مأزق عملية السلام لم يبدأ بإعلان ترامب "سرقته" المسماه "صفقة القرن"، بل إن الإعلان هو تتويج عملي لمجريات هذه العملية منذ إتفاق "أوسلو" الذي لم يأحذ بعين الإعتبار الإجماع الصهيوني وتعامل مع الجانب الإسرائيلي بحسن نوايا تحت عنوان تأجيل وترحيل القضايا الأهم للمرحلة النهائية مما أعطى المجال للتلاعب الذي لم ينتهي ولن ينتهي مع حركة صهيونية قامت على اساس وعد من رب التوراة "يهوة" بأرض كنعان "فلسطين" لشعبه المتمثل في قبيلة بني إسرائيل، ودون الخوض في عدم صحة هذه الأسطورة، إلا أنها كانت الأساس للدعاية الصهيونية "الملحدة والعلمانية" في جلب وتهجير اليهود من كلّ بقاع وأصقاع العالم إلى فلسطين مستندة لدعم مباشر من الإستعمار الغربي "البريطاني والأمريكي" لفرض إقامة وطن قومي لليهود هدفه الأساسي أن يكون قاعدة إستعمارية تفصل بين غرب آسيا وشمال أفريقيا وخلق نزاعات دائمة في المنطقة تؤدي لسيطرة مستدامة غربية على مُقدرات وثروات المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي للمحيط الهندي.
نجح الإستعمار، وهزمت القومية العربية ولو بشكل مؤقت وساعد في ذلك في مرحلة عِقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إصطفاف الأسلمة السياسية وبالذات "الإخوان المسلمين" و "الوهابية" و "السلفيين" إلى جانب الإستعمار الغربي الأمريكي وتحت مسميات محاربة "الشيوعية" و "القومية"، فتم التآمر على مشروع الخالد "جمال عبد الناصر" لإفشاله ونجحوا في ذلك، وبدأت الحشود تتوافد إلى "أفغانستان" ونجحوا في خلق منظمات إرهابية لا زالت تتوالد وكانت آخر طبعة لها هي "داعش" وأدت لخلق فوضى تصدرتها التنظيمات الإرهابية وتنظيمات الإخوان المسلمين، مما أدى لتداعيات كبيرة على القضية المركزية للأمة العربية، قضية "فلسطين" وظهر كنتيجة لذلك ما يُعرف ب "الإنقسام" و "رام الله" و "غزة".
الإدارة الأمريكية واللوبي الإنجيلي الصهيوني وبالتحالف مع اليمين الإستيطاني في الحركة الصهيونية وجد الظرف الموضوعي والذاتي للفلسطينيين أولاً وللعرب ثانياً جاهزا للقيام بعملية إنقضاض تؤدي لخلق إستراتيجية جديدة عنوانها الأول تصفية القضية الفلسطينية كحقوق وكشعب وحق تقرير مصير، وبناء تحالفات إقليمية لمواجهة العدو الجديد "إيران".
القيادة الفلسطينية التي أعلنت رفضها لِ "سرقة ترامب" وقطعت علاقاتها مع إدارة البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، وأبقت على علاقات أمنية وثيقة ب "السي آي إيه"، وسارعت إلى المنظمات العربية والإسلامية والإقليمية والدولية لإستصدار قرارات تؤكد فيها على المرجعيات السابقة وعلى الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، نجحت إلى حدٍّ ما، لكنها مع ذلك دخلت في مأزق كبير، كون السياسة في هذا العالم تستند بالأساس للفعل وموازين القوى وليس فقط لقرارات هي بالأصل قائمة وهناك العشرات منها التي لم تُنفذ ولن تُنفذ.
وما أود الإشارة إليه إلى أن الأولويات في مواجهة "سرقة العصر" لدى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفي ترتيبها لا تؤسس حقيقة لإفشالها وهي غير ذي فائدة تُذكر على صعيد الواقع دون أن يرافقها وحدة وطنية تشمل الجميع في صناعة ومشاركة القرار وفعل شعبي مُستند لإستراتيجية واضحة المعالم وضمن أهداف يتم رسمها وصياغتها بشكل مُشترك من كافة الفصائل والفعاليات وبحيث تؤسس لفكرة جديدة يتم طرحها على المجتمع الدولي وأساسها الدولة الواحدة لجميع السكان من البحر للنهر، دولة ديمقراطية مدنية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات وتأخذ بعين الإعتبار الوقائع الجديدة على الأرض من حيث السكن والسكان ومن حيث الحق للفلسطيني بالعودة لأرضه.
مفهوم الدولتين الذي أجمع عليه المجتمع الدولي ووافقت عليه قيادة الشعب الفلسطيني مُعتقدين أن ذلك أهون الشرور وأننا بذلك نُقر بواقع وجود دولة "إسرائيل" كواقع موضوعي، كان الوهم والسّم في العسل الذي إبتلعته القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالرغم من فشل كامب ديفيد الثانية وإغتيال الخالد "أبو عمار" إلا أننا بقينا نتجرع السّم بإسم دولتين لشعبين منصاعين لإرادة الإجماع الدولي الكاذب والذي لم يتحرك ويضفط على إسرائيل لتطبيق ذلك منذ إنتهاء المرحلة الإنتقالية عملياً.
مأزق عملية السلام وفي جوهرها مفهوم الدولتين نابع حقيقة من وجود إجماع صهيوني على رفض الإنسحاب من حدود الرابع من حزيران عام 1967، وذلك لإعتبارات "توراتية" وأمنية وإقتصادية، ومهما حاول الطرف الفلسطيني من أن يُقدم ضمانات ك "دولة منزوعة السلاح" أو "تواجد قوات متعددة الجنسيات على الحدود" أو إعتبار القدس مدينة مفتوحة للجميع ولكل الديانات وضمان الأماكن المُقدسة لليهود وفق "التوراة" المُتخيّلة، إلا أن ذلك لا يُمكن أن يطمئن قيادة الحركة الصهيونية لأنها تعي جيداً أن الديموغرافيا ستفعل فعلها آجلاً أم عاجلاً وهذا لن يكون في صالحها ولا في صالح بقاء دولة إسرائيل يهودية نقية وفقاً لوعد الرب "يهوة"، لأن الوعد مشروط بمفهوم "التحريم"، وهو مفهوم أساسه قتل كل شيء حيّاً للقيام بعملية تطهير شاملة للعرق العربي الفلسطيني كاملة.
إن الخروج من المأزق الحالي، ومن وصفة الرئيس "ترامب" للتطهير العرقي وفقا لخطته "سرقة القرن" تتطلب تغيير الإستراتيجيات والبدء بتغيير المفاهيم كاملةً عبر طرح الخيار القديم الجديد "الدولة الديمقراطية المدنية الواحدة"، دولة لكل السكان من البحر للنهر تسمح بحق العودة لكل لاجيء فلسطيني لأرضه وتسمح لكل يهودي إسرائيلي وغير يهودي إسرائيلي أيضا بالبقاء والعيش للكل كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات تشمل الحريات الدينية في الوصول لكل الأماكن المقدسة لجميع الديانات على أساس من الإحترام المتبادل والعيش المشترك، وبما يؤدي لإنفتاح كامل على جميع الدول العربية وبالذات المشرق العربي لتأسيس وحدة إقتصادية واحدة ووحدة جغرافية واحدة للمرور والعيش فيها.
إن الإستمرار في الدعوة لمفهوم الدولتين أصبح يتنافى مع الواقع ومع الطموحات للأجيال القادمة، وخطة الرئيس "ترامب" ليست سوى وصفة للتطهير العرقي ولإشعال المنطقة في حروب وفوضى ولا تؤسس لا لدولة واحدة ولا لدولتين، وفقط العيش من البحر للنهر في دولة لكل مواطنيها هو السبيل الوحيد للتعايش في وئام وسلام، وغير ذلك ليس سوى إستمرار للصراع العنيف والمُستتر لحين تغيّر موازين القوى للقيام بعمليات تطهير عرقي شاملة.
بقلم: فراس ياغي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت