منذ وجد الإنسان على سطح الأرض وهو يكافحُ من أجل تحقيق أفضل شروط الحياة، وذلك من خلال تأمين إحتياجاته المادية والروحية والمعنوية، والتي لا تتأتى له بشكل فردي، فكان الإنتماء إلى الجماعة التي تبدأ بالأسرة، فالقبيلة فالقرية ثم المدينة ثم المجتمع والدولة، وصولاً إلى الإنتماء إلى عالم الإنسان والإنسانية في نظام دولي يحتكم إلى المبادئ والقيم الإنسانية.
إن توفير الإحتياجات المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، حاجات ضرورية وأساسية ليحيا الإنسان، لكن وحدها غير كافية للحياة الكريمة، التي تحقق إنسانية المرء، إذ تبقى هناك عناصر ضرورية أخرى لإكتمال شروط الحياة ويتقدمها الأمن والأمان والحرية والكرامة، لذا يأتي القول (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، ويأتي الخبز مقترناً بالأمن والكرامة، وهنا يتجلى فهم الآية الكريمة (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) سورة قريش، حيث يتحقق للإنسان الخبز والأمن والكرامة، وتتحقق له الإحتياجات المادية والمعنوية التي يحتاجها. يناضل الإنسان منذ بدء الخليقة لتحقيق إحتياجاته المادية والمعنوية على نفس الدرجة، وفق إحتياجاته وظروفه في مختلف مراحله، لذا فإن كافة العقائد والفلسفات قد إشتركت في بلورة التصور الجامع لشروط الحياة الكريمة، والفضلى، التي تحقق الإحتياجات المادية والمعنوية للإنسان، والتي لا تكتمل إحداها دون الأخرى.
الإنسان يتكون من جسد وروح، فهو يحتاج الخبز ومختلف العناصر الغذائية لغذاء الجسد، كما يحتاج إلى الكرامة والأمن والعدالة والمساواة والحرية لتغذية الروح، وهذه الإحتياجات لا تتحقق في ظل الإحتلال والإستعمار، الذي ينتهك مختلف الشروط المادية والمعنوية للحياة الكريمة للإنسان، كما لا تتحقق في ظل الدكتاتورية والتسلط وإفتقاد التنمية الإقتصادية وغياب العدل والحرية والمساواة.
إن القضاء على الإستعمار والإحتلال بكل أشكاله والنهوض والتقدم والتنمية وبناء دولة القانون والمؤسسات هو الوعاء الذي تتحقق فيه للإنسان تلك الشروط المادية والروحية والمعنوية التي يحتاجها للعيش بشرف وعدل ومساواة وكرامة، داخل المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. لقد كان بناء الدول نتيجة طبيعية لهذه الإحتياجات البشرية الفردية والجماعية على السواء، إن توفر هذه العناصر وهذه المتطلبات للفرد وللجماعة داخل الدولة الواحدة، يمثل معيار الفشل أو النجاح لها. إن فشل الدول والحكومات في تحقيق تلك الشروط الأساسية يؤدي إلى ضرورة التغيير والتعديل في حكوماتها وأنظمتها وتشريعاتها، لأجل مواكبة تغير وتطور تلك الإحتياجات الأساسية للفرد وللمجتمع مع مرور الزمن، وفق آليات محددة تكفل الحفاظ على كرامة الإنسان ووحدة الدولة والمجتمع في آن، وبالطرق السلمية بعيدا عن العنف والفوضى، كي لا يتعرض الأمن والسلم الأهلي والمجتمعي للخطر، الذي يفقد فيه الفرد والمجتمع أمنه وكرامته ويفقد بقية الشروط المادية والمعنوية للحياة الكريمة، لذا جاء القول ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فالكرامة والحرية والعدل والمساواة متطلبات أساسية للحياة شأنها شأن الخبز.
إن النضال ضد الإستعمار من أجل الحرية والإستقلال والكرامة تفرضه الطبيعة الإنسانية، كما أن الإنتفاضات والثورات والحراكات الجماهيرية، يفرضها غياب دولة المؤسسات والقانون القادرة على توفير الإحتياجات الأساسية المادية والمعنوية للمجتمع، التي يجب الإستجابة لمطالبها حتى تستعيد الدولة دورها الذي وجدت من أجله.
د. عبد الرحيم محمود جاموس عضو المجلس الوطني الفلسطيني
E-mail: pcommety @ hotmail.com الرياض 16 / 12/ 2019م
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت