أتى قرار الحكومة الأردنية في الأيام السالفة بدفن مواد كيماوية ومشعّة في مدينة مادبا جنوب الأردن بذات الوقت الذي تعمل فيه جهات أخرى جاهدة على تنمية السياحة وتسخير السُبل لخدمة المنشآت لتحويل وجهة كثير البلدان إلى الأردن لاكتشاف وجهها الجميل، بدءاً من غابات الشمال وحسن خضرتها وجبال الجنوب وسحر أرضها ونعومة رمال وادي رم، وآية الجمال وبهاء يختال، وغروب الشمس يفوق لوحة فنان وسعة الخيال، وادي القمر، تحفه الجبال الوردية الصخرية يتوسطها جبل رم الذي يتجاوز ارتفاعه 17000 متر، على مقربة من مرتفعات معان الشاهقة، جبل مراجيم، جبل الغزال وجبل الخليل.
مادبا تُشبهها بحجم الجمال، وتحديداً المنطقة الغنية بالمياه والشلالات التي يرتادها السائح من كل حدب وصوب، التي عزمت الحكومة على جعلها مقبرة لنفايات كيماوية وحقل اشعاعات لتهدم كل أنواع الحياة فيها.
قرار الحكومة بدفن مواد كيماوية ومشعّة في مدينة مأهولة بالسكان وغنية بالأراضي الزراعية والمياه الجوفية قرار إعدام وهدّام وغير مسؤول. ما يثير استهجاني وسخطي في آن هو اختيار مادبا ذات الطبيعة الجميلة بدل أماكن في عمق الصحراء مهجورة وبعيدة عن المياه الجوفية والأراضي الزراعية.
يذكّرني هذا القرار المجحف غير المدروس بقرار الحكومة الأردنية بتنفيذ اتفاقية ألمانية أردنية للتخلّص من نفايات ألمانية مختلفة في مناطق بلدية الوسطية إبّان رئيسها السابق عماد العزام، حيث كان من المقرّر اختيار منطقة في كفر أسد، إلّا أنّ الضجة التي أتت مع هذه الإتفاقية من سكان البلدية حال دون رئاسة البلدية وتنفيذه، وعوضاّ عن ذلك وقعت بلدة كفرعان كخيار بديل، وهذا ما تمّ تنفيذه فعلا فيما بعد.
دفن مستحضرات كيماوية ومشعّة يتطلب اتخاذ إجراءات لازمة وعمليات معالجة دقيقة لإعادة استخدام بعضه، وما تبقى خلطه مع الإسمنت ووضعه في أسطوانات حديدية لدفنه في أعماق سحيقة، وإحاطة الأسطوانات الحديدية حاملة المخلّفات النووية بطبقة أكسيد المغنيسيوم لمنع تآكله.
فهل أخذت الجهات المعنية ممثّلة بالحكومة جميع الإجراءات الوقائية قبل الإقرار؟
بعد موجة غضب انتشرت في جميع مواقع التواصل الاجتماعي وبعضها في الصحف المستقلة من خلال صورة لوثيقة موافقة وإقرار لإحدى الشركات الخاصة نفت هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن بعد يوم من إقرار الحكومة لمشروعها القتّال، ممثّلة بنائب رئيس مجلس مفوضي الهيئة، السيدة وجدان الربضي منح الهيئة أي ترخيص لدفن موادّ كيماوية أو مشعّة في محافظة مادبا، وأنّ الترخيص حصل فعلاً، إلّا أنّه أتى لغايات التصوير الصناعي، تقوم بتنفيذه مؤسسة خاصة تستخدم مواد مشعّة من نوع إيريديوم 192، والتي تحتاج بالضرورة لمنطقة تخزين لهذه المستحضرات الإشعاعية وكاميرات تصوير صناعي.
نفي السيدة وجدان الربضي رئيس مجلس مفوضي الهيئة أتى بحدّ ذاته كإقرار لفعل شنيع مرفوض بكلّ الأعراف، دولياً وأردنياً، فمادة إيريديوم 192 المشعّة وشبيهاتها تسبّبت في حوادث كارثية وحالات وفاة أبرياء كثرة، وإصابات تشوه لقربها من المواطن العادي، فمثلاً في محافظة القليوبية 5 يونيو/حزيران 2000م ظهرت حالات مرضية في أسرة مكونة من 7 أفراد، بدت بإلتهاب باليدين وبثور مائية في الأصابع، اعتقد الأطباء آن ذاك في بداية الأمر بأنّ هذه الحالات جلدية بحته، ومنهم من اعتقد بالجمرة الخبيثة، إلّا أنّ بعض الأطباء اهتدى لكشف اشعاعي تبيّن من خلاله بالوجه الشرعي أنّ الحالة المرضية ليست جمرة خبيثة. فما هو الشيء يا ترى وراء وفاة فردين من الأسرة جرّاء هذه الأورام؟
إنّها ذات المادة، إيريديوم 192 التي صرّحت الهيئة بالسماح بتخزينها في مدينة مادبا، وهي التي تصدر أشعة جاما، وهو جسم مشع يشبة المسمار الحلزوني وهو جزء من كاميرا اشعاعية، إذ تبيّن أنّ أحد العاملين استخدم كاميرا اشعاعية لفحص مواسير نقل الغاز في المنطقة.
هذه الحالة ليست الأولى من نوعها، ففي المغرب أيضاً استخدمت ذات المادة بالتصوير الإشعاعي في إحدى المنشآت الصناعية، والتي نقلها أحد المواطنين لمنزله لعدم معرفته بها، ممّا أدّى لوفاة 8 أشخاص من الإشعاعات الصادرة عنها.
وفي أبريل 1974م نقلت مادة الإيريديوم 192 بطائرة ركاب دون مراعاة إحكام الإغلاق حسب المواصفات ممّا أدّى لإصابة جميع الركاب بالإشعاعات. والأمثلة كثيرة لا أرى لزوم لطرحها لتبيين حجم الخطورة التي تهدّد سكان المناطق المأهولة من وجود موادّ مشعّة كالتي نحن في صدد الحديث عنها والمخاطر الكارثية الناتجة عن قربها من المواطن العادي وإمكانية حدوثها، إمّا بالخطأ من وقوع سرقات لمخازنها كالتي جرت مثلاً في البرازيل في سيبتمبر/أيلول سنة 1987م، أو لقربها من المواطن البسيط الذي لا يعي الخطر المؤدي للموت بين يديه أو قريباً إليه وبنيه.
في الوقت الذي تحرص الدول المتقدمة على حماية البيئة وبالضرورة الإنسان، تُقّبل حكوماتنا على قرارات هدّامة من شأنها هلاك الشجر والحجر والبشر، فإقرار هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن تخزين كاميرات التصوير الصناعي الإشعاعية في منطقة مأهولة وزراعية ومغمورة بمياة جوفية استخفاف صريح بالإنسان وتهميش يتجاوز الأذية، رغم الشعارات التي تلوح بها دولتنا صبح مساء "الإنسان أغلى ما نملك" أو علّه جهل مدقع يدفع الهيئة بإنكار دفن مواد كيماوية مشعّة، ليصرّح بذات الوقت بمنح مؤسسة خاصة السماح بتخزين مادة إيريديوم 192 الإشعاعية، دون تُوضيح عن المؤسّسة وأسباب استخدامها للتصوير الصناعي وطبيعة عملها، فانطبق عليهم المثل الأردني القائل: "أجى تيكحلها عماها" أو كالذي هرب من التشبيه فوقع في التعطيل.
دوسلدورف/أحمد سليمان العمري
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت