أسئلة أجابت عليها الانتفاضة

بقلم: محمد السهلي

بيت امر 24-2-1988

اجتمعت عدة عوامل ذاتية وموضوعية في أسباب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، التي قلبت الطاولة في وجه محاولات طمس إنجازات النضال الوطني الفلسطيني البرنامجية والسياسية والتنظيمية، منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، منتصف ستينيات القرن الماضي.

وتحولت الأراضي الفلسطينية المحتلة بفعل هذه الانتفاضة إلى بركان متقد من الفعل الميداني الجماهيري العارم ضد الاحتلال. وأدت مع انتشارها واتساعها واستمرارها إلى وضع المجتمع الدولي بكافة مكوناته، وبشكل غير مسبوق، أمام استحقاقات ملحة، في ظل عجز الاحتلال عن تحجيم الانتفاضة أو ضبط إيقاعها، على الرغم من التنكيل الذي قام به بحق المشاركين في فعالياتها.

وأمام هذا الحدث الكبير، نشطت واشنطن وتل أبيب معا في محاولة إيجاد سبيل «غير مكلف» سياسيا ،لإخماد الانتفاضة، تحاشيا للمرور على المناقشات التي دارت في أروقة الأمم المتحدة في سياق توالي الاعتراف الدولي بإعلان استقلال دولة فلسطين، كما بلوره المجلس الوطني الفلسطيني بعد أشهر من اندلاع الانتفاضة.

الإجماع السياسي الفلسطيني على شن معركة مفتوحة ضد الاحتلال في الميدان والسياسة كان من بين أبرز العوامل التي أعطت الانتفاضة زخمها الجماهيري وانتشارها الجغرافي في أنحاء الضفة وقطاع غزة. وهو أيضا، من أبرز العوامل التي أعادت الالتفاف الإقليمي والدولي السياسي والشعبي حول الحقوق الوطنية الفلسطينية. وعادت القضية الفلسطينية بالتالي إلى صدارة الاهتمام على كافة المستويات. وكان من الطبيعي أن يخلص المراقبون إلى أن الانتفاضة تمكنت من إفشال محاولات تهميش العامل الفلسطيني في المعادلة السياسية القائمة في المنطقة. وكان تجديد الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى تجديد الاعتراف بوحدانية وشرعية تمثيله عبر منظمة التحرير الفلسطينية من أبرز الانجازات التي حققتها الانتفاضة منذ أشهرها الأولى.

وفي أتون الانتفاضة، انعكست وحدة المواجهة، السياسية والشعبية، على العلاقات الوطنية الداخلية فتعززت وتطورت في إطار القيادة الموحدة للانتفاضة، وبرنامجها الميداني والسياسي. وربما يمكن القول إن العام الأول من الانتفاضة شهد نموذجا لما ينبغي على حركة تحرر وطني القيام به في ظل تكامل الفعلين السياسي والجماهيري.

كما يمكن القول إن تأثيرات الانتفاضة انعكست على حركة الشارع العربي عبر الفعاليات الجماهرية الواسعة التي شهدتها العواصم والمدن العربية تأييدا ودعما لحقوق الشعب الفلسطيني،

وإن الانتفاضة أعادت النظام الرسمي العربي مجددا إلى دائرة الالتزام المعلن بقرارات القمم العربية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.

وفي الخلاصة: شكلت الانتفاضة رافعة وطنية كبرى تحت راية البرنامج الوطني التحرري، وفي ظل الاجماع السياسي الفلسطيني حول ضرورة مواصلتها واتساعها نحو تحقيق أهدافها في الحرية والاستقلال والعودة. وهو الأمر الذي شكل وقودا سياسيا لفعاليات الانتفاضة، في الفترة التي تواصل فيها هذا الإجماع.

وهذا ما أدركته أيضا كل من واشنطن وتل أبيب، بعد فشل جميع محاولات إخماد الانتفاضة بالقوة العسكرية المباشرة. وخلصتا إلى أن مسرب التأثير على الانتفاضة وتحويل مسار طريقها نحو أهدافها، يبدأ بالالتفاف عليها عبر تقديم عروض سياسية جاذبة أمام القيادة الرسمية الفلسطينية من خلال الحديث عن أفق لحل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعيدا عن ميدان المواجهة القائمة. وقد عبرت واشنطن فعلا في العام 1988 عن استعدادها لإجراء حوار مباشر مع منظمة التحرير.

ومنذ تلك الفترة، دخلت السياسة الرسمية الفلسطينية عمليا في حسابات الرهان على إمكانية أن تقوم الولايات المتحدة بدور يتجاوز انحيازها المزمن لمصالح الاحتلال، وربما أخطر ما في هذا الرهان أنه فتح الباب لقبول خروج التداول بشأن القضية الفلسطينية من الأمم المتحدة إلى خارجها، وفق مسارات تهيمن عليها الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما وقع فعلا منذ أكثر من ربع قرن منذ انطلاق التسوية على اساس اتفاق أوسلو. وقرأ راسموا هذا الاتجاه أن الانتفاضة قد قطعت شوطا يؤهلها لأن تلعب دورا مفصليا في التأثير على منحى السياسة الأميركية بشأن الصراع في المنطقة. وهنا وقع هؤلاء في خطأ كبير ومزدوج:

* هي قراءة خاطئة بالأساس لجوهر الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، ولطبيعة العلاقات الإسرائيلية ـ الأميركية ومساحات التقاطع الواسعة في مصالح الطرفين، ووحدة رؤيتهما تجاه وظيفة أي حل سياسي للصراع الفلسطيني/ العربي ـ الإسرائيلي، وهي تثبيت واقع هيمنة الاحتلال في المنطقة، وتكريس سياساته التوسعية على حساب المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية.

وكان من الواضح حينها أن دعوة الحوار التي أطلقتها واشنطن نحو منظمة التحرير تهدف إلى تثبيت مسافة بين السياسة الرسمية الفلسطينية وبين أهداف الانتفاضة وفعالياتها. وكان هذا أخطر ما في السيناريو الأميركي ـ الإسرائيلي للالتفاف على الانتفاضة. ولذلك ، من الوهم ـ برأيناـ الاعتقاد أن ثمة مسافة ما بين هوامش المصالح الأميركية ـ الإسرائيلية تتسع للجانب الفلسطيني بكل ما يعني ذلك من حضور للقضية الفلسطينية كما تراها قرارات الشرعية الدولية.

* وهي قبل أي شيء قراءة خاطئة لواقع الانتفاضة والمرحلة التي قطعتها وآفاق تطورها، وبالتالي، هي تقدير خاطئ اعتقد أصحابه أن الانتفاضة باتت ناضجة الثمار، ويمكن قطاف إنجازات سياسية لصالح حقوق الشعب الفلسطيني. وقد أدى ذلك ، مع تباين التقديرات الفلسطينية تجاه وضع الانتفاضة، إلى خسارة أهم أسلحتها وهو الوحدة في السياسة وفي الميدان. وهذا يعني أن الزخم والتصاعد في مسار الانتفاضة بات معرضا للانحسار والتراجع، وفي ذلك مصلحة للاحتلال وحليفه الأميركي.

ومن ضمن القراءة الخاطئة لوضع الانتفاضة ودرجة تطورها ونضجها، تقدير خاطئ أيضا لقدرات الشعب الفلسطيني ومدى استعداده للمضي حتى النهايات المظفرة للانتفاضة. ويمكن القول إن جوهر هذه القراءة هو الوظيفة الاستعمالية لما يجري على الأرض، من زاوية القبول بعرض الحوار مع واشنطن كمكافئ عما يستطيع الشعب الفلسطيني الحصول عليه سياسيا عبر ميدان الانتفاضة.

لقد أجابت الانتفاضة بشكل عملي ومباشر وفعال على سؤال الوحدة في السياسة والميدان. وقدمت على الأرض إجابات على أسئلة المواجهة عبر معركة مفتوحة مع الاحتلال، وأجابت أيضا بواسطة النهوض الشعبي ودور الشارع الفلسطيني على سؤال كيفية تعديل موازين القوى المختل عسكريا لصالح الاحتلال، وخلق معادلة جديدة عبر الانتفاضة وضعت الدولة العبرية في الزاوية الصعبة من حلبة الصراع.

محمد السهلي

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت