(4)
إستراتيجية المواجهة
■ الرهان على دور الإنتخابات في إنتاج واقع تسوده مصالحة تقرّب من إدراك هدف استعادة الوحدة الداخلية، له ما يبرره، كما له أيضاً ما يناقضه؛ لكنه يبقى في محلّه، لأنه يرسم الطريق الأقصر، والوحيد المتاح في الظرف الحالي لخوض رهان إستعادة الحالة الفلسطينية قدرتها على المبادرة، على تجديد إمتلاكها بشكل أفضل لعناصر القوة، في الصراع الدائر.
وبغض النظر عما سوف تؤول إليه الأوضاع، وما سوف ترسو عليه الجهود المبذولة لإنجاح العملية الإنتخابية، فإن المثابرة على خط إعادة بناء الوحدة الداخلية، يبقى له ما يبرره. وهو ما يستوجب أن نجعل منه قضية استراتيجية، ومدخلاً رئيسياً، في حساباتنا، لإحداث النقلة النوعية في مسار العملية الوطنية، إن في إعادة بناء نظامنا السياسي، وإعادة بناء وإصلاح مؤسساتنا الوطنية على أسس ديمقراطية، بموجب مباديء الائتلاف والشراكة الوطنية، أو إعادة بناء وتصويب مسار الحركة الوطنية الفلسطينية ببرنامجها وآلياتها وأساليبها ووسائلها النضالية وأطرها، لمزيد من التنظيم والتفعيل لدور الحركة الجماهيرية في معركة الخلاص الوطني.
* على هذه الخلفية، فإن استراتيجية المواجهة، تساوي مراكمة قوى، أي توفير شروط تسمح بخوض الصراع مع الإستعمار الإستيطاني من خلال أمرين: إستنهاض المواجهة في الميدان + الخروج من أوسلو، ومغادرة استراتيجية الإكتفاء بالمواجهة الإعلامية واللفظية المجانية، في سياق إستهلاك الوقت، والبناء على وهم توفر الظروف لاستعادة العملية التفاوضية.
المواجهة في الميدان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 بما فيه القدس، تشهد منذ الربع الأخير لعام 2015، نهوضاً تمثل بعديد الهبّات، بدءاً من إنتفاضة الشباب، إلى هبّات القدس، ومسيرات العودة وكسر الحصار، واعتصامات الخان الأحمر، وتواتر العمليات الفردية ضد المستوطنين وجيش الإحتلال، إلى إضرابات الحركة الأسيرة في سجون الإحتلال..
هذه المواجهات تعبر عن اعتمال عناصر النهوض الثوري في المجتمع الفلسطيني، التي يمكن أن ترقى بفعاليتها إذا ما توفرت لها شروط أفضل في الإدارة التنظيمية والتحشيدية، التي يوفرها لها مركز قيادي موحد ينشط على أساس من إدامة برنامج إشتباك مدروس وبشعارات محددة مع الإحتلال. وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى مركزية موضوع التقدم نحو استعادة الوحدة الداخلية.
* من جهة أخرى، لا بد من ملاحظة النهوض الجماهيري الواقع في أقطار اللجوء وبلدان الإغتراب بمثال الحركة الجماهيرية الكاسحة التي وقعت في مخيمات لبنان في شهر تموز (يوليو) 2019، إثر قرار وزير العمل الخاص بالعمالة الفلسطينية في لبنان، من بوابة فرض إجازة العمل التي تنزع مكانة اللاجيء عن الفلسطيني في لبنان، وتساويه بالعامل الأجنبي.
كما علينا أن نلاحظ الميل المتزايد للإنخراط في العمل المنظم في أطر جالوية وغيرها، وسط التجمعات الفلسطينية في أوروبا المتزايدة حجماً ونشاطاً. علماً أن هذه الجاليات، لحداثة عهدها في الهجرة، مازالت تحتفظ بعلاقات حيّة ومباشرة مع مجتمعات الجهات والبلدان التي نزحت عنها. والأمر نفسه ينطبق، ضمن الخصوصيات المعروفة، على الجاليات الفلسطينية في الأمريكيتين.
كل هذا يجري، على الرغم من السياسة الخاطئة التي تتبعها دائرة المغتربين في م.ت.ف بقيادتها البيروقراطية فاقدة الرؤية، والعاجزة عن إدراك ما يعتمل في صفوف الجاليات الفلسطينية الساعية إلى الإضطلاع بدور نضالي ملموس،بعيداً عن الأفكار، لا بل ضد البرامج، والسياسات الفاشلة التي مازالت تغشى الأبصار في دائرة المغتربين.
* في الجانب الآخر، تقوم استراتيجية المواجهة على الإقدام على مجموعة من الخطوات السياسية والعملية، التي تؤدي إلى فك الإرتباط بأوسلو، الأمر الذي سبق لدورات متتالية للمجلس المركزي أن توقفت أمامها منذ الدورة الـ 27-2015، فأتت الدورة 23 للمجلس الوطني ـ 2018، لكي تُعبِّر عنه بمجموعة مترابطة من القرارات، نلخصها كما وردت نصاً، بـ 5 عناوين:
1- إعلان إنتهاء المرحلة الإنتقالية التي نصَّت عليها الإتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، بما انطوت عليه من إلتزامات؛ 2- تعليق الإعتراف بدولة إسرائيل إلى حين إعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 حزيران (يونيو) 67، وإلغاء ضم القدس الشرقية، ووقف الإستيطان؛ 3- وقف التنسيق الأمني بكل أشكاله؛ 4- التحرر من علاقات التبعية الإقتصادية التي نَصَّ عليها بروتوكول باريس الإقتصادي، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية؛ 5- تبني حركة الـ B.D.S، أي مقاطعة إسرائيل وسحب الإستثمارات ودعوة دول العالم إلى فرض عقوبات عليها.
* إن مثل هذه الخطوات من شأنها أن تُحدث التحول السياسي المطلوب في الحالة الفلسطينية، بحيث تؤدي إلى:
1- إعادة بناء علاقات الثقة بين الحركة الجماهيرية، والمؤسسة الوطنية بديلاً لحالة إنعدام اليقين، في ظل إلتزام المؤسسة إتفاق أوسلو والخضوع لقيوده.
2- فتح أوسع الآفاق لإعادة الإعتبار للبرنامج الوطني، ما يُعيد أيضاً الإعتبار للموقع التمثيلي لـ م.ت.ف، ويغلق الطريق على محاولات تجاوز هذا الموقع من مداخل مختلفة.
3- إعادة تقديم الحالة الفلسطينية من كونها سلطة لحكم إداري ذاتي محدود، يعتاش على توسل المبادرات السياسية وتسول المساعدات المالية، إلى حركة تحرر وطني لشعب تحت الإحتلال، يكافح تحت سقف الشرعية الدولية، من أجل الفوز بحقوقه الوطنية المشروعة.
4- إعادة تموضع دولة الإحتلال في المكان الذي يعود إليها، باعتبارها دولة إستعمار استيطاني، يقوم نظامها على التمييز العنصري والبطش الدموي وانتهاك الشرعية الدولية وحقوق الإنسان؛ دولة مارقة متمردة على المجتمع الدولي وقيمه.
5- إعادة بناء العلاقات مع الأحزاب والقوى الشعبية العربية والدولية، على أسس نضالية، باعتبارها رأس الحربة في مقاومة الإحتلال والإستعمار في المنطقة.
6- قطع الطريق على صفقة القرن، ووضع الحالة العربية الرسمية أمام استحقاقات قومية ذات تداعيات محلية، ما يملي عليها بالضرورة إعادة تقييم مواقفها من القضية الفلسطينية ومسارها السياسي، والسيناريوهات والمشاريع التصفوية المطروحة بشأنها.
ويبقى أن يُقال، إن كل هذا يبقى مشروطاً بأن تُعيد القيادة الرسمية النظر بأمرين: الأداء السياسي، بما فيه العلاقات الوطنية + أسلوب إدارة الشأن العام من خلال المؤسسات المعنية.
(5)
أداء القيادة الرسمية.. ضعف الإرادة السياسية
(لا نبالغ في القول إذا ما وصفنا أداء القيادة الرسمية – موضوعياً - بأنه يتسم بأمرين متلازمين هما: ضعف الإرادة السياسية + الإرتجال):
* في النقطة الأولى، رغم التأكيد المتواصل على ضرورة تنفيذ القرارات الخاصة بالخروج من الدائرة الجهنمية لأوسلو، ما زالت القيادة الرسمية حائرة في هذا الأمر. والأمثلة كثيرة على ذلك، ومن بينها، إذا ما اقتصر الأمر على الشهور القليلة الماضية، مايلي:
في 25/7/2019، وإثر إقدام إسرائيل في 22/7 على خطوة إستيطانية بالغة الصلافة في «وادي الحمص» ببلدة صور باهر، أدت إلى نسف مئة منزل لمواطنين فلسطينيين لتقيم عليها مشروعاً استيطانياً، إتخذت القيادة الرسمية قراراً، أتى بالنص الحرفي كما يلي: «وقف العمل بالإتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، وتشكيل لجنة لتنفيذ ذلك، عملاً بقرار المجلس المركزي».
وعليه تشكلت لجنة لتطبيق هذا القرار بالآليات المناسبة، إنبثقت عنها لجان متخصصة إقتصادية وأمنية وغيرها. غير أن شيئاً من كل هذا لم يتحقق، لا بل لم يصدر بيان عن هذه اللجنة واللجان المنبثقة عنها، يشرح للرأي العام الفلسطيني ما الذي قامت به منذ لحظة تشكيلها؛ علماً أن هذه اللجنة هي اللجنة الثامنة التي تتشكل على التوالي لدراسة قرار وقف العمل بالإتفاقيات، ووضع الآليات التنفيذية لذلك، دون أن يتم العمل بأي من نتائج أعمال هذه اللجان، التي اندثرت في واقع الحال، وأودعت قراراتها وتوصياتها الأدراج، وما زالت سياسة السلطة تقوم على الإلتزام باتفاق أوسلو.
* في 18/11/2019، وبعد أن كانت الإدارة الأميركية قد توقفت عن الإشارة إلى الضفة الغربية باعتبارها محتلة، أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أن إدارة ترامب ستتراجع عن موقفها الأسبق حيال المستوطنات الإسرائيلية، وهي ترفض الرأي القانوني الذي سبق صدوره عن الخارجية الأميركية عام 1978 (أثناء ولاية الرئيس جيمي كارتر)، الذي يصف بشكل قاطع المستوطنات في الضفة الغربية، بأنها «تتعارض مع القانون الدولي».
وعلل بومبيو هذا الموقف كما يلي:«في ضوء الوضع الخاص الذي تنطوي عليه الحقائق، والتاريخ والظروف الناشئة في إقامة مستوطنات مدنية في الضفة الغربية، نحن لن نرى بعد اليوم في المستوطنات الإسرائيلية بحد ذاتها موضوعاً لا ينسجم مع القانون الدولي».
* أتى هذا الموقف الأميركي كما عبَّر عنه بومبيو، خطوة متقدمة نحو الإلتقاء مع ما سبق أن أعلنه نتنياهو في أكثر من مناسبة، ومنها ما طرحه قبل خمسة أسابيع من إعلان بومبيو، أمام مؤتمر «مصدر أول»، في 8/10/2019: «لقد حان الوقت لفرض سيادة إسرائيل على غور الأردن، وأيضاً شرعنة كل المستوطنات في يهودا والسامرة، سواء التي توجد داخل الكتل أو التي توجد خارجها. جميعها ستكون جزءاً من دولة إسرائيل». وأضاف: «أنا أريد إعترافا أميركيا بسيادتنا على الغور، هذا أمر مهم».
* في 19/11/2019، أي بعد يوم من إعلان بومبيو، تَرَجَّعَ صداه على لسان نتنياهو بالتصريح التالي: «إن القرار التاريخي من الإدارة الأميركية يتيح لنا فرصة فريدة لتحديد الحدود الشرقية لإسرائيل وضم غور الأردن»، وأعطى موافقته على تفعيل مشروع القانون حول ضم غور الأردن لإسرائيل الذي سبق أن قدمته إلى اللجنة التنظيمية في الكنيست شارين هاسكل، عضو الكنيست عن الليكود.
أمام هذا الموقف لم يعد بوسع غانتس رئيس «كاحول - لافان»،الحركة السياسية المعارضة لنتنياهو، سوى أن يواكب هذا التصعيد، قائلاً: «الغور سيكون جزءاً من إسرائيل في أي اتفاق مستقبلي»، فاكتمل بذلك – عملياً – نصاب «إجماع قومي إسرائيلي» على موضوع التوسع والاستيطان والضم، بما فيه توسيع الاستيطان في قلب الخليل.
* أمام هذا المشهد بوقائعه المتواترة تنسيقاً بين واشنطن وتل أبيب، حيث الأولى ترفع الكرة، والثانية «تكبس»؛ كما وبين الليكود وكاحول- لافان، كنا نتوقع أن يُدعى لاجتماع عاجل للجنة التنفيذية في م.ت.ف باعتبارها القيادة اليومية العليا للشعب، ولكن بخيبة أمل نقول، عقدت «التنفيذية» إجتماعاً تشاورياً، لم يصدر عنه سوى بيان لا قيمة عملية له، بدلاً من الرد على هذه الخطوة العدوانية، بوقف التنسيق الأمني للأجهزة الفلسطينية مع الأجهزة الأميركية المناظرة في موضوع مكافحة الإرهاب،في الوقت الذي مازالت فيه واشنطن – للمفارقة - تَصِمْ منظمة التحرير بالإرهاب(!).
بعدها عقدت «التنفيذية» إجتماعاً نظامياً مقرِراً بكامل أعضائها، أصدرت فيه بياناً لم يتجاوز ما جاء فيه سوى التهديد اللفظي بوقف العمل بالإتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، واعتبارها لاغية إن استمرت دولة الإحتلال في التوسع الإستيطاني، وكأن كل ما يجري لا يستحق من القيادة الرسمية أكثر من بضعة أسطر، بلا تداعيات عملية، حتى أن حكومة الإحتلال لم ترَ نفسها معنية بالتعليق عليها.
* في الوقت نفسه تًموِّه القيادة الرسمية على حقيقة، لا بل تتجاهل أن موضوع الخروج من أوسلو بالقضايا المتعلقة في الجانب السياسي بأقله، لا تحتاج إلى آليات وخطوات متدرجة وما شاكل ذلك، فكل ما تحتاجه هو اتخاذ قرار سياسي؛ إذ، كما تم الإعتراف بدولة الإحتلال في 9/9/1993 برسالة وجهت إلى رئيس حكومة تل أبيب آنذاك إسحق رابين، وأخذت المنظمة الدولية للأمم المتحدة علماً بها، يُمكن سحب أو تجميد وتعليق هذا الإعتراف برسالة مماثلة وفق آلية الإعتراف نفسها.
أما بشأن وقف التنسيق الأمني مع سلطات الإحتلال، فعلينا أن نتذكر أن اللجنة التنفيذية سبق لها وأن اتخذت قراراً مماثلاً في تموز (يوليو) 2017 إبّان هبّة القدس رداً على المس ببوابات الأقصى، دام لمدة ثلاثة أشهر، دون خطط متدرجة وآليات مسبقة، إستأنفت بعدها السلطة التنسيق الأمني مع قوات الإحتلال.
وبالتالي فإن اللجوء إلى تشكيل اللجان، تتلوها لجان، وحجز نتائج أعمالها في الإدراج، دون التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، إن عبَّر عن شيء، فهو يعبّر عن تردد في غير مكانه، وعن ضعف الإرادة السياسية لدى القيادة الرسمية، وإلى تغليب المصالح الفئوية والطبقية التي تراكمت على مدى ربع قرن من عمر أوسلو، على المصالح الوطنية لعموم الشعب الفلسطيني، وتغليب قرار مركز القرار الفعلي، على قرارات المؤسسة الوطنية، ما يقود بالتدريج، إلى تهميش هذه المؤسسة، وإفقادها موقعها في أعين الرأي العام، وكذلك في أعين الجانب الإسرائيلي، الذي بدوره، يزداد إستهتاراً بقرارات السلطة الفلسطينية وقيادتها، فينزع إلى مواجهتها بلامبالاة فاقعة.
(6)
أداء القيادة الرسمية.. الإرتجال
( أما الإرتجال، فقد تمثل بعدد من القرارات غير المدروسة التي تم اتخاذها من قبل حكومة السلطة ، في سياق العمل على الإنفكاك من التبعية للإقتصاد الإسرائيلي، ثم ما لبثت أن تراجعت عنها تحت ضغط سلطات الإحتلال وإجراءاتها، وبفعل غياب التخطيط المسبق لمواجهة ردود فعل حكومة إسرائيل):
* في شهر شباط (فبراير) 2019، أعلنت السلطة توقفها عن استلام أموال المقاصة من الجانب الإسرائيلي إحتجاجاً على اقتطاعه ما يقابل رواتب عائلات الشهداء والجرحى والأسرى (أي ما يساوي 144 مليون دولار سنوياً) بداعي أنها دعم للإرهاب. علماً أن إيرادات أموال المقاصة التي تجبيها سلطات الإحتلال من الضرائب على المواد المستوردة لصالح السلطة، ثم تعيد توريدها لها باقتطاع 3% مقابل الخدمات، تساوي 60% من إيرادات السلطة، وتغطي حوالي 85% من رواتب العاملين فيها.
إعتقدت السلطة أن إحجامها عن استلام أموال المقاصة من شأنه أن يضغط على دولة الإحتلال، وعلى الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، لإعادة كامل المبالغ، خوفاً من انهيار السلطة إذا ما توقفت عن تسديد رواتب موظفيها والعاملين فيها. كما اعتقدت السلطة أنها بلجوئها إلى الدول العربية يمكن لها الحصول على شبكة أمان مالية تحميها من خطر الإختناق المالي.
لكن ما حصل هو أن إسرائيل لم تبالِ بقرار السلطة، وأن الدول العربية لم توفر لها شبكة الأمان، وأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يضغطا على إسرائيل؛ ما أرغم السلطة على دفع أجزاء من رواتب الموظفين، وما أحدث في السوق الفلسطينية، وفي القطاع المصرفي الفلسطيني، أزمة سيولة وأزمة إقتصادية ومالية خانقة هددت بانهيار المنظومة، فوجدت السلطة نفسها بعد سبعة أشهر من الفوضى المالية والإقتراض من البنوك المحلية، مُضطرة للعودة عن قرارها المرتجل، والرضوخ للقرار الإسرائيلي ومعاودة استلام أموال المقاصة منقوصة.
وبذلك بدت السلطة هزيلة أمام الجانب الإسرائيلي، كما ثلم قرارها غير المدروس مصداقية سلاح المقاطعة، وقدمت مشهداً يكاد أن يوحي باستحالة الخروج من عباءة أوسلو وبروتوكول باريس الإقتصادي.
* أما التجربة الثانية فكانت مع قرار حكومة السلطة التوقف عن استيراد اللحم الحي (العجول) من إسرائيل. فمنذ العام 2016 توقفت السلطة عن تنويع وارداتها من اللحم الحي، وحصرته بالتجار الإسرائيليين، علماً أن إسرائيل تنتج فقط 10% من كمية العجول التي تصدرها إلى المناطق الفلسطينية المحتلة، وتستورد الباقي (90%) من الخارج، لتعيد تصديره إلى الجانب الفلسطيني.
مع قرار السلطة، أضرب المزارعون وتجار اللحوم الإسرائيليون وضغطوا على حكومتهم، التي ردت على الموقف الفلسطيني بتعطيل وعرقلة عمليات الاستيراد والتصدير الخاصة بالمناطق الفلسطينية، بما فيه الحجز على العجول التي استوردها تجار فلسطينيون من خارج إسرائيل؛ ما أحدث أزمة تجارية في مناطق السلطة طالت تجارة اللحوم، فارتفعت أسعارها مضاعفة، وأصيبت الزراعة الفلسطينية بأضرار. ولما لم توفر حكومة السلطة الحلول والمخارج لمثل هذه الأزمة عادت، بعد ثلاثة أشهر من الفوضى، إلى سياسة استيراد اللحم الحي (العجول) من إسرائيل، وتراجعت عن قرارها السابق.
* لقد كان بالإمكان التعاطي مع كلا الأمرين بطريقة مختلفة، لو أن السلطة تحوّطت مسبقاً للردود الإسرائيلية المتوقعة بالتشاور مع الدائرة الوطنية الأوسع، وبالإعتماد على وعي الحالة الجماهيرية، بعد التحضير اللازم. وكان بالإمكان الرد على قرار التلاعب بأموال المقاصة، الذي هو في الجوهر قرار سياسي يرمي أيضاً إلى النيل من الرمزية الوطنية العليا للشهادة ومغزاها، وللحركة الأسيرة ومثالها، كان بالإمكان الرد بقرار سياسي مقابل، كسحب الإعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، فمن شأن هذين القرارين أن يؤلما الجانب الإسرائيلي، وأن يُلحقا الأذى السياسي بسمعته ومواقفه في أعين الرأي العام، كما أن التنسيق الأمني من شأنه أن يُربك الخطط الأمنية الإسرائيلية. وهذا ما يدركه تماماً، كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية.
* على خلفية هذه التجارب المؤلمة وغيرها، يجدر التأكيد على مايلي: إن القرار السياسي في سياق عملية الإنعتاق من أوسلو ينبغي أن يسبق القرار الإقتصادي، فالقرار السياسي المتمثل بمجموعة من الخطوات المترابطة، بدءاً من إعلان إنتهاء المرحلة الإنتقالية وما ترتب عليها من إلتزامات، مرفقاً بإعلان بسط سيادة دولة فلسطين على كامل أراضيها المحتلة بعدوان 67 إستناداً إلى القرار الأممي الرقم 19/67، ومد ولاية القضاء الفلسطيني على كافة المقيمين على أراضيها، مروراً بسحب الإعتراف بدولة إسرائيل، وإنتهاءً بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، الخ..
* إن القرار السياسي هو المظلة التي يجري بحمايتها تطبيق آليات الخروج من أوسلو – الإقتصادي (بروتوكول باريس)، ما يسرى مفعوله على أموال المقاصة، والعملة الرسمية المعتمدة، وقضايا الإستيراد والتصدير، الخ.. علماً أن المظلة السياسية آنفة الذكر، تزداد مفاعيلها الحمائية بقدر ما تستند إلى وحدة داخلية، وتوعية شعبية، وخطوات إنتقالية جدية تستهدف إمتلاك المزيد من مقومات الإقتصاد المنتج، بديلاً من الإقتصاد الريعي التابع، المتحكم بأوضاعنا (مع بداية الحكم الإداري الذاتي عام 1994 كانت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي 12%، وانخفضت إلى 3% في العام 2018).
* إن خطورة ما تُقدِم عليه السلطة من خطوات غير مدروسة،تراكم لدى الرأي العام الفلسطيني إنطباعاً بالصعوبات الجمَّة التي تعترض طريق التحرر من إملاءات بروتوكول باريس الإقتصادي، ما من شأنه أن يشوِّه قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وأن يَحُطَّ من قدرها، ويعزز الإنطباع الخاطيء بعدم القدرة على تطبيقها في الوضع الراهن؛ فيكون المخرج – والحال هكذا – وكما تروِّج له أوساط معيَّنة في السلطة، هو اللجوء إلى التحكيم الدولي للحسم بأسلوب تطبيق أوسلو- الإقتصادي، أو اللجوء إلى تدخل الدولة المضيفة والراعية لبروتوكول باريس، أي فرنسا، أو حتى تعليق الحل على سياق المفاوضات الثنائية، ما أن يُستأنف مسارها(!).
إن هذه المفاعيل والتداعيات ليست مقصودة من السلطة، لكنها قائمة موضوعياً، أي بمعزل عن إرادة أيٍ كان. ومع ذلك فإنها تُقدِّم للسلطة ما يبرر لها سياستها الانتظارية الحائرة، ويبرر لها سياسة الإكتفاء بالإعتراض والرفض الإعلامي بانتظار غودو الذي لا يحضر، والمفاوضات التي لا تأتي، وتطور ما في المعطيات الخارجية التي لا تملك السلطة أصلاً القدرة على التأثير الفعلي فيها .
(7)
من أجل إعادة بناء الحركة الوطنية،
وإصلاح النظام السياسي
* كل ما يتحقق على الأرض يؤكد أن دولة الاحتلال، تحت سقف صفقة القرن إمتداداً لأوسلو، والاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، مازالت تدير العلاقة مع سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، وكأن المرحلة الانتقالية هي السائدة، لكنها، في الوقت نفسه تعمل في الميدان، على بناء وقائع متراكمة، تؤدي إلى تحويل أي مفاوضات – إن إنعقدت - إلى مجرد إملاءات على الجانب الفلسطيني.
وبذلك يمكن التأكيد أن اتفاق أوسلو، الأصل الذي تحدَّرت منه صفقة القرن، أوسلو تحوَّل إلى مجرد غطاء سياسي للخطوات الإسرائيلية الأحادية، ولإجراءات فرض الحل الدائم من جانب واحد، باعتباره بات أمراً واقعاً. وبالتالي، فإن الرهان على استئناف المفاوضات في الوضع الحالي خارج صفقة القرن، ما هو إلا وهم سياسي وإنكار للحقائق وللواقع.
* إن النظام السياسي الفلسطيني، الذي أعاد بناء نفسه بشكل خاص بعد إنتهاء الإنتفاضة الثانية، ليتعايش بخطوطه العريضة مع استراتيجية أوسلو، بما فيه تبني المفاوضات خياراً سياسياً معتمداً للحل مع دولة الإحتلال، وإن دون الخضوع لشروط إسرائيل؛ هذا النظام باتت تظهر علامات التآكل على بناه، وأضحت تنعكس على أدائه اليومي أكثر من أي وقت مضى.
إن النظام السياسي الفلسطيني يعيش حالة إنقسام ألحقت بالقضية الوطنية أضراراً فادحة، في ظل فشل الطرفين الرئيسين، فتح وحماس، وفشل باقي القوى الفلسطينية، والتدخلات الإقليمية في إنهائها، فتحوَّل الإنقسام إلى واقع مفروض على الشعب الفلسطيني وعلى قضيته الوطنية، وأعاد صياغة معادلاتها باعتبارها صراعاً بين سلطتين، تكيَّفت أوضاعهما، في ظل إحتلال واستعمار استيطاني لا يقيم أي اعتبار لقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي ومباديء حقوق الإنسان، ونجح إلى حد كبير في استغلال حالة الإنقسام لصالحه، من أجل تهميش القضية الوطنية.
* كما أن المؤسسات الوطنية باتت مُغيَّبة، إما بفعل حلها، كالمجلس التشريعي، أو إنتهاء ولايتها كالمجلس الوطني، أو تحت وطأة سياسة التهميش المتعمَّد، كاللجنة التنفيذية، التي تحوَّلت إلى مجرد هيئة تشاورية، على هامش مركز إتخاذ القرار، الذي يقع في مكان آخر.
وبالتالي بات من الملح، صوناً للقضية وانتصاراً للحقوق الوطنية، إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، ما يجعل تنظيم الإنتخابات الشاملة في السلطة و م.ت.ف، أحد المداخل الديمقراطية الرئيسية لإخراج الوضع الفلسطيني من مأزقه، وفك إرتباطه بأوسلو، لصالح إعادة تبني استراتيجية التحرر الوطني بقيادة جبهة وطنية متحدة (أي م.ت.ف ذات التمثيل الوطني الشامل)، مسلحة ببرنامج سياسي مشترك.
* لابد من التأكيد، على ضرورة إعادة بناء الحركة الوطنية نفسها، التي تجاورت في معادلة تداخل وصراع، لأكثر من ربع قرن مع إتفاق أوسلو، ومع نظام سياسي فرضت وجوده – إلى حدود لا يمكن إنكارها - آليات الاتفاق، كما فرضت آليات عمل النظام السياسي المتكيِّف – إضطراراً - مع قيود والتزامات أوسلو. ولا مبالغة في القول، إن معظم أطراف ومكونات الحركة الفلسطينية، تأقلمت أوضاعها مع ضرورات أوسلو، والتزاماته. ولم يخرج عن سياقها - نسبياً ، وبالحد الأدنى من الأضرار ـ سوى القوى المعارضة بشكل جدي لمنظومة أوسلو، التي لم تنخرط بشكل جدي في هذه المنظومة، وإن تأثرت بتداعياتها.
* إن إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، عملية تطال البرنامج الوطني، وطبيعة المؤسسات الوطنية المكوِّنة لهذا النظام، وآليات عملها، وآلية العلاقات الداخلية بين فصائل العمل الوطني، وبينها وبين النظام السياسي من جهة، والحركة الجماهيرية، من جهة أخرى.
هذه عملية ذات مضمون تاريخي، يفترض أن تشكل منعطفاً في المسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني، وبدون وعي هذه العملية وضروراتها، وأبعادها، وتداعياتها، والبدائل التي ستفرض وجودها ميدانياً، ستبقى الخطوة ناقصة، وستبقى حالة الدوران مستمرة في الحلقة المفرغة، ونتيجتها المزيد من التآكل في النظام السياسي، دون أن يعني ذلك تآكلاً في المشروع الوطني، الذي وإن شكل النظام السياسي حامله، ومن هنا تأثيره، فإنه لا يلغي واقع تأصل هذا المشروع في قلب حركة الشعب، التي بوسعها دائماً، وإن بمشقة، أن تنتج النظام السياسي الأكثر إنسجاماً مع متطلبات المشروع الوطني، والأكثر تلبية لاحتياجاته؛ فحركة الشعب، كما كانت، ستبقى دائماً ولاّدة.
* إن كلمة السر في هذا كله، هي في إحداث النقلة التاريخية، البرنامجية، والمؤسساتية للخروج من أوسلو، وبالتالي من دائرة الخطر التي تمثلها صفقة القرن، نحو تبني استراتيجية المواجهة بكل أشكالها في الميدان، وفي المحافل الدولية. إن المواجهة التي ندعو لها، تكون بدايتها الإلتزام بما قررته دورات المجلس المركزي والدورة 23 للمجلس الوطني، كما وتصعيد المواجهة في الميدان إنسجاماً مع النهوض الوطني المتجدد منذ خريف 2015، الذي افتتحت فصوله المتعاقبة إنتفاضة الشباب.
إن إنجاز هذا كله يعيد تقديم قضيتنا الوطنية باعتبارها قضية شعب يرزح تحت الإستعمار الإستيطاني، ويناضل من أجل حقه في تقرير المصير، بقيادة حركته الوطنية،من أجل الاستقلال والحرية والعودة، ما من شأنه أن يستنهض الحركة الجماهيرية، في المقاومة الشعبية الشاملة، ويحاصر السياسة الإسرائيلية، وأن يستعيد لصالح القضية الوطنية التأييد الواسع للحركة الشعبية العربية، والقوى التقدمية والمحبة للسلام في العالم■
فهد سليمان
نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت