■ يوم 28/1/2020، سيشكل تاريخاً فاصلاً.
فيه أعلن ترامب ونتنياهو عن دفن اتفاق أوسلو، في مراسيم الكشف عن «صفقة القرن» بديلاً لاتفاق، هيمن باستحقاقاته المذلة على الحالة الفلسطينية لأكثر من ربع قرن.
أي أن الحالة الفلسطينية باتت تقف الآن أمام وضع لا يمكن أن نسميه فراغاً، بل وضع انتقلت فيه دولة الاحتلال من التظاهر بالعمل باتفاق أوسلو، إلى الشروع علناً بتطبيق صفقة ترامب من جانب واحد، دون انتظار الرد الرسمي للفلسطينيين، ودون أي اعتبار للمرجعية الدولية في الأمم المتحدة.
ليست هي المرة الأولى التي تقف فيها السلطة الفلسطينية أمام تاريخ فاصل، يرسم لها مراحلها، وينتقل بها من مرحلة إلى أخرى.
المرحلة الأولى ولدت مع ولادة السلطة في غزة- أريحا، حين عاد الرئيس الراحل ياسر عرفات ليتولى مهامه رئيساً للسلطة، إلى جانب مهامه الأخرى رئيساً لدولة فلسطين، وللجنة التنفيذية ولحركة فتح، وغيرها من المناصب والمسؤوليات القيادية المتفرعة.
يومها كان هناك اهتمام دولي بإقامة سلطة فلسطينية [حكم إداري ذاتي] يخرج القضية الفلسطينية من استراتيجية البرنامج الوطني، ويحشرها في استراتيجية تسوية مع الاحتلال تنزل فيه مسافات عن البرنامج الوطني، وتتحمل أعباء كبرى عن الاحتلال في إدارة المناطق المدينية وأجزاء من الريف، في المنطقة المسماة (أ) حسب تقسيمات أوسلو.
في تلك الفترة تطوع شمعون بيريس، نائب رئيس حكومة إسرائيل، ووزير خارجيتها، وجال في عواصم العالم، يدعوها لتمويل صندوق السلطة الفلسطينية [بعد فرض حصار خانق على صندوق م.ت.ف] لتقيم مؤسساتها الإدارية الخدمية، خاصة جهازها الأمني، الذي، ومن أجله، سمحت إسرائيل لمئات من المقاتلين بدخول الضفة والقطاع، بموجب كشوفات دققها الشاباك الإسرائيلي وأجازها.
وحتى عندما تبين أن موازنة الأجهزة الأمنية «غير كافية»، أجازت الدول المانحة للسلطة الفلسطينية أن تقتطع أجزاء من الموازنة التنموية لصالح موازنة الأجهزة الأمنية، بدعوى أنه لا تنمية ولا إزدهار بدون أمن، وأن الأمن هو جزء لا يتجزأ من التنمية والإزدهار.
وسمح للراحل عرفات أن يعيد النظر بالتسميات الواردة في اتفاق أوسلو، فالسلطة الفلسطينية صارت السلطة الوطنية الفلسطينية.
ورئيس السلطة (chairman) صار سيادة الرئيس(president)
والمجلس التنفيذي صار حكومة السلطة، وعضو المجلس التنفيذي صار وزيراً، في محاولة للإيحاء بقيام حكم هو أشبه بالدولة الفلسطينية، لمداراة والتغطية على التنازلات الكبرى لصالح قيام السلطة.
اللحظة الفاصلة كانت مع مفاوضات كامب ديفيد 2 (يوليو 2000) حين توصل الراحل عرفات إلى قناعة أن الجانب الإسرائيلي لن يعطي الفلسطينيين دولة، وأن المطلوب منه التوقيع على تنازلات كبرى من شأنها أن تنزع عنه تاريخه النضالي، وتحشره في لائحة الزعماء الذين خيبوا آمال شعوبهم.
فعاد إلى غزة، ومنها إلى رام الله، وكانت الانتفاضة الثانية خياراً بديلاً. وكانت هذه نهاية المرحلة الأولى من السلطة الفلسطينية. فقد قالت الولايات المتحدة علناً أن، على عرفات أن يرحل، وأن تقوم بدلاً منه قيادة فلسطينية جديدة، تعود إلى المفاوضات تحت الإشراف الأميركي، ويعاد بناء أجهزة السلطة، خاصة الأمنية منها تحت إشراف أميركي – إسرائيلي مباشر.
* * *
ثمة قناعة راسخة في صفوف الفلسطينيين، أن مؤامرة عجلت برحيل الرئيس عرفات، وأن ذلك مهد الطريق أمام التحالف الأميركي الإسرائيلي، لإعادة ترتيب المسرح السياسي الفلسطيني، بما في ذلك الضغط على الرئيس عباس لتجديد المجلس التشريعي في إنتخابات مطلع عام 2006. سبق ذلك تمهيد داخلي بالتوافق على الهدنة لمدة عام، ومن خلالها إعادة إنتشار الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، كما لعبت نتائج إنتخابات المجلس التشريعي في تراجع العمليات القتالية ضد الإحتلال، بعد أن انخرطت حماس في السلطة في المجلس التشريعي ورئاسة الحكومة. هذا كله مهد لإستئناف العملية السياسية بإعتبارها الخيار السياسي الوحيد للحل، لدى رئاسة السلطة، ووقف كل أشكال «العنف» والدعوة لوقف كل أشكال «العسكرة»، وصولاً إلى شعار «البندقية الواحدة.. بندقية السلطة» وما تلا ذلك من إجراءات.
لعب الإنقسام السياسي بين فتح وحماس في تعجيل العملية التفاوضية في مؤتمر أنابوليس، الذي امتدت جولاته حتى نهاية العام 1998 مع رحيل إدارة بوش الابن، ومجيء إدارة أوباما، التي أحيت الآمال باستئناف المفاوضات وصولاً لدولة فلسطينية، بإعتباره «مصلحة قومية للولايات المتحدة»، في تقدير لدى الإدارة الأميركية الجديدة أن حل القضية الفلسطينية وفق «حل الدولتين»، هو المفتاح لتكريس الهيمنة الأميركية على المنطقة وتفردها بها، والسيطرة على ما فيها من ثروات وإمتيازات إستراتيجية، وفرض الحصار على إيران والضغط عليها لإعادة صياغة سياستها الخارجية والداخلية، وإستيعابها في إطار المنطقة. فشل إدارة أوباما في الحل أعلن نهاية المرحلة الجديدة، وفشل أوسلو في الوصول إلى حل. أكد ذلك وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وتبنى صيغة جديدة للحل بديلاً لأوسلو، أطلق عليها اسم «صفقة القرن». وإلى حين تم الكشف عن «صفقة القرن»، بقي أوسلو في حالة موت سريري، ينتظر من يتبرع للإعلان عن وفاته. إلى أن أتى الثنائي ترامب، نتنياهو في 28/1/2020 ليعلنا ذلك في حفل بهيج، تم الإحتفاء فيه بالمولود الجديد، وتناسى الجميع جثة أوسلو التي تعفنت، ولم تجد من يشيعها إلى مثواها الأخير، رغم ما قدمته للجانب الإسرائيلي من مكاسب أسطورية، ومهدت الطريق لولادة «صفقة ترامب».
* * *
انتهت مرحلة أوسلو الأولى والثانية، ومعها انتهت مرحلة السلطة الفلسطينية الأولى والثانية. وفي الإجتماع القيادي الفلسطيني 28/1/2020 أشير إلى إعادة صياغة وتعديل مهمات ووظائف السلطة الفلسطينية. هذه المرة لم يتم الحديث عن «تسليم المفاتيح»، ولم يتم الحديث عن «حل السلطة». بل جرى الحديث عن الإنتقال من «السلطة إلى الدولة». كما تم التأكيد على تطبيق قرارات المجلس المركزي والوطني.
ليست هي المرة الأولى التي يؤكد فيها على تطبيق هذه القرارات. وليست هي المرة الأولى التي يجري فيها الحديث عن إجراءات الإنتقال من السلطة إلى الدولة.
في المرات السابقة، كان هناك رهان على إحتمالية استئناف المفاوضات.
الآن تقف الحالة الفلسطينية أمام مفترق طرق. وخيارات ثلاثة:
• التعايش مع صفقة ترامب، والتأكيد في الوقت نفسه على رفضها، في حالة عجز عن القيام بأي رد فعل، أو عمل معاكس.
• انتظار استئناف المفاوضات تحت إشراف الرباعية الدولية في رهان على دور ما للإتحاد الأوروبي وروسيا الإتحادية.
• الإعلان رسمياً عن وفاة أوسلو، وطي صفحته، والشروع في تطبيق قرارات المجلس الوطني والمركزي، وإعادة النظر بوظائف السلطة، لبناء المرحلة الثالثة منها، لتكون جسر العبور إلى الدولة الفلسطينية المستقلة■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت