على امتداد سنوات الانقسام الذي ما زال قائما بين شطري الوطن يعيش المجتمع الفلسطيني الغزاوي حالة من الاغتراب الداخلي بكل أشكاله المتعددة سياسياً واجتماعياً وثقافياً؛ ولكن بات حديث الساعة اليوم ما يتناوله الشارع الغزاوي بكل فئاته حول قضية الموظفين الحكوميين للسلطة الوطنية في غزة وحالة الاغتراب الوظيفي التي انتابتهم مؤخرا وخلقت شعوراً بالتمييز والقلق المستمر والتشاؤم وحالة اليأس، مما أدى إلى ظهور حالة الاغتراب الداخلي والتي يرجع سببها الرئيسي إلى غياب الأمن الوظيفي، خاصة بعد الاجراءات التي اتخذت بحق الموظفين سواء التقاعد الاجباري أو التقاعد المالي والخصومات على الرواتب وتوقف الرتب والمواصلات والدرجات والعلاوات والاستحقاقات الإدارية والمالية وغيرها من الاستحقاقات الوظيفية، وبات الموظف ضائعا بين نسب الحكومة التي اعلنتها لصرف الرواتب المقلصة شهريا واحتساب النسبة المستحقة للموظف التي خصمت منذ العام 2017 أسوة بالرواتب الكاملة غير المنقوصة مع أقرانهم مع من يعملون في الوظيفة العمومية بالضفة الغربية، كل ذلك يعد من ضروب التمييز وإخلالا لمبدأ المساواة الذي يعد أحد مقومات المواطنة، وجوهر القانون الدولي لحقوق الإنسان، وانتهاك الحق في العمل والحق في مستوى معيشي ملائم وجملة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والقانون الأساسي وقانون الخدمة المدنية.
وفي كل الأحوال لا يخفى على أحد أن الانقسام بين شطري الوطن هو انقسام سياسي ليس للموظفين يد فيه، بل بالعكس التزم الموظفين بقرارات مرؤوسيهم وتعليماتهم طوال فترة الانقسام، ومارسوا المواطنة التنظيمية بكل معانيها، والأجدر على حكومة الوطن الواحد مكافأتهم على صبرهم، وليس الانتقاص من حقوقهم الوظيفية والتي أدت إلى حالة الاغتراب الوظيفي بين الموظفين العموميين الغزاويين مما يهدد الموارد البشرية التي تشكل رأسمال السلطة البشري والفكري، وما يترتب عليها من آثار سلبية على مجتمع المواطنة، فالموظف الغزاوي الذي تفانى في عمله الوظيفي منذ قدوم السلطة الوطنية وشكل لبنه أساسية في بناء مؤسسات الدولة عندما يشعر بعدم المساواة في حقوقه الوظيفية ومكتسباتها في الأجور والرواتب والعلاوات والترقيات أسوه بزملائه الموظفين في الشطر من الأخر من الوطن الذين لهم نفس الظروف والمؤهلات المتماثلة ومتساوون في المراكز الادارية والوظيفية والقانونية، بكل تأكيد سوف ينتابه الشعور بالظلم وغياب العدل والضياع والوحدة، وعدم الانتماء، وفقدان الثقة، والاحساس بالقلق وفقدان راتبه، وحالة الصراع مع نفسه لعدم قدرته على توفير احتياجات أفراد أسرته، كل ذلك يساهم في شعور المواطن بأنه ناقص الحقوق رغم أداء الواجبات المطلوبة منه، وهذا يضعف من الانتماء والولاء للوطن ومؤسساته، ويساهم في الهجرة إلى خارج الوطن. وباعتقادي أن سياسة الحكومة الأخلال بالحقوق الوظيفية على أساس الجغرافيا لهو أكبر انتكاسة لمفهوم المواطنة الذي لا يقصى أحد على أساس اللون أو الجنس أو النوع أو الدين أو الجغرافيا أو العرق، فالمواطنة أساس الدولة وسيادة القانون، وتعنى المواطنة بمفهومها الشامل جملة من الحقوق والواجبات على قدم المساواة بين المواطنين دون تمييز، وأيضا مسؤولية وشرف لا يمكن بأي حال من الأحوال التملص منها أو ادعاؤها دون تحمل ما تعنيه من معان ساميه، وفقا للعقد الاجتماعي ما بين الفرد والدولة كوحدة سياسية متكاملة، والاعتراف الدستوري بحقوق المواطنة، وإذا أردنا الحديث عن مجتمع المواطنة الحقيقية نعنى تلك الدولة المدنية التي تجسد إرادة المواطنين جميعا، بحيث لا تميز بين المواطنين لدواعي ومبررات غير قانونية ولا إنسانية؛ فهي دولة جامعة وحاضنة لكل المواطنين فتدافع عنهم، وتعمل على توفير ضرورات معيشتهم وحياتهم على أساس وحده الوطن القائمة.
وعلى هذا الأساس يتطلب اليوم من الحكومة في ظل هذه التحديات دوليا وإقليميا ومحليا أن تتحول إلى صمام أمان يؤطر ويضمن لموظفيها جميع حقوقهم وفقا لمفهوم المواطنة التي لا يمكن أن يكتمل إلا بنشوء الدولة الإنسانية؛ تلك الدولة التي تمارس الايجابية، فلا تمارس الإقصاء أو التهميش أو التمييز تجاه المواطن لأي سبب كان؛ فهي بوثقه جامعة لكل المواطنين ومن تم تصبح ممثلة لمجموع إرادات المواطنين؛ فالمواطن الغزاوي بحاجة ماسة إلى ملامسة تجسيد مفهوم المواطنة الحقيقية الكاملة غير المنقوصة، وعلى الدولة أن تحترم حقوق مواطنيها وتصون كرامتهم، وتمنحهم حرياتهم الأساسية التي تبلورت بشكل عملي في مفهوم المواطنة، وأن تخرجه من إطاره النظري المجرد إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة وثابتة، لذا لا يمكن الحديث عن مجتمع المواطنة في فلسطين إلا إذا وجد الإيمان الفعلي من قبل الدولة بمبادئ المواطنة ومقوماتها وأسسها، والتركيز على الإنسان هذا الكائن البشري الفلسطيني وإعادة الاعتبار له من خلال إعادة صياغة مشروع الحياة التي تحقق له العيش بكرامة وحرية وتحقق له الاكتفاء الذاتي وترفع عنه الحاجة والعوز حياة حرة متكافئة متساوية لجميع أبناء الوطن الواحد.
بقلم/ د. رمزي النجار استاذ القانون الدستوري والنظم السياسية
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت