فلسفة مبسطة: فلسفة الشبيحة وقصة تعبيرية ساخرة

بقلم: نبيل عودة

نبيل عودة

"الشبيحة" وشبح العقل والمواطن واحتقار الآخر المختلف أو الضعيف هي فلسفة عربية بامتياز ، لا تحتاج إلى عقل وتفكير بل إلى حماقة تفكير وعضلات بلا عقل، رغم ان جذورها في عالمنا تمتد إلى كل العقول العنصرية، الخاملة، الفاسدة والاستبدادية. ولا بد من ملاحظة: حتى الآن عالجت اصطلاحات أوجدتها الفلسفات الغربية، اصطلاح الشبيحة هو أول اصطلاح فلسفي عربي...مبروك يا عرب!!

*****

هذا النهار سيء من أوله، أستاذ الفلسفة دخل متجهماً على غير عادته، وضع دوسيته بضربه قوية على المنضدة وهو ينفخ أنفاسه من بين أسنانه ويبدو أن جسده دخل حقاً، لكن الطلاب لم يشعروا بوجوده الذهني الساطع الذي اعتادوا عليه، منذ بدأوا معه الفصل الدراسي الأول.

ليس صعباً الإحساس بنفسية هذا المحاضر، فهو يكاد يكون لوحة تُقرأ نصوصها بسهولة، في صميم اللوحة عقله الذي يجرهم دوماً إلى عوالم جديدة، تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للفهم، عصية عن الاستيعاب.. ولكنها شديدة الإثارة بالوقت نفسه، ربما بسبب ما تثيره من تساؤلات وتفكير.

طال صمت المحاضر قبل أن يتمالك نفسه ويقول بصوت هادئ: "تعالوا نواصل". توقع الطلاب أن يفصح قليلاً عما يعتمل في نفسه، كما عودهم دوما، لدرجة باتوا يشعرون أنه زميلهم في الدراسة وليس أستاذهم فقط. اليوم فهموا جملته التي كثيرا ما رددها: "العلاقة بيننا يجب أن تكون علاقة بين مفكرين وليس بين طلاب ومحاضر"، كان يضيف وهو يتأمل انعكاس كلماته على وجوههم:" رغم أن الكلمة الفصل هي كلمتي، مؤقتا وحتى بلوغكم الفكري الكامل، مستقبلا سأكون سعيدا حين تواجهوا رايي برأي مختلف، هذا سيشعرني بسعادة مطلقة".

عاد يكرر دون أن يبدو انه يقصد ما يقول: "نواصل"، ثم صمت قليلا.

ضم قبضته بقوة، كأنه يجمع نفسه، قال وضحكة كبيرة تكسر التوتر الذي رافقه من لحظة دخوله:

- أسمعوا هذه الحكاية.. نشرت مقالاً... قبل نشره قرأناه سوية وناقشتم أطروحاتي في المقال وعدلت بعض أفكاره بناء على نقاشكم. اليوم فاجأني أستاذ اللغة العربية، لا تذكروا أسماء من فضلكم، المضحك أن كل ما لفت انتباهه أني أخطأت في تجليس جلالة الهمزة في مكانها الصحيح، أنزل على رأسي أطناناً من الانتقادات التي لم أفهم منها إلا أنه ضليع في تجليس جلالة الهمزة بمكانها الصحيح. قلت له:" يا هذا، لغتي في كتابة النصوص أفضل من لغتك، لغتي واضحة، تُقرأ بحماس ولغتك لا تقرأ لصعوبة ألفاظها ووعورتها وبعدها عن المناخ الثقافي، فهل تظن أن جلوس الهمزة على كرسي بدل أن تظل فالتة، سيغير تاريخ الفلسفة، أو ينسف كرامة اللغة العربية وكرامة المواطن العربي".

أضفت أيضا:" حقاً أنت ضليع في نحو عمره مئات السنين وصار يحتاج إلى انتفاضة ثورية، إلى ربيع لغوي يندمج بالربيع السياسي العربي.. انتفاضة تجعل لغتنا، عقولنا، مجامعنا وأنظمتنا العربية أقرب للحياة ولواقع التطور، لكن الربيع أصبح خريفا وتفاؤلنا أصبح أنهار دماء.

أنا حقاً لست لغوياً ولا أريد أن أكون ضليعا بنحو لغتي أكثر مما أعرف، هذا لا يلزمني للتفكير ومعرفة ما يلزم نهضتنا، ما هو ضروري لتحرير عقولنا من رواسب التخلف وكيف ننجز تنويرنا الاجتماعي والثقافي. قلت له: "أعترف انك أفضل مني في التعامل مع الهمزات وأنا أفضل منك في التعامل مع الأفكار ومع الواقع، أنت أفضل مني في عبادة الماضي المتحجر وأنا أفضل منك في فهم ضرورات التنوير وتحرير العقل من الخبل، فلماذا لا نقر بيننا اتفاقا بأن لا نشهر ببعضنا، أنت الآن تشهر بي بسبب الهمزة رغم إني لم أشهر بك بسبب قصورك الفكري؟

فغضب وكأنه زعيم دولة عربية وليس مجرد خبير في تجليس الهمزة. اعتبر كلامي تجريحا ومشاركة في المؤامرة الاستعمارية، الصليبية والصهيونية على العرب ولغتهم المقدسة. قلت له:

- أنت مناسب الآن لعضوية مجلس الشعب في دمشق.

اتهمني أني بذلك أشوه عقول الطلاب بلغة غير سليمة وأزرع بذور الفتنة والطائفية، أضعف مناعتهم القومية واجعلهم فريسة للمؤامرات، ولا بد من عقابي بتهمة تشجيع التراخي القومي. كل هذه التهم بسبب همزة لم اعرف كيف أُجلسها. قلت له انه الآن أصبح انسب للتوزير في دمشق. واصلت القول إن عقول طلابي تتطور مع الهمزة أو بدونها وعقول طلابك تتلبك حول قضايا لن تفيدهم في حياتهم أو حتى في عملهم بالتعليم، ففقد أعصابه تماما وأسمعني كلمات لا تليق بزملاء في نفس المعهد، بالطبع لم أبق مديوناً، قلت له:

- يا أستاذ الضاد، عميل سيبويه، عدو الاستعمار، عميل نظام القهر الاجتماعي واللغوي، أنت تقول لي أنه مسموح لي أن أخطئ بكرامتي، بوطنيتي، بعقلي، بثقافتي، بضميري، أن أخدم حتى عدوي ومضطهدي، أن أكون شبيحا ضد أبناء شعبي، هذا لا تحتج عليه، أما أن أخطئ بتقعيد جلالة الهمزة أو بالنحو فتقيم علي الدنيا ولا تقعدها ؟!

صمت، أخذ نفسا طويلا، تأملنا لبرهة قصيرة ثم أضاف:

- هذه حالة يجب أن تنتبهوا لها وان تمنعوا تحويلكم إلى روبوتات لا تفكر؟ جهاز حافظ بلا وعي؟ نحن نعيش في عصر العقل، في عصر التطور، في عصر الإقلاع نحو الفضاء، بعض الناس غارقون في الهمزة أو النصب والرفع والشبح. إياكم أن تستبدلوا فكركم في جدال لغوي عقيم. للغة أهمية عظيمة في تيسير الفهم ونقل المعرفة، لذا عليكم إثراء عالمكم اللغوي، جعل جملكم مفهومة، سهلة وليس خطابا رئاسيا لا شيء فيه قابل للتحقيق.

بعد أن تجولت عيناه على وجوه الطلاب أضاف:

-- أعزائي أريد أن تعلموا شيئاً لا يقل أهمية عن نظريات الفلسفة وهو جعل اللغة أداة ميسرة التعبير، وطز في النصب والرفع وجلالة الهمزة وحرمة الأنظمة التي تظن نفسها دائمة أبد الدهر مثل نحو سيبويه.

أنفجر الصف ضاحكاُ، فجأة تغير شكله وسطع وجوده وقال:

- الآن نعود إلى العق

 -العقل، العقل، عاش العقل

صدر صوت قوي، لم يكن صعبا معرفة صاحبه.

-هل لديك إضافة يا زاهر؟

-حول العقل وشبيحة العقل والشبيحة الذين لا عقل لهم، الا تكسير عظام المواطنين، لي ما أضيف، نادرة تشبه قصتك مع الهمزة وشبيحها الواقف بالمرصاد للمؤامرات الاستعمارية، الصليبية والصهيونية على لغة الضاد. اعتقد أستاذ اني أمام طرح اصطلاح فلسفي جديد يجب ان يسجل باسمي!!

--أحذرك، إذا لم تكن حكايتك حسب توقعاتنا سأخصم من معدلك 10 علامات كاملة؟

-أنا أقبل التحدي، على شرط أن تضيف لي 10 علامات إذا كانت قصتي مناسبة ؟

كلنا آذان -

-التقى فاشي ويهودي في بار، القصد هنا الإشارة إلى نقيضين. كان اليهودي جالسا بعيدا عن زبائن البار، في زاوية منعزلة، يحتسي الويسكي ويقرأ كتابا ولا يلتفت لما يجري بين الزبائن في البار. عبثا حاول الفاشي أن يجر اليهودي إلى حوار، ان يخرجه من تركيزه بالقراءة واحتساء الويسكي بمتعة ظاهرة، لكن اليهودي رسم ابتسامة على شفتيه وحافظ على صمته وهدوء أعصابه رغم مواصلة الفاشي استفزازه.. كأنه شبيح جاهز للانقضاض.

كان الفاشي يزداد غضبا لأنه لم ينجح بجعل اليهودي يسقط ابتسامته ويترك كتابه، أو يتفوه بكلمة ضيق ليكيل له الصاع صاعين.

فكر الفاشي كيف يستفز اليهودي؟ لحظات مرت ووجدها.

قال الفاشي للبارمان بصوت مرتفع يسمعه جميع زبائن البار وخاصة اليهودي:

- وزع على جميع الموجودين كؤوس ويسكي على حسابي ولا تقدم كأسا لذاك الشخص.

وأشار إلى اليهودي، لكن اليهودي ظل يبتسم وغارقا في كتابه وكأسه الذي يملأه البارمان كلما فرغ وحتى بدون ان يطلب اليهودي ذلك.

بعد أن شكره جميع الزبائن على كرمه وعلى نخوته وتضييفه لهم، التفت الفاشي للبارمان مرة أخرى وقال بنفس الصوت الصاخب: وزع من جديد على حسابي كؤوس ويسكي للجميع ما عدا لذلك اليهودي الجبان الذي يبتسم بدون سبب.

وأشار إلى اليهودي، لكن اليهودي ظل يبتسم.. بل تزداد ابتسامته وضوحا وامتدادا. هذا الأمر لم يعجب الفاشي. اقترب من البارمان وهو يكبت غضبه وسأله:

- قل لي من ذاك اليهودي الذي يواصل الابتسام رغم إني أهنته ولم ادعوه لشرب الويسكي على حسابي؟

- أوه عزيزي انه صاحب هذا البار.

نبيل عودة

[email protected]

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت