يتناسى الحكم في الأردن بأن الرجوع عن الخطأ ، و إن كان في جوهره فضيلة ، إلا أنه في واقعه السياسي قد لا يعني التغيير نحو الأفضل . فالتغيير يكون في العادة تغييراً في النهج وليس رشوة للمواطن من خلال قرارات اقتصادية تخفف من قسوة و جبروت قرارات حكومية سابقة خاطئة أو ظالمة ضربت عرض الحائط بقوت المواطن وقدرته على تلبية متطلبات الحياة لصالح مفهوم الجباية وتمويل الفساد وتعزيز تسلط الدولة على جيوب المواطن ، والى الحد الذي أوصل المواطن الأردني الى حافة الإنهيار والسقوط واليأس من المستقبل . وقد شكلت هذه الحالة الأرضية الخصبة للإحتمال القوي لتكرار ما جرى ويجري في أقطار عربية مجاورة للأردن .
بصراحة كاملة فإن جُلَ ما نراه ونسمعه مؤخراً من اجراءات حكومية وتوجيهات سامية بعمل هذا وعمل ذاك إنما تعكس ردة فعل لما يجري في دول محيطة بالأردن من ثورات مطلبية ، ومحاولة هجينة لتفادي أية آثار ممكنة لتلك الثورات على الأردن خصوصاً وأن الأسباب الموجبة لها متماثلة بشكل ملحوظ بين تلك الدول والأردن . فهذه الإجراءات والسياسات لا تأتي مثلا كترجمة لمخطط متماسك لتفعيل وتنشيط الإقتصاد ووقف ومحاسبة الفساد وتبني نهج التنمية عوضاً عن الجباية ، بل تأتي من خلال مفهوم الفزعة وعلى قاعدة الخشية من الغضبة الشعبية . إذاً الخوف والخشية هي مفتاح تغيير شكلي في السياسات وليس أي شيء آخر ، وهنا يكمن التخوف والحذر مما هو آتٍ.
إن قراءة متأنية للخارطة السياسية المحلية في الأردن تؤكد أن النظام قد نجح على مدى العقود الماضية في إعادة تشكيل المجتمع الأردني على مقاسه وبما يناسب حاجاته ومتطلباته ، وبشكل جعل من هذا المجتمع امتداداً للنظام عوضاً عن كون النظام امتداداً للمجتمع وتجسيدا لإرادته . أما على مستوى المجتمع السياسي فقد نجح النظام في الاستيلاء عليه بشكل يكاد أن يكون كاملاً والى الحد الذي مَكنَهُ من خلق المعارضة من خلاله وخلال مؤسساته تماماً كما نجح في خلق الموالاة المطلقة التي لا تسمح بالنقد إلاّ ضمن الحدود التي يسمح بها النظام . وأصبح الولاء المطلق هو التعبيير عن الهوية الوطنية بل عن المواطنة نفسها و عن الحقوق المرتبطة بها . وعلى هذا الأساس ، من الخطأ الافتراض أن هنالك سياسات مبعثها جهات أخرى في الدولة الأردنية . فالنظام أصبح منبع كل السلطات و السياسات وهو بالتالي مسؤول عن نجاح أو فشل تلك السياسات . الخطأ أساسه النظام تماما كما أن الصواب قد يعود الى موافقته أو عدم ممانعته . إن هذه الحقيقة تُنافي المبادئ الواردة في الدستور الأردني ولكنها تبقى مع ذلك هي الحقيقة مهما كانت مُرَّة . وربما يكون هذا الواقع الشاذ هو أساس مطالبة معظم الأردنيين بتفعيل دستور عام 1952 .
تحرر ارادة الشعب الأردني واستقلالية المعارضة عن نفوذ النظام وقبضته الأمنية أو مكافآته وإغراآته المادية هي أساس التغيير . وما دام الجسم السياسي الأردني يطمح الى الوصول للمركز السياسي أو المكاسب الوظيفية والاجتماعية و المادية ، وما دام عبداً للألقاب ، فإن سمات التغيير سوف تبقى محصورة بإرادة النظام ، وإذا ما استمر هذا الحال واستمر النظام في ممارساته تلك و في التلاعب بمقدرات البلد تنفيذاً لرؤيته ورغباته، فإن بذور الانفجار و التي قد يكون مبعثها يأس الشعب من قياداته السياسية وقدرتها على فَرضِ التغيير، سوف تنمو الى مداها الخطر.
اللعب بالكلمات ودغدغة العواطف هي وسائل تخلو من الشر وإن كانت لن تؤدي بالضرورة الى الخير . أما اقتناص عواطف المواطنين الوطنية واستغلالها من خلال نشر اشاعات عن أخطار خارجية قادمة بهدف تحويل انتباه الأردنيين عن أخطار حقيقية داخلية وتحديات يومية لصالح تلك الأخطار الوهمية هي عملية لا تخلو من الخطورة . فهي ستؤدي الى ابتزاز عواطف المواطنين وتحفيزها في اتجاهات وهمية مما سيفسح المجال أمام المسؤولين الفاسدين والانتهازيين لممارسة المزيد من التسيب والفساد واستمرار النهج السابق في مساره الذي أوصل البلاد والعباد الى ما وصلوا إاليه من بؤس وانهيار وفساد ومديونية .
فالنظام مثلا ما زال يتجاهل الدعوة الوطنية لرفض وإلغاء اتفاقية الغاز مع العدو الإسرائيلي ويمضي قدما في تنفيذها ، ويعطي التسريبات في الوقت نفسه عن تأزم العلاقة مع ذلك العدو ويلوح بأن إسرائيل تنتهج سياسات وتمتلك نوايا عدائية تجاه الأردن بينما الواقع يشير الى عكس ذلك . فتوقيع اتفاقية توريد الغاز تشير في الحقيقة الى مدى متانة وقوة العلاقات الخفية بين نظامي الحكم في الأردن وإسرائيل ومدى قدرتهما على التعاون لتجاهل وتجاوز الموقف الشعبي الأردني المعارض لتلك الاتفاقية ، وهي في أصولها وبنودها وشروطها منسجمة تماماً مع المصالح الإسرائيلية . وبالرغم من كل ذلك ، فإن الحكم في الأردن ما زال يلوِّح من خلال بعض أدواته بخطر الوطن البديل والحلول القادمة على حساب الأردن متجاهلاً أن مصدر هذا الخطر هو اسرائيل وليس الفلسطينيين الذين لا يملكوا من أمرهم شيئاً كونهم هم الضحية الحقيقية لكافة الإجراءات الاسرائيلية .
لماذا لا يتخذ الحكم في الأردن مثلاً موقفاً واضحاً ومُعلناً من إسرائيل تجاه تلك الأخطار خصوصاً وأنه يرتبط معها بإتفاقية سلام ؟ والحكم في الأردن يضع بذلك مصداقيته على المحك مادام يتعامل مع اسرائيل بطريقة انتقائية كصديق وحليف حيناً وكمصدر خطر على مصالحه حيناً آخر ، علماً أن خطر إسرائيل يجب أن لا يكون انتقائياً أو موسمياً لأنها تبقى هي الخطر الدائم والداهم على مصالح الأردن .
و هكذا ، فإن الهجمة المضادة التي يشنها النظام في الأردن على شعبه تهدف الى محاولة الإحتواء وليس الإصلاح أو التغيير . والاستعانة بأخطار خارجية قد تكون وهمية وقد لا تكون ، تبقى في سياق سياسة الإحتواء ، وليس انعكاساً لنهج وطني يهدف الى خلق فزعة حقيقية للوطن .
يسعى الحكم في الأردن إلى تعظيم إنجازاته مهما قَلَّت أو تواضعت ، والى تجاهل أخطاءه وكبواته مهما كبرت أو عظمت . وهذا المسار من شأنه أن يخلق أجواءً ضاغطة من الأكاذيب والأوهام التي تدفع بالعديد من الأردنيين الى الشك والرفض لما يجري بل والغضب منه مما قد يساهم في توسيع قاعدة المعارضة بين أوساط الأردنيين.
ولم يقف الأمر عند ذلك ، فالحكم ابتدأ في استعمال القليل من الانجازات مثل عدم تجديد اتفاقية تأجير الباقورة والغمر كغطاء لتمرير سياسات وقرارات لا يقبل بها الشعب . ان قيام أي مسؤول أو حاكم بواجبه في حماية الوطن ومَصَالِحِه يجب أن لا يتم التعامل معه من منظور مطالبة الشعب بإعطاء ذلك المسؤول أو الحاكم في المقابل صك غفران على أخطائه المتكررة فقط لأنه قام أحيانا بواجبه المطلوب منه ، إذ لا شكر على واجب . الشفافية والمحاسبة أمران لا يمكن مبادلتهما بشيء آخر من المفترض القيام به أصلاً كجزء من واجبات ومسؤوليات الحاكم ، وإلغاء اتفاقية تأجير الباقورة والغمر تأتي في هذا السياق ولا يجوز تكرار استعمالها واستغلالها بإعتبارها انجازاً يَجُبُّ ماقبله وما بعده من خطايا ، كون قرار التأجير كان خاطئاً في أصوله ، وإصلاح الخطأ لايستدعي كل هذا الضجيج .
عندما يتم الإستخفاف بالشعب و الإمعان في استغلاله و الإستهتار بمشاعره ومطالبه ومعاناته ، فإننا نتكلم عن حكم مأزوم فلا هو قادر على التخلص مما فيه من مثالب ، ولا هو راغب في تبني برنامج اصلاح وتغيير حقيقي. وقد يكون الشعب في المقابل غير قادر على اقناع الحكم بالقبول الطوعي والسلمي بتغيير نهجه لصالح مطالب عامة عادلة . الوضع في الأردن مأزوم والنظام اختار مسار التنازلات الشكلية واللفظية المرتبطة بتعزيز القبضة الأمنية كسد مانع لأي إنفجار شعبي .
الحكم مأزوم والشعب مأزوم والمنطقة العربية مأزومة ، والرؤيا الصائبة تستدعي البدء بالنفس كوسيلة لتعزيز القدرة على الصمود وعلى التعامل مع التحديات المتزايدة . على الحكم أن يتصالح مع نفسه وأن يمد يده الى الشعب في مسعى حقيقي ومخلص لتجاوز الأزمات وخلق أجواء إيجابية تساهم في تنفيس الاحتقان الشعبي وترفع من درجة التفاعل الإيجابي بين الحاكم والمحكوم لتجاوز مايمر به الوطن من مخاطر وأزمات وتحديات تستدعي تكاتف الجميع بنية طيبة تمنع أي انفجار محتمل .
بقلم د. لبيب قمحاوي
06/01/2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت