لم يتوقف الصهاينة منذ عام 1994 عن استعمال أموال المقاصة (الضرائب والجمارك التي تجبيها بالنيابة عن السلطة الفلسطينية كحبل مشنقة على رقاب الشعب الفلسطيني. توقف الصهاينة مرارا وتكرارا عن تحويل هذه الأموال إلى السلطة الفلسطينية كنوع من الضغط من أجل أن تلبي السلطة بعض المطالب الصهيونية بخاصة فيما يتعلق بالأمور الأمنية. وكان الصهاينة يجدون دعما ومساندة وتأييدا من قبل الإدارات الأمريكية التي شاركت دوما بممارسة الضغوط على الفلسطينيين واستعدائهم. ولهذا كانت تمر السلطة وما زالت بأزمات مالية تجسدت غالبا في تأخير الرواتب أو التوقف عن صرفها لأشهر.
والصهاينة كما الأمريكيون مدوا قدرتهم الضاغطة على الفلسطينيين إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية. بعض الأموال التي سمح الصهاينة والأمريكيون للفلسطينيين ألحقت اضرارا جمة بالشعب الفلسطيني بخاصة تلك المتعلقة بالأمور الأمنية، لكن إجمالا يبقى الراتب أساسيا لمعيشة مئات آلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
مؤخرا، قرر الصهاينة اقتطاع حوالي خمسة وأربعين مليون دولار من أموال المقاصة والخاصة برواتب أسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين، على اعتبار أن الشهداء والأسرى إرهابيون وأسرهم تتحمل المسؤولية. في حين كان يجب على الفلسطينيين أن يروجوا في العالم أن الاحتلال بحد ذاته إرهاب، ومن مسؤولية العالم أن يقف في مواجهة الإرهاب الصهيوني وداعميه الأمريكيين. وهذا امتداد لسلوك الصهاينة الإجرامي بحق الشعب الفلسطيني. ولو كان الهواء تحت سيطرة الصهاينة لأوقفوا ضخه إلينا. يجب ألا نستبعد أي سلوك حقير ومنحط من قبل الصهاينة ضدنا، وعلينا أن نتسلح دائما بالحذر الشديد من ممارسات الصهاينة في مقبل الأيام، وعلينا ألا نتوقع منهم الخير، بل الأسوأ، ودائما علينا أن نستعد للأسوأ.
قال رئيس الحكومة الفلسطينية غير الشرعية القائمة حاليا إن عمل الصهاينة يشكل جريمة حرب. نحن بالتأكيد متفقون على إجرام الصهاينة، لكن السؤال يبقى يحوم حول من هو الأكثر إجراما: هل هو الصهاينة الذين لا يتوقفون عن اعتداءاتهم علينا، أم الفلسطيني الذي وثق بهم ووقع معهم اتفاقيات مشينة ومذلة مثل اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي دون أن تستوقفه التبعات؟ الفلسطيني هو الذي ورط الشعب الفلسطيني باتفاقيات فتحت الأبواب امام إجرام أكثر حدة وشدة ضد الشعب الفلسطيني، ومنحت الصهاينة حرية الحركة في الاستيطان ومصادرة الأراضي وشل الإرادة الفلسطينية. وإذا كان للشعب الفلسطيني أن يحاسب فعلية محاسبة المسؤولين الذين ورطوه قبل أن يحاسب العدو الذي لا مفر يعمل بما يراه لصالحه. والمشكلة ليست في العدو الذي يخدم أهدافه وإنما في الفلسطيني الذي قرر خدمة أهداف العدو. وعلى الرغم من تغول الاحتلال المستمر ضد الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من كل الممارسات التي من شأنها تصفية القضية الفلسطينية يبقى المسؤول الفلسطيني وفيا لاتفاقية لم تجلب على الفلسطينيين سوى المزيد من الخراب والدمار.
ومن المعروف أن رئيس الوزراء غير الشرعي الموجود حاليا كان من أكبر المتحمسين لأوسلو وأهل أوسلو.
من هو العاقل في الأرض الذي يضع لقمة خبز شعبه بيد عدوه فيضع أموال المقاصة تحت إرادة الصهاينة غير المسؤول الفلسطيني؟ ولماذا تكون هناك مقاصة أصلا؟ لقد أجرم المسؤولون بحق الشعب الفلسطيني، وبدل أن يبادروا إلى إعادة النظر بكل ما صنعوه من ورطات للشعب الفلسطيني يمعنون في الاستمرار في غيهم السياسي والوطني. وبدل الهرولة إلى المؤتمرات والمحاكم الدولية، علينا أن نراجع مختلف أوضاعنا الوطنية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والتربوية لكي نصحح مساراتنا عسانا بعد ذلك نتمكن من مواجهة ممارسات العدو العدوانية. مطلوب من المسؤولين الفلسطينيين الذين تنقصهم الشرعية والتمثيل الحقيقي للشعب الفلسطيني أن يعترفوا بما اقترفوه من خطايا بحق الشعب الفلسطيني ويغادروا المسرح فاسحين المجال لضخ دم جديد في عروق الشعب الفلسطيني. لقد فشلوا فشلا ذريعا إن كانوا في الأصل يبحثون عن نجاح، وعليهم إنهاء هذا الفشل بالرحيل. ومن فشل على مدى هذه السنوات الطويلة لا يمكن أن يأتيه وحي العقلانية والتدبير العلمي والهمم العملية وروح الانتماء الحقيقية.
هناك إدراك قوي بأن الخروج من الاتفاقيات مع الصهاينة ليس عملية سهلة، وهو سيواجه الكثير من العراقيل، وسيكلف الفلسطينيين الكثير من التضحيات في الأنفس ونقص في الأموال وتشديد في الحصار. لكن عملية الخروج من الاتفاقيات أقل تكلفة من البقاء عليها. البقاء على الاتفاقيات يكلف الشعب وطنا لأن الاتفاقيات صنعت البيئة المناسبة لتصفية القضية الفلسطينية وتشتيت الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض زيادة على ما هو موجود من تشتيت. وقد سبق أن قيل للناس قبل توقيع اتفاق أوسلو إنهم سيخسرون وطنهم وسيخسرون أنفسهم إن وقعوا اتفاقيات مع عدوهم. هام الناس بعد أوسلو في أوهامهم ظانين أن ما قاله السياسيون حول إقامة الدولة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين وتطور سنغافورة جديدة وصفقوا لحتفهم الوطني وانتهاك محرماتهم. الاتفاقيات تكلف الشعب وطنا، أما الخروج منها فيكلفنا التضحيات الجسام التي لا يمكن أن تتساوى مع جريمة تصفية القضية وإلغاء الوطن.
عبد الستار قاسم
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت