■ في العدد ما قبل الماضي لـ«الحرية» ( 1761 (2835) تاريخ 9-15/2/2020) تناولنا الحلقة الأولى من موضوع عنوانه «ما هي متطلبات المواجهة وشروطها». وصلنا في ختامها إلى القول إن الواقع الذي تعيشه الحالة الفلسطينية في ظل الاحتلال، يضعها أمام خيارين. إما التسليم بالأمر الواقع الذي فرضته عليها اتفاق أوسلو وقيوده، وإما رفض هذا الواقع، وبناء واقع جديد يلبي ضرورات مواصلة مسيرة الكفاح حتى الخلاص من الاحتلال والاستيطان.
فما هو هذا الواقع؟. وما هي الخيارات للتحرر من قيوده؟■
(1)
■ في جلسة حوار مع أحد أعضاء اللجنة التنفيذية، وفي سياق نقاش ضرورة وقف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، بعد ما تم الاعتراف أنه «حرام» ويجب الإقلاع عنه، وقيل لنا إن ما سوف ينشأ من عقبات عند وقف التنسيق سوف يعيق، بل يعطل، حركة القيادات الفلسطينية ودورها، بحيث يمكن القول إن رئيس السلطة نفسه لن يكون بمقدوره، إذا ما قررت سلطات الاحتلال، أن يغادر منزله نحو مكتبه في المقاطعة. كما اعترف نائب رئيس فتح محمود العالول، في حديث لـ «الاندبندنت» العربية، أن وقف التنسيق قد يفقد الكثير من القيادات السياسية والعسكرية الامتيازات التي توفرها لها بطاقات الـ «VIP» ( أي ما يسمى بالشخصيات المهمة جداً) في تحركها عند الحواجز، والمعابر، في تمييز عن باقي المواطنين، وفي إعفاء لهذه القيادات من المعاناة عند الحواجز والمعابر.
ولنا أن نتصور ما هو أبعد من ذلك؛ خاصة وأننا أمام عدو لئيم (بكل ما في كلمة لؤم من معنى) وفاشي، لا يقيم للإنسانية وزناً، بل يتوق على الدوام إلى إهانة الفلسطينيين والتطاول عليهم، حتى أن ترامب، كي يغري الفلسطينيين بالقبول برؤيته المزعومة للسلام، وعدهم بأن هذه «الرؤية» سوف تضمن لهم كرامتهم الشخصية والإنسانية.
ما من أحد يعتبر وقف التنسيق الأمني نزهة سياسية أو إدارية، بل هو انقلاب في العلاقة مع دولة الاحتلال. الأمر الذي يضع أمام الحركة الوطنية، والسلطة الفلسطينية سلسلة قضايا لا بد من الإجابة عليها.
إعادة تموضع القيادة
من بين هذه القضايا ما هو الرد من أجل أن يتكرر مع الرئيس عباس ما وقع مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، أن يحاصر في «المقاطعة»، وأن تمارس عليه الضغوط التي مورست على الرئيس عرفات، في مشهد دراماتيكي انتهى بصورة مأسوية.
رئيس السلطة وفريق عمله (باعتباره في الوقت نفسه رئيس اللجنة التنفيذية ورئيس دولة فلسطين) سيقف أمام ثلاثة خيارات:
1) الإبقاء على التنسيق الأمني منعاً لأية تطورات سلبية
2) الرضوخ للضغوط، والقبول بفرض الحصار عليه في مكان ما للضغط عليه للتراجع عن قرار وقف التنسيق وغيره من القرارات.
3) إعادة التموضع جغرافياً، أي نقل المقر القيادي إلى خارج مناطق السلطة الواقعة تحت الاحتلال.
هنا لا يفيد القول إن القيادة الفلسطينية يجب ألا تغادر أرض الوطن في المجابهة. فالمغادرة تندرج في إطار استراتيجية وطنية للمواجهة الشاملة، من المطلوب خلالها توفير مكان آمن للقيادة الفلسطينية وإلا كيف نفسر وجود رئاسة المجلس الوطني، وإدارة الصندوق القومي؛ في عمان ولم تدخل الضفة- نحن، على سبيل المثال، مع خيار اسماعيل هنية في مغادرة قطاع غزة والإقامة في الخارج، من موقعه رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس، تاركاً للقيادة الميدانية لغزة (السنوار وإخوانه) المسؤولية اليومية. ولعل عودة الشهيد أبو علي مصطفى إلى الضفة، لضرورات أملتها عليه الأوضاع في الجبهة الشعبية آنذاك، كلفت الجبهة والحركة الوطنية الفلسطينية ثمناً باهظاً جداً، مازالت تداعياته مستمرة حتى الآن.
هنا مفيد أن نوضح أن ما ينطبق على رئيس السلطة، ينطبق كذلك على أعضاء اللجنة التنفيذية أو في أعادة صياغة الوضع القيادي بأشكال أكثر مرونة تلبية للحاجة الملحة وفقاً للواقع الجديد.
إعادة تموضع القيادات الميدانية
بطبيعة الحال ، سوف تكون القيادات الميدانية، في الضفة هدفاً ثميناً لقوات الاحتلال. بتقديري، يختلف الأمر هنا. فالقيادات الميدانية، مطالبة هنا بشكل خاص أن تصمد إلى جانب صمود الشعب في المواجهة الشاملة التي سوف تشعلها الاستراتيجية الجديدة. ونعتقد أن الحماية الشعبية للقيادات الميدانية، يشكل أحد أهم ضمانات الحماية المطلوبة، اذ كلما تعززت المجابهة الشاملة وارتقت في أدائها وتحدياتها، كلما بات صعباً على قوات الاحتلال اصطياد القيادات الميدانية، في الصفين الأول والتاني.
إعادة تموضع مهمات الأجهزة الأمنية
نعتقد أن وقف التنسيق الأمني، لا يعني في مضمونه العملي، أن تقاطع الأجهزة الأمنية لقوات الاحتلال، وأن تعطل آليات التنسيق معها، كخطوة نهائية، بل نقرأ في تعبير وقف التنسيق الأمني، ما يعني انتقال الأجهزة الأمنية إلى المهمة الوطنية الواجب أساساً أن تقوم بها، وهي أن توفر الحماية للحركة الشعبية ضد الأعمال العدوانية لقوات الاحتلال. وبحيث تتحول هذه الأجهزة إلى نواة جيش الشعب الذي سيخوض معركة الاستقلال، ما يسقط خرافة الحديث عن دولة فلسطينية مجردة من السلاح، في ظل عدوان إسرائيلي لا يتوقف بأشكاله المختلفة.
في هذا السياق تتكامل عناصر المشهد والرؤية. ولا نقرأ وقف التنسيق الأمني وكأنه مجرد قرار إداري. بل هو قرار سياسي من الطراز الأول له متطلباته، لكن ثمنه سيبقى أقل بكثير من ثمن إدامة التنسيق الأمني. وبالتالي هنا يعود الدور للإدارة السياسية وللاستعداد الفردي والجمعي على اتخاذ القرار بكل أبعاده.■
(2)
■ في القراءات والمراجعات يبدو واضحاً أن السلطة الفلسطينية تعيش حالة من التخبط في خطواتها للانفكاك الاقتصادي مع سلطات الاحتلال. حتى أنها اشترت من دولة الاحتلال نفسها ألفي طن زيتون للكبيس في الوقت الذي ندعو فيه إلى ضرورة مقاطعة الاقتصاد الاسرائيلي، في إشارة تدلل على خلل في إنتاج الزيتون الفلسطيني، وعلى خلل في رعاية السلطة الفلسطينية للحقل الزراعي والانتاج الوطني.
ليس من ساذج يعتقد بإمكانية القطع الفوري والشامل مع الاقتصاد الإسرائيلي. فإسرائيل ستقاتل بكل الإمكانيات لتحافظ على سوق استهلاكية، فالسوق الفلسطينية تستورد من إسرائيل، أو عبرها، ما يعادل 6 مليارات دولارات، تدخل في الحسابات والأرباح الإسرائيلية الصافية من استعمارها للأرض الفلسطينية. وإسرائيل تستورد من المناطق المحتلة ما يتجاوز المليار دولار بقليل، آخذين بالاعتبار ما يوفره هذا الاستيراد من مكاسب، بما في ذلك إعفاء المستورد الإسرائيلي من نفقة النقل الخارجي، عبر البحر، أو عبر الجو.
ومع ذلك فلا خيار أمام شعب تحت الاحتلال، ومن أجل الخلاص، سوى المقاومة ومن ضمنها مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي (ألا يدخل هذا في إطار المقاومة الشعبية السلمية؟!) وما يفتقر إليه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال أن سلطته، التي تدعوه دوماً إلى المقاومة الشعبية السلمية، لم ولا توفر له الأسس والآليات لخوض هذه المقاومة عبر مقاطعة البضائع الإسرائيلية.
نعتقد أن علينا هنا أن نميز بين مستويين من المقاطعة: مقاطعة المستوطنات المقامة في الأرض المحتلة، ومقاطعة دولة الاحتلال عبر خطوط 4 حزيران.
مقاطعة المستوطنات
نعتقد – جازمين – أن مسألة مقاطعة المستوطنات يجب أن تكون مسألة مبدئية. فالاستيطان هو عدوان استعماري دائم، يمارس كل دقيقة ينهب الأرض وخيراتها، من زراعة ومياه ومواقع استراتيجية.
والموقف منها يفترض أن يكون جازماً وحازماً في الوقت نفسه، في اعتبار التعامل، أو التعاون مع المستوطنات جريمة وطنية يجب أن يعاقب عليها القانون، وأن يشهر بمن يرتكبها. ووسائل التعاون والتعامل مختلفة من بينها:
شراء منتجات المستوطنات والترويج لها في الأسواق الفلسطينية. إذ من المعيب، والمخزي، أن تبادر دول في الاتحاد الأوروبي لتنبيه الزبائن إلى المخاطر الأخلاقية والسياسية والإنسانية لشراء منتجات المستوطنات، وأن لا يلتزم الفلسطينيون التزاماً تاماً بالمقاطعة. بدءاً من المستوردين، والمروجين في سوق الحملة، والبائعين في سوق المفرق. فضلاً عن تزويد المستوطنات بالمواد الأولية إذا ما توفرت في المناطق الفلسطينية. هنا يجب أن يلعب القانون دوره بصرامة، ويجب أن تلعب الرقابة الشعبية هي الأخرى دورها بصرامة، من خلال تشكيل اللجان الشعبية والجمعيات والفرق المعنية متابعة هذا الأمر، على مستوى الحي، والشارع، والزقاق، والمدينة، والمحافظة. ويجب أن تكون قبضة السلطة في هذا الأمر قوية وشديدة، وأن تحاذر لعبة الباب الدوار، نزولاً عند ضغوط أو إغراءات الفاسدين المفسدين.
وفي السياق نفسه يجب مقاطعة المستوطنات من خلال قطع الصلة بينها وبين المقاولين الفلسطينيين. تتسرب معلومات من خلف الستائر، عن آليات بناء وحفر فلسطينية يتم تأجيرها للبناء المستوطنات. وعن شاحنات فلسطينية يتم استئجارها لنقل مواد البناء إلى المستوطنات، وعن معامل فلسطينية تزود المستوطنات بمواد البناء من رمل وبحص، وبلوك، وحجارة واسمنت وحديد وغيرها. بات على الجميع أن يعترف أن مساهمة المقاولين ورجال الأعمال في بناء المستوطنات، جريمة وطنية لابد من مكافحتها بكل الوسائل، بالقانون، والتشهير الإعلامي الواثق من نفسه ومن معلوماته.
وفي السياق نفسه (وهنا القضية أكثر تعقيداً) مازال الآلاف من العمال الفلسطينيين يعملون في المستوطنات والمزارع الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية.
هذه مسألة وطنية من الطراز الأول، تحتاج إلى حلول وطنية بامتياز. سبق لها وأن طرحت على جدول أعمال المؤسسة الوطنية، منذ حكومة الدكتور سلام فياض (على سبيل المثال) واتخذ المجلس المركزي في م.ت.ف، وكذلك اللجنة التنفيذية، قرارات بضرورة توفير أماكن عمل بديلة وكريمة لهؤلاء العمال، للتوقف على العمل في المستوطنات (بناء، نقل، زراعة، حراسة، تجارة.. الخ) ليس المطلوب قرار تعسفي بمنع آلاف من العمل في المستوطنات بل المطلوب خطة مدروسة ولو على مراحل، تضعها السلطة، تمكنها من توفير فرص العمل، ومع الشروع في تطبيق الخطة، محرم على العمال الفلسطينيين الالتحاق بالعمل في المستوطنات بعد ذلك التاريخ لملء الفراغ الذي أحدثه العمال المنسحبون من العمل، حتى لا نبقى أمام لعبة مثيرة للسخرية، وأمام قضية غير قابلة للعلاج.
مقاطعة الإنتاج الإسرائيلي
نظراً لحجم الاستيراد من السوق الإسرائيلية، فإن مقاطعة الإنتاج الإسرائيلي هي الأخرى قضية معقدة، إذ لا يمكن، باعتقادنا، المقاطعة الفورية، وترك السوق الفلسطينية خاوية من البضائع، دون أن يؤمن عنها بديل.
لكن في البدء علينا أن نسأل بشجاعة: هل نريد أن نخوض معركة المقاطعة والانفكاك الاقتصادي، دون معاناة بسبب غياب – أحياناً- حاجات ضرورية يصعب الاستغناء عنها. وما السبيل إلى حلها.
كذلك علينا أن نسأل، هل كل ما يتم استيراده من إسرائيل، يدخل في باب الحاجات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها أم أن بعضها يدخل في باب الكماليات الترفيهية.
نحن على ثقة أن الكثير مما يستورد من إسرائيل يدخل في باب الكماليات. ومن يخوض حرب الاستقلال والتحرر من الاستعمار الاقتصادي الإسرائيلي، ولبناء اقتصاد وطني، عليه أن يقدم «تنازلات» من خلال التخلي، كحد أدنى، بداية عن كل ما يدخل في باب الكماليات الاستهلاكية، التي يمكن العيش بدونها دون أن تتأثر حياتنا اليومية. ونعتقد أن لائحة هذه الكماليات طويلة، نترك للجان المقاطعة هي أن تتخذ بها قراراً وترسم حدودها.
وعلى هذا المنوال، ندرس الخطة خطوة خطوة، بحيث نصل إلى مرحلة نتمكن فيها من التعويض عن الحصار الإسرائيلي المتوقع أن يفرض على الضفة، من خلال تطوير الاقتصاد المنزلي، في استعادة لتجربة الانتفاضة الأولى، خاصة وأن بيد الشعب الفلسطيني الآن سلطة ذات إدارات ومؤسسات، معنية أن تقف إلى جانبه، كما يقف هو إلى جانبها، في مكافحة الحصار والمقاطعة المضادة التي يمكن أن تلجأ إليها سلطات الإحتلال، لتفشل خطة الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي.
هذه معركة ذات مضمون سياسي من الطراز الأول، يفترض أن يتم تجهيز كل الطاقات لخوضها، بما في ذلك طاقات الشتات، الذي من الواجب عليه أن يقف إلى جانب صمود الشعب في الضفة، كما صمدت، على سبيل المثال، بيت ساحور في الانتفاضة الأولى، حين رفضت أداء الضريبة لسلطات الاحتلال، فحوصرت المدينة شهراً كاملاً رفضت خلاله المساومة إلى أن تحولت قضيتها إلى قضية رأي عام، وقف إلى جانبها قوى سياسية وحقوقية وإنسانية وأحزاب سياسية، إلى أن كسرت الحصار وانتصرت على السجان ■
(3)
هذه مساهمة، ضمن حدود معينة، وظيفتها أن تتخيل الوضع الذي ستكون عليه الضفة الفلسطينية، في الإقدام على تنفيذ قرارات المجلس الوطني والمركزي، في مواجهة «رؤية ترامب» وتطبيقاتها على يد سلطات الاحتلال.
مساهمة ترى أن السبيل الوحيد للخلاص هو هذا الطريق. وأنه طريق مليء بالصعوبات والعقبات، دون أن نتجاهل أن بيد الشعب الفلسطيني إرادته ، كسلاح يشكل أساس كل سلاح، وبيده سلطة، صدر قرار في 28/1/2020 بتعديل وظائفها لتصبح سلطة فلسطينية تلبي احتياجات خوض معركة الاستقلال، ومعركة الخلاص من الاحتلال والاستيطان.
ودون أن نتجاهل أن الضفة لن تكون وحيدة. فإلى جانب غزة يقف الشتات، في معركة الدفاع عن كامل الحقوق الوطنية، كما تقف شعوب عربية وصديقة.
لا شك في أن بيد سلطة الاحتلال أوراق قوة راكمتها خلال سنوات الإذعان تحت سقف أوسلو. وراكمت آليات وخلقت وقائع ميدانية جعلت من الاقتصاد الفلسطيني أسيراً لإجراءات معابرها الحدودية.
لكن، في الوقت نفسه، يملك الشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية أوراق قوية، وقوية جداً، من أبرزها أنه صاحب الأرض، وصاحب تجارب عميقة من أهم دروسها أن لا شيء يمكن أن يتحقق مجاناً.
والخطوة الأولى في هذا كله، ما زالت مطلوبة من القيادة السياسية الفلسطينية واللجنة التنفيذية■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت