاريرها واقتراحاتها للأمانة العامة، وانتظرت الرد على مقترحاتها لتبدأ بشكل رسمي بإنجاز التحضيرات المطلوبة ووضع الآليات العملية والتنظيمية لإنجاز مؤتمر فرع الاتحاد في لبنان.
للإسراع في انجاز المؤتمر
أكثر من عام مر على هذه الخطوة، واللجنة التحضيرية ما زالت تنتظر الرد والتفاعل الايجابي من دائرة العمل والتنظيم الشعبي في المنظمة ومن الامانة العامة التي أعيد تشكيلها مؤخراً، حيث لا يوجد أي سبب يعيق انجاز هذا الاستحقاق الديمقراطي،الأمر الذي يتطلب من الامانة العامة التي بحثت ملف فرع لبنان في اجتماعها الاخير أن تتحمل مسؤوليتها وتتقدم بخطوات عملية بالقدوم إلى لبنان والتفاعل مع الجهات المعنية والكتاب والادباء، ووضع سقف زمني وخطة عمل من اجلاخراجفرع الاتحاد في لبنان من غيبوبته واستعادة دوره ومكانته التي يستحق.وذلك من خلال ترسيخ الحياة الديمقراطية والالتزام بعقد مؤتمره واجراء الانتخابات وفقا لنظام التمثيل النسبي الكامل، والابتعاد عن سياسة التعطيل والمماطلة التي يمارسها البعض المتردد في فتح هذا الملف لافتقاده الحيثيةالتي تمكنه من الامساك بهذا الاتحاد، وبالتالي يعتبر السير بهذه العملية الديمقراطية مغامرة غير مضمونة النتائج.
لقد باتت اعادة تفعيل وبناء الاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين في لبنان قضية وطنية ذات أهمية كبرى، خاصة وأن شعبنا الفلسطيني في لبنان يمتلك الكثير من الكفاءات والطاقات الثقافية والأدبية والفكرية التي تحتاج للتأطير والاهتمام والرعاية لتمكينها من أخذ دورها في هذه المرحلة الحرجة،من اجل بلورة رؤية ثقافية وطنية تسهم في حماية وصون الهوية الوطنية الفلسطينية، إلى جانب ما يمكن أن تلعبه هذه المؤسسة الوطنية من دور في تسليط الضوء على الكثير من القضايا والمشكلات والتحديات التي يعيشها شعبنا الفلسطيني في لبنان، يضاف اليها مهمة الارتقاء بالوعي الوطني وتحصين الاجيال بثقافة وطنية تقدمية مستندة إلى تاريخ ونضال حركتنا الوطنية وتاريخها وتضحياتها، وبما يوفر للأجيال الجديدة المساحة المطلوبة للتعبير عن ذاتها وخلق البيئة المناسبة للإبداع الثقافي والأدبي .
ختاماً نقول، إن انجاز المشروع الوطني التحرري الفلسطيني لا يمكن أن يستقيم ويأخذ مجراه الصحيح دون وجود حالة تكاملية مع المشروع الثقافي الفلسطيني بمضمونه الحضاري والوطني التحرري، والبناء على الموروث الثقافي المقاوم الهادف إلى تحقيق أماني وتطلعات شعبنا الفلسطيني في استعادة أرضه وحقوقه الوطنية المشروعة واقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
بقلم: يوسف أحمد
كاتب فلسطيني ، وعضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ـ بيروت
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت