إن إعلان المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية لاهاي، السيدة فاتو بنسودا نيتها فتح تحقيق شامل بخصوص جرائم حرب محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو قرار هام جدا للفلسطينيين بشكل خاص، وللعدالة الدولية بشكل عام. هذا القرار الذي جاء نتاجا لحراك دولي مكثف بدأ منذ سنوات من قبل مؤسسات المجتمع المدني ومن بعدها السلطة الفلسطينية وبعثاتها الدبلوماسية وممثليها في الأمم المتحدة. تطور ذلك، بالذات بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 من عام 2012 بموجبه أصبحت فلسطين دولة بصفة مراقب غير عضو، بدل كيان غير عضو في الأمم المتحدة، الأمر الذي أتاح لها التوقيع على معاهدات واتفاقيات دولية، وهو ما فعلته بخصوص التوقيع على نظام روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية وذلك عام 2014.
لا بد من النظر إلى القرار الصادر عن المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية على أنه محطة مهمة في حلبة الصراع الدائرة في المحافل الدولية بين ممثلي الشعب الفلسطيني من السلطة الفلسطينية ومنظمات حقوقية ومجتمع مدني وجهات أخرى مناصرة للشعب الفلسطيني في حقه بتقرير مصيره من جهة، وبين إسرائيل ومناصريها وبالدرجة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية.
ما يزل الطريق طويلا لتحقيق إنصاف دولي عادل للقضية الفلسطينية ومعاقبة مجرمي الحرب وكل من تاَمر على شعبنا، فالإجراءات المترتبة على هذا القرار قد تطول، مثلما طالت حتى قررت المدعية العامة لاتخاذ هذا القرار 4 سنوات. كما وقررت المدعية الطلب من الدائرة التمهيدية في المحكمة اللبت في الاختصاص الإقليمي في جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، والتي من المفروض أن تعطي رأيها القانوني خلال 120 يوما، يمكن تمديدها لـ 60 يوما إضافيا، وبعدها يكون التحقيق الفعلي للمدعية العامة وفريق العمل المرافق لها ومرحلة الاستماع للضحايا والشهود والملفات العينية، حتى تقتنع بأن هذه الملفات ملائمة لتقديم مرتكبي الجرائم للمحاكمة. لكن ذلك يترتب ايضا على تجاوز محطات أخرى من الإجراءات والامتحانات القانونية وذلك ايضا طريق طويل، ولكن المهم، بل الأهم في القرار هي الضربة الموجعة للشرعية الدولية التي تعمل عليها إسرائيل منذ نشأتها؛ هذه الشرعية التي تتأثر بالأحداث الدولية والإقليمية والمحلية، فترات في تصاعد وأخرى في هبوط، وهذا القرار، ودون الدخول في تفاصيله وتبعاته القانونية، إلا أن السطر الأخير فيه هو أن إسرائيل مشتبهة أنها ارتكبت جرائم حرب، وهذا بحدّ ذاته خطوة غير مسبوقة، ذات وزن وأهمية!!
إن قرار المدعية العامة بنسودا يتمثل في أن جرائم ارتُكبت أو ترتكب في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل والقدس الشرقية وقطاع غزة دون تحديد طبيعة الجرائم المحتملة التي تنوي التحقيق فيها، ولكن معروف أنها في السنوات الأخيرة ركزت على قضايا بناء المستوطنات والعمليات العسكرية في قطاع غزة المحتل وسياسات القمع والتضييق ضد سكان القدس المحتلة. عمليا يعتبر قرار بنسودا وقرار قضاة الدائرة التمهيدية بإعطائها الضوء الأخضر للمباشرة في التحقيق وإخضاع هذه المناطق لولايتها أمر في غاية الأهمية القانونية، وتحديات هذا القرار تكمن في أن هذه المناطق محتلة، وبسبب النزاعات القانونية الخاصة كون لا حدود واضحة أو سيادة على هذه الأراضي من قبل السلطة الفلسطينية، يجعل الأمر معقدا قانونيا، بالذات ان اسرائيل ليست عضو طرف لمعاهدة روما. مسألة معالجة الاختصاص الإقليمي تسعى لتوفير جهود التحقيق والبت من الاصل بأهم الاسئلة وهو الاختصاص وكانت قضية وقرار مشابه قد صدر مؤخرا عن المحكمة الجنائية الدولية في ما يتعلق بالجرائم التي تحدث في ميانمار. فقد أقرت محكمة قضاة الدائرة التمهيدية الثالثة بالمحكمة الجنائية الدولية "وجود أساس معقول للاعتقاد بأن أعمال عنف واسعة النطاق و/ أو منهجية قد تكون ارتكبت ويمكن اعتبارها جرائم ضد الإنسانية، بما فيها الترحيل عبر الحدود بين ميانمار وبنغلاديش"، بالإضافة إلى "الاضطهاد على أساس العرق و/ أو الدين ضد السكان الروهينجا، بعد حملة قمع بقيادة الجيش، وعمليات قتل واسعة النطاق واغتصاب وحرق قرى، فرّ ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون روهينجي من ولاية راخين في ميانمار في آب/ أغسطس 2017 واستقروا في مخيمات مزدحمة للاجئين في بنغلاديش المجاورة".
بالمقابل لا تستطيع إسرائيل الدفاع عن هذا القرار بالتصريحات السياسية والضغوطات الدبلوماسية فقط، ولن تستطيع مقاطعة المحكمة كما فعلت في قضية جدار الفصل العنصري عام 2004، وبالتالي صدر قرار يدين إسرائيل. وهو ما كتب عنه القاضي باراك رئيس المحكمة العليا في إسرائيل حينها قائلا إن اسرائيل أخطأت بعدم الدفاع عن نفسها، وكان يمكن أن تتغير النتيجة، وعليه كتب قرارات عدة حاول فيها مناقشة قرار محكمة العدل الدولية بخصوص قانونية الجدار وإضعافه من حيث السند القانوني، لذلك الأمر هنا يحتم عليها التعامل بجدية مع قرار المدعية العامة بنسودا والقرار المتوقع إصداره من محكمة الجنايات بخصوص الاختصاص الإقليمي. لذلك سارع المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية أفيحاي مندلبيت بضربة استباقية بإصدار فتوى قانونية تعبر عن الموقف القانوني لإسرائيل، وهو الادعاء أن محكمة الجنايات الدولية لا تملك الاختصاص للنظر في هذه القضية لأسباب قضائية قانونية وهي أن السلطة الفلسطينية لا تتمتع بصفة الدولة، كما أن إسرائيل دولة فيها مكانة لسيادة القانون وملتزمة بالمعايير والمواثيق الدولية الإنسانية.
كما ونرى أن بعض المختصين في القانون الدولي من أكاديميين وناشطين إسرائيليين بدأوا يرسمون خط الدفاع أمام القرار المحتمل من محكمة الجنايات، وهو أن اتفاقية أوسلو قد تنقذ إسرائيل من هذه الإجراءات، لأن من المعايير المهمة لمباشرة التحقيق في جرائم الحرب استنفاذ "القضاء المكمل"، وأحد بنود اتفاقية أوسلو يعطي الجانب الإسرائيلي فقط حق التحقيق الجنائي والمقاضاة، والادعاء أن إسرائيل تفعل كل ما يلزم وفقا للمعايير الدولية من تحقيق ومقاضاة في حال كانت هناك شبهات لخروقات. في نظام روما هناك المادة 17 تتعلق بالمسائل المتعلقة بالمقبولية للدعاوى، وعلى ما يبدو فإن الطرف الإسرائيلي يستند لتفصيلات هذا البند. بالمقابل يملك الطرف الفلسطيني الرد على هذا الادعاء بأن القضاء الإسرائيلي منحاز وغير نزيه، وكذلك لجان التحقيق التي يشكلها الجيش غير مهنية وغير شفافة ويتم انشاءها لتفادي التحقيق والمحاكمة الدوليين.
واضح أن المعركة ستتحول إلى قضائية في أروقة الجنايات الدولية، وكل طرف استعد لهذه المرحلة من سنوات، فإسرائيل منذ أكثر من 10 سنوات تعمل في منظومة فيها مستشار قانوني مختص في القانون الجنائي الدولي والإنساني وملم في اتفاقيات جنيف، يعطي فتواه القانونية قبل أية عملية عسكرية، وقد وضع نظام تحقيق خاص للخروقات، ويمكن الاضطلاع على كيفية التعامل مع تقرير جولدستون وما وفرته إسرائيل في الرد على ما صدر عن التقرير، والإجراءات التي اتخذتها لتجنب المساس بالمدنيين العزل.
ان قرار المدعية مهم كما ذكرت سابقا، وعليه فإن على السلطة الفلسطينية عدم تفويت الفرصة لاستثمار هذا القرار في كسب النقاط وتوفير الإمكانيات للمتضررين من جرائم الاحتلال في تقديم شكواهم، مع العمل التنسيقي والتراكمي لدى الجمعيات الحقوقية التي جمعت آلاف الشهادات ووثقتها. كما وعليها عدم الانصياع للضغوطات الاسرائيلية-الامريكية القادمة في هذا الصدد. كما ويشكل كل ذلك فرصة لترتيب أوراق البيت الفلسطيني الواحد، والتقدم بخطوات سريعة نحو الوحدة، وطي صفحة الانقسام، لأنه أكبر ورقة قد تستغلها إسرائيل في إضعاف الملف أمام محكمة الجنايات الدولية، لأن الطريق ما زال في البدايات من حيث الإجراءات القضائية، الأمر الذي يحتاج نفسا طويلا ووحدة وطنية غير خاضعة للضغوطات الدولية التي ستمارس على شعبنا الفلسطيني بفصائله المختلفة.
عمر خمايسي، محام
مدير مؤسسة ميزان لحقوق الانسان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت