كنت أول المشاركين في مسيرات العودة عندما كانت تعبر عن الرسالة الوطنية الجامعة , وهدفها تثبيت الحق في العودة أمام الرأي العام والمجتمع الدولي ووسائل الإعلام , وأيضاً أمام إسرائيل التي تبعد أمتار عن المسيرات , وكنت سعيداً بحجيج الناس الى هناك , لأن المظهر كان لا يختلف عن مظهر أسواق غزة في ليالي العيد , حتى تمنيت أن تكون كل حدود غزة عبارة عن أسواق وأماكن عامة , بهدف إحيائها بعدما كانت محذورة من إقتراب المزارعين والملاك.. ولكن بعد ما أضيف لها عنوان آخر وهو "كسر الحصار" , وجدت نفسي في صفوف المعارضين لها , ليس إعتراضاً على كسر الحصار , إنما إعتراضاً على أن تتحول أرواح الناس وعظامهم المكسورة , وأقدامهم المبتورة , وإعاقاتهم , كأدوات لكسر الحصار , والأغرب من ذلك أن الهيئة الوطنية العليا كانت تتلاعب في الألفاظ كثيراً , وسط حالة تناقض واضحة , فكانت تطلق أسمائاً رسمية على خشونة وعسكرة المسيرات , مثل : جمعة الكوشوك , جمعة البالونات الحارقة , جمعة الأطباق الحارقة , جمعة الإرباك الليلي , جمعة الإقتحامات...إلخ , فهذه المسميات هي إعلان رسمي من الهيئة بأن المسيرات ليس سلمية , وأنها ساحة حرب , وهذا بالطبع يتطلب مزيداً من تضحيات الناس , وفي الوقت ذاته كانت الهيئة تصرح في وسائل الإعلام بأن المسيرات سلمية , وأنها تحرص على حياة الموطنين , فأي تناقض هذا!!
بالأمس كانت الجمعة الأخيرة لمسيرات العودة في هذا العام , ولكنها ليس حفلة الوداع الأول ولا حفلة الوداع الأخير , فالوداع الأول بدأ بعد عدة شهور من إنطلاقها , وتمثل في وداعها جماهيرياً , حيث قل عدد الناس تدريجياً حتى وصل الى أقل من ألف مشارك في كل نقطة من النقاط الخمس , والسبب هو أن الناس بعفويتهم وفطرتهم إكتشفوا قواعد اللعبة , إكتشفوا أن عظامهم المكسورة ستكون ورقة رابحة على طاولة المساومات , ولذلك تحول الشكل العام للمسيرات , من الشكل الجماهيري الى الشكل التنظيمي , وإقتصر على مجموعات شباب لإفتعال الأدوات الخشنة , ومجموعات شباب مراهقين ومنظمين أيضاً , والنساء المنظمات أيضاً , وبهدف الحفاظ على الوجود الإعلامي للمسيرات , من خلال هذه المجموعات .
أما حفلة الوداع الأخيرة لمسيرات العودة فستكون تدريجية بحسب الإتفاق , فالعام القادم سيكون لها شكل رمزي , وفي كل شهر مرة , وبعد غياب ثلاث شهور متتالية , والعام الذي يليه ستقتصر على المناسبات الوطنية , مثل يوم الأرض ويوم النكبة ويوم النكسة , وقد تعمدت حركة حماس إتباع هذه الآلية من الوداع , ومعها باقي الفصائل "مضطرة" , لهدفين مهمين بالنسبة لها , الأول أنها لا تريد أن تشعر الناس بأنها حرقت كرت مسيرات العودة نهائياً , بعد ما حققت كسباً مادياً لها , فهي لا تريد أن يكون غياب المسيرات المفاجئ صدمة للناس , وخاصة أنهم دفعوا الثمن غالياً فيها , وثانياً هو أن العام القادم سيكون العام الحاسم للتطبيق الفعلي للتسوية بين حماس وإسرائيل , ولذلك فوجود مسيرات العودة كل شهر مرة , سيتيح الفرصة لحماس أن تستأنفها كالسابق وقتما تشاء , وخاصة إذا تنصلت إسرائيل من إتفاق التسوية كعادتها , وهذا سيحدث إذا اطلقت فصائل المعارضة على التسوية صواريخها على إسرائيل .
ضغطت قطر والمخابرات المصرية بقوة على حماس من أجل إنهاء مسيرات العودة , وخاصة بعد أن إلتزم الجهاد الإسامي أمام المخابرات المصرية , أن لا يضايق حماس في مشروع التسوية , وذلك مقابل تسهيل الحركة للقاده بهدف التواصل مع الخارج , وبالفعل إلتزم الجهاد الإسلامي بذلك , ولكن حماس أذكى من أن يجري لعابها بسهولة وتوافق على كل شيئ بسهولة , ولذلك إحتفظت بكرت المسيرات بشكلها الرمزي للعام القادم والعام الذي يليه , حتى يمكنها العودة للمربع الأول متى تشاء .
اشرف صالح
كاتب صحفي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت