أبدأ المقال من علّته و من الدوافع التي حرّضتني على الكتابة ، و ذلك بعدما تبنى الكثيرون فكرة احتفاء القانون الأوروبي بالمرأة ، و بأنها نالت كامل حقوقها و حريتها بفعل هذا القانون ، لدرجة أنّ المقارنة لم تعجبهم إذا ما حلّت ضيفةً ثقيلة بين المجتمع العربي و المجتمع الأوروبي و ضوابط كلّ منهما تجاه المرأة ، وصولاً إلى إجابةٍ مُغتَنَمة إذا ما أوقدنا السؤال المباشر التالي : أيهما أعطى المرأة حريتها و كرامتها أكثر ؟ الثقافة العربية أم الأوروبية ؟
لابد من إجراء هذه المقارنة و بالأدلة و البراهين ، و من خلال ثلاث زوايا رئيسة هي : المراهقة و الزواج ، العمل ، المصير المرتقب في أرذل العمر ..
أولاً : المراهقة و الزواج ..
نبدأ من المجتمع الأوروبي ، حيث أنّ الفتاة الأوروبية إذا وطأت قدماها وحل المراهقة سرعان ما تصبح عُرضةً للصداقة مع شابٍ يألَفُها و تألفه ، و ربما تنجح هذه الصداقة و ربما تخفق ، ليستمر بعدها مسلسل الانتقال من شاب لآخر وصولاً إلى فارس الأحلام ، فبعض الفتيات يحالفهنّ الحظ في العثور على الفارس المنتظر من التجربة الأولى ، بينما يستمر البعض الآخر في الانتقال من حُبّ إلى آخر ، و في كلتا الحالتين ، يحق لهذه الفتاة أن تجاهر بعلاقتها مع هذا الشاب ، و مع غيره ، و يُمنَع على الوالدَين الاعتراض طالما أنهما خاضا التجربة ذاتها في قديم الزمان ، و هكذا تصل المرأة الأوروبية إلى الحلقة الأخيرة من حلقات مسلسل العاطفة الذي تكون خاضته ربما مع عشرة من الشبان وصولاً إلى الأخير منهم و الذي يُسمّى بين قوسين الزوج ، الزوج الذي تستقر معه بعد رحلة طويلة ، و ذلك من خلال مراسم حكومية تقام في البلدية ليتم إعلان الزواج ..
بينما .. في المجتمع العربي .. تعيش المرأة العربية في بيت والدها الذي لا ثاني له على الإطلاق ، لتنشأ النشأة التي يرتضيها والدها ، سواء كانت هذه النشأة حسنة السيرة أم لا ، فتذهب إلى مدرستها و تعود ، لتحصل على شهاداتها الأولية طالما هي في كنف والدها ، حتى إذا ما صارت فتاةً صالحة للزواج ، يتقدم الشبان إلى خطبتها بما يليق بمقامها و مقام والدها ، و ربما يصطحب الخاطب معه عشرات أو مئات الوجهاء إلى بيت الخطيبة ، إكراماً لها ، و استئذاناً منها على الموافقة ، فإذا أشارت بالموافقة فإنّ الأفراح تعم الحي بالكامل ، و تتم مغادرتها لمنزل والدها بحضور شعبي مهيب ، و سيارة عليها من الزينة ما عليها ، ليتم إعلان الزواج و الانتقال إلى بيت الزوج الذي تعيش معه الحياة الزوجية من الألف إلى الياء ..
بهذه المقارنة المنطقية إلى حدّ ما ، نفجّر السؤال التالي : مَن هي الفائزة بوسام الكرامة و العفة فيما يتعلق بالزواج الذي هو أهم مشروع في هذا الكوكب ، المرأة العربية أم المرأة الأوروبية ؟؟
ثانياً : العمل
و لأنّ العمل هو بوتقة هذه الحياة التي ننصهر فيها ، لابد أن تعرّج هذه المقارنة على زاوية العمل ، لنرى أيهما أعطى المرأة كرامتها في العمل ، العربي من المجتمعات ، أم الأوروبي ؟
نبدأ من حيث بدأنا الزاوية السابقة ، أي من واقع عمل المرأة في المجتمع الأوروبي ..
في أوروبا ، تُخيّر الفتاة إذا اجتازت مرحلة التعليم الإلزامي ، بين الاستمرار في الدراسة أو العمل ، و ليس لهذين الخيارين ثالث ، فتبدأ سلطات السوسيال بمتابعتها إذا ما تركت الدراسة ، لتجبرها على العمل ، فتجد الفتاة نفسها مضطرة إلى العمل كي تتخلص من هذه الملاحقة ، و هذا ليس في حسبان الخطأ طالما أن العمل حق مشروع للمرأة أينما وُجِدت ، لكن المثير للتساؤل هو طبيعة هذا العمل الذي أوكل إليها ، إذ نلاحظ نحن المقيمين في أوروبا أنّ المرأة الأوروبية تشاطر الرجل في أعماله الشاقة أيضاً ، بعيداً عن أنوثتها التي لا تسمح لها بخوض مثل هذا النوع من الأعمال ، فهل تنال المرأة كرامتها إذا ما عملت سائقاً لحافلة النقل العمومي مثلاً ؟؟ أم أنها تنال حريتها إذا ما عملت في شركات البناء ضمن أجواء لا تليق إلا بالرجال الذين يشيدون الأبنية بعد تغلبهم على الخوف من المرتفعات ، و العمل ضمن ظروف جوية صعبة للغاية ، و بذل جهود كبيرة ضمن ساعات العمل الطويلة في أوروبا ؟؟
كيف تكون المرأة مرأة ، عندما تعمل في مستودعات التحميل و معامل الإنتاج ، و شركات الإنشاء ، و مخافر الشرطة ، و تنظيف الشوارع ، و قيادة القطارات ، و قطاعات العمل الخاص التي تتطلب جهداً كبيراً جداً لا يليق بها كأنثى في المجتمع ؟؟
بينما .. في المجتمع العربي ليس العمل إلزامياً على المرأة قط ، فالمجتمع تكفل بالإنفاق عليها سواءً كانت في بيت زوجها أم في بيت أبيها ، و بتلبية كل ما تطلبه من احتياجات ، و في حال قررت العمل بنفسها ، فإنها تجد نفسها معلّمة أو موظفة في مؤسسات الدولة ، أو ممرضة ، أو ضمن أية مهنة تكفل لها أنوثتها كامرأة ، و ليست رجلاً يقوم بعمليات ( التخليع و التكسير و يباطح الحياة القاسية ) ، و في حال خاضت المرأة العربية مغامرةً في عملها ، فإنها تكون من الأقلية إذا ما تمت مقارنة أعداد الإناث مع أعداد الذكور ، كالمرأة العربية عندما تتطوع في سلك الشرطة و الجيش ، أو تكون عاملة في قطاع العمل الخاص ، و في حال فعلت ذلك و عملت هذا العمل ، فإنّها لا تحظى بإعجاب المجتمع العربي الذي لا يرضى للمرأة إلا أن تكون أنثى حقيقية ، حتى لو دخلت نطاق العمل ..
و نعود و نسأل السؤال ذاته الذي أوردناه أعلاه : بعد هذه المقارنة أين نالت المرأة كرامتها أكثر ، في المجتمع الشرقي ( المتخلّف أو المتعصب أو المتحجّر أو سمّه ما شئت ) ، أم في المجتمع الأوروبي ؟
ثالثاً : مصير المرأة إذاما رُدّت إلى أرذل العمر :
إذا أردنا أن نستعرض مصير المرأة الأوروبية عندما تداهمها الشيخوخة ، فنجد أن الجواب متوفر جداً في الحادثة التالية التي استوقفتني ، و التي تعود إلى سنتين و نصف تقريباً نحو الوراء ، عندما كنت أُؤَثّث منزلي الجديد جنوب هولندا ، إذ أسرّني كثيراً آنذاك ، وجود جارة لي طاعنة في السن ، بشوشة الوجه ، حسنة التعامل ، تعرّفت عليها منذ اليوم الأول ، و هي تستعين بكرسي يدوي كي تستطيع المشي و التنقل ..
في ليلتي الأولى في منزلي ، راعني صوتٌ عالٍ من منزلها ، و عندما أنصتتُ جيداً ، عرفتُ أنه صوت التلفاز العالي ، رغم أن الوقت كان متأخراً ، و بقي هذا الصوت حتى بزوغ الشمس ، فقلت في نفسي لعلها نامت و نسيت التلفاز دون أن تغلقه ، لكنّ الأمر تكرر في الليلة الثانية و الثالثة ، فدفعني الفضول إلى سؤالها بشكل مباشر : لماذا لا تغلقين التلفاز في كل ليلة ، و تُبقين على صوته العالي لهذه الدرجة ؟؟
فكانت الإجابة التي لم أكن أتوقعها : أنا لوحدي في المنزل ، و في الليل و عند سكون الجميع ينتابني خوفٌ شديد لا أعرف مصدره ، فلا أجد سوى صوت التلفاز أنيساً لي ، اعذرني يا جاري العزيز ..
دموعي دفعتني إلى سؤال يعتبرونه في أوروبا سؤالاً شخصياً لا يقبلونه : و أين أولادك و بناتك ؟؟ فتجيب : كل منهم مشغول في حياته و مستقبله ..
طبعا لم تقل هذه الكلمات و هي ساخطة على أبنائها ، بل كانت طبيعية إلى حد بعيد ..
عرفتُ وقتها أنّ هذا هو مصير المرأة الأوروبية إذا ما تقدم بها السن ، وحيدةً في منزلها ، أو مُساقة إلى مأوى العجزة ، بعد أن يهجرها أبناؤها و أحفادها ، إلا مِن زيارة يتيمة في عيد الأم ، مع باقات الزهور و الرياحين ، حتى إذا انقضى المساء ، غاب الأبناء و الحفدة حتى يومٍ آخر بعيد المدى ..
بينما تعيش المرأة المسنّة في المجتمع العربي مُعززة مكرّمة في منزل ابنها ، باستثناء بعض حالات العقوق الشاذة و القليلة ، فتجد أنّ أبناءها يتسابقون إلى برّها و القيام على شؤونها بعدما رؤوا الجنة تحت قدميها ، الكل يريد رضاها و تلبية مطالبها ، فلا يوجد شيء اسمه مأوى العجزة في العُرف العربي ، بل إنّ المجتمع العربي يخلّد في صفحاته حالات العقوق إذا حصلت ، فيصبح العاق مضرب المثل في المجتمع ، منبوذاً و لا يُؤمَن له جانب ، بينما لو أردنا التعميم لقلنا أنّ أغلب المسنّات العربيات يقضين أوقات الشيخوخة في رحاب أبنائهنّ الذين يفتحون لهنّ الصدور قبل البيوت ..
و بعد استعراض هذه الزوايا الثلاثة في المقارنة بين المرأة في المجتمع العربي ، و المرأة في المجتمع الأوروبي ، نجد أنّ واحداً من هذين المجتمعين هو الأكثر كفاءةً ، هو الأجدر بحفظ كرامة الأنثى التي يصونها شابةً و عاملةً و زوجةً و أماً و عجوزاً تقدم العمر بها ، بينما يعبث الآخر بشرفية المرأة و أنوثتها البريئة في كافة مراحل الحياة ، ليتركها في نهاية المطاف عجوزاً وحيدةً لا مؤنس لها إلا كلبها أو صوت التلفاز ..
بقلم عبدالسلام فايز / لاهاي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت