غدا 25 ديسمبر يحتفل أخوتنا المسيحيون في بلادنا بعيد الميلاد المجيد وإني أقدِّم لهم ضُمة ورد جبلية قطفتها حديثاً من حواكير قريتي (صُمِّيل الخليل) المحتلة منذ سنة 1948 . وإني أراكم أيها الأخوة تحتفلون بعيد الميلاد على طريقتكم، وانا أحتفل بميلاد سيدنا المسيح - عليه السلام - على طريقتي، بالصلاة والسلام عليه ، وذكر ومضات من حياته حسب ما جاءت به الأناجيل الأربعة + 1، وبما ورد ذكره قرآننا الكريم . وإنا - نحن المسلمين - نعترف بسيدنا المسيح عيسى ابن مريم ، عبد الله ونبيه ورسوله، ونصلي ونسلم عليه وعلى نبينا محمد وعلى كل الأنبياء والرسل أجمعين ، وبعد:
فقد كان سيدنا عيسى - عليه السلام - أحد الأنبياء الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وواحد من أولي العزم الذين أصابهم العَنت والأذى من أقوامهم الذين ناصبوهم العداء، ولكن الله سبحانه وتعالى ناصرهم وأنصرهم على أعدائهم، وكان عيسى أشدهم بلاء وأعظمهم كَرباً حين تكالبت عليه قوى البغي من الرومان واليهود الذين جمعتهم الأحقاد والمصالح الخاصة ليتخلصوا منه، يحضُّهم على ذلك خوفهم من تكاثر الأنصار حوله وتفرُّق الناس عنهم. فتآمروا عليه، وقسموا بينهم الأدوار ذات النوايا السيئة، فاليهود يوقعونه في مكائدهم بأن يستدرجوه إلى ما يخالف عقيدتهم، أو يجعلوه يسب قيصر إمبراطور الرومان أو الوالي الروماني بيلاطس ، وبالتالي يأتي دور الرومان فيكون بيدهم تنفيذ حكم الموت على من كفر وعصى .
ومن مكر اليهود للإيقاع بالمسيح أن أوعزوا لتلاميذه الفريسيين أن يسألوه : هل يجوز أن نعطي الجزية لقيصر أم لا ؟. ففطن المسيح لمكيدتهم وللفخ الذي نصبوه له، وقال لهم : لماذا تمتحنونني؟ ائتوني بدينار لأنظر فيه، فأتوا له بدينار، وسألهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فأجابوا : لقيصر. فالْتفتَ إليهم وقال لهم: " أعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله " مرقس 12 . فتعجبوا من قدرته على الإفلات منهم، ومن عجزهم عن اصطياده .
ثم كان أن جاءه قوم من الصدوقيين الذين ينكرون يوم القيامة ، فسألوه : يا معلم، لقد كتب موسى أن مَن مات لأحد أخ ، وترك وراءه امرأة ولم ينجب منها أولاداً، وجب على الأخ الحي أن يتزوج امراة أخيه، ويقيم نسلا لأخيه الميت، فكان الأخوة سبعة، قد تزوجوها واحداً بعد واحد، حتى ماتوا ولم يتركوا منها نسلاً، ثم ماتت بعدهم. ففي القيامة متى قاموا ؛ لمن منهم تكون زوجة ؟. فسخر يسوع منهم ومن سؤالهم الذي يدل على ضلالهم وفساد عقيدتهم، فلو أنهم مؤمنون بالله حقاً لعرفوا قدرة الله على بعث الأموات يوم القيامة أحياء، " فالله ليس إله أموات ، بل إله أحياء". ولعرفوا أيضاً أن الناس متى قاموا من موتهم لا يتزوجون ولا يُزوِّجون، بل يكونون كالملائكة في السماء، ( مرقس 12 بتصرف). وأسقِط في أيدي الذين ظلموا، وباءوا بالفشل، ثم اتجه المسيح إلى المؤمنين به، يهديهم ويوصيهم بوحدانية الله، قائلاً: " اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد" مرقص 12، وأن تحب الرب إلهك من كل قلبك ، ثم تحب قريبك كنفسك " ، ثم يعلمهم التواضع وأن الكبير كبير بما يخدم الآخرين. " من أراد أن يصير فيكم عظيماً يكون لكم خادماً، ومن أراد أن يصير فيكم أولا ، يكون للجميع عبداً " مرقس 10. وتشتد المحنة على نبي الله عيسى عليه السلام، وتتكالب عليه قوى الشر من يهود ورومان بتحريض من كهنة اليهود ( وهذا دأبهم في كل مكان وزمان). فيخاطب عيسى المدينة أورشليم قائلاً: " يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يُترك لكم خراباً " متى 23. وفي آخر حلقات المؤامرة أن اخترق الكهنة تلاميذ اليسوع أمنياً، فجنَّدوا أحدهم ويُدعى ( يهوذا الاسخريوطي)على أن يُسلِّم لهم اليسوع مقابل ثلاثين قطعة من الفضة، ويتم القبض عليه وتقديمه للمحكمة التي قضت بصلبه وبموته، فصلبوه واقتسموا ثيابه مقترعين عليها، وقتلوه، فأسلم روحه. وندم يهوذا على تسليمه اليسوع ، فيرد الفضة، ويخنق نفسه. ولكنَّ عيسى حقيقة لم يمت قتيلاً على الصليب ، تصديقاً لقول الله تعالى في القرآن الكريم " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم " 157 النساء . فلما رآه الحواريون حين ظهر لهم عجبوا له وفرحوا به والتفوا حوله، وأمرهم أن يستأنفوا نشر تعاليمه ويجتهدوا فيها. انظر متى 27 والاناجيل الأخرى بتفاوت قي سرد القصة .
من معجزات المسيح –عليه السلام، أنه وُلد بدون أب، التكلم في المهد، إنزال المائدة من السماء، السيطرة على الطبيعة، إحياء الموتى بإذن الله ، شفاء المرضى، وقيام القعيد يمضي على قدميه، ولكن المعجزة الكبرى التي تذكرها الأناجيل الأربعة( متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا) مفادها: أن أنصار عيسى كثروا، وأنهم كانوا يوماً في البريه، لا طعام فيها ولا ماء، فطلبوا منه أن يتركهم يذهبون إلى القُرى المتباعدة طلبا لشراء الطعام وجلبه لهم، ولكن اليسوع يسألهم : كم لديكم من الطعام . قالوا: خمسة أرغفة وسمكتان. فقال لهم يكفي. وأمرهم أن يتحلقوا مجموعات على العشب ، فاتكأوا صفوفاً مئة مئة وخمسين خمسين، وأخذ الأرغفة والسمكتين، ورفع نظره إلى السماء، وبارك ثم كسَّر الأرغفة، وقطَّعَ السمكتين، وأمر تلاميذه أن يُقدموا الطعام للجماعات، وكان عدد الرجال خمسة آلاف رجل، ماعدا النساء والأطفال، فأكل الجميع وشبعوا، ثم رفعوا من الكِسَر المتبقية من الخبز والسمك ما ملأ اثنتي عشرة قُفة.
وتذكرنا هذه القصة بقصة الشاة العجفاء الهزيلة، حين اشتد الجوع والعطش بالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه في رحلة الهجرة إلى يثرب، فوجد خيمة فيها عجوز، لم يجد عندها طعاماً ولا لبناً، فنظر الرسول فرأى الشاة واستأذن من صاحبتها أن يحلبها، فأخبرته بأنها عجفاء خالية من اللبن، ولكنها أذنت له ، فتقدَّم الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم- وأمسك بالشاة ومسح بيده الشريفة على ضرع الشاة، وطلب إناء فملأه وشرب هو وصاحبه أبو بكر- رضي الله عنه- ودليلهما عبد الله بن أُريقط ، ثم ملأ الإناء ثانياً وثالثاً حتى شربت وارتوت أم معبد ومن كان معها وملأت ما لديها من الآنية باللبن .
من وصايا المسيح الواردة في الإناجيل كلها، ونورد هنا ما جاء في إنجيل مرقس 10: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تسلب، أكرم أباك وأُمك، لا تشتهِ زوجة أخيك أو جارك. ولا تشرب الخمر فإنه يُذهب بالعقل، " وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك " متى 6 . ثم أوصى ببر الوالدين والأحسان إليهما قائلاً : " فإن الله أوصى قائلاً : أكرم أباك وأُمك ، ومَن يشتم أباً أو أُماً فليمُت موتاً " . متى 15 ومرقس 7 .
كما أوصى بالزوجة خيراً في قصة ظريفة ، وجدت من الحكمة أن أرويها عن مرقس 10 : حين تقدَّم اللفريسيون وسألوه يمتحنونه: هل يَحِلُّ للرجل أن يُطلِّق امرأته، فأجابهم المسيح بسؤال: بماذا أوصاكم موسى ، فقالوا : موسى أذِنَ أن يُكتب كتاب طلاق فتُطلَّق. فأجابهم يسوع ، وقال لهم: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصيَّة، ولكن من بدء الخليقة (جعل الله الذكر والأنثى) ذكراً وأنثى خلقهما الله . من أجل هذا يترك الرجل أباه وأُمَّه ويلتصق بامرأته ، ويكون الاثنان جسداً واحداً، إذاً ليسا بعدُ اثنين، بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يُفرِّقه إنسان .... ثم قال لهم : مَن طلَّق امرأته وتزوَّج بأخرى يزني عليها، وإن طلَّقت امرأة زوجها( أي: طلبت منه الطلاق وحصلت عليه تنفيذاً لرغبتها) وتزوَّجت بآخر تزني. مرقس 10 :2-12 .
ومن أقواله الحكيمة : " ليس نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته" مرقس 6 " من الثمر تعرف الشجر " متى 12. و" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان " متى 4 . ويخاطب تلاميذه وحوارييه قائلاً: " أنتم ملح الأرض ، ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح ؟" متى 5 . " سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا، بل مَن لطمك على خدك الأيمن، فحوِّل له الآخر أيضاً " متى5 . ( طبعاً ليس المقصود عدم مقاومة أعدائنا الذين اغتصبوا بلادنا وشرَّدونا منها، فهذا خنوع لا يصح معهم، ولا يتوافق مع زماننا). " ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه " متى 16 . هذا هو المسيح عليه السلام المتسامح، الداعي إلى السلام والمحبة ، فصلوات الله عليه وعلى نبينا محمد أعطر التحيات وأصدق التسليمات. وكل عام أنتم جميعا بألف خير ومحبة وتسامح وتعاطف واتحاد قوي في نسيج وطني متين للدفاع عن المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وكنيسة المهد والحرم الإبراهيمي. وعن غزة وبيت لحم ونابلس وعن كل مدننا وقرانا وبوادينا، وسلاماً لكل الفلسطينيين - مسلمين ومسيحيين - أينما يكونون ، قال تعالى : " ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " 82 المائدة .**
للكاتب الصحفي/عبدالحليم أيوحجاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت