***
لا يُعقل أبداً، وبعد أكثر من قرنٍ كاملٍ، أنَّ النقاش المُمِلّ والمكرور ما زال قائماً، وما تزال التُّهَم مُعَدّةً سلفاً، وما تزال حتى التعابير ذاتها تُسْتَعْمَل في كل مواجهة. أكثر من قرنٍ وما يزال بعض المثقفين العرب يُحاول تحديد العلاقة مع ما يسمى "الآخر"، وتجِده في حيرةٍ من أمره بخصوص كمّية "الأخذ" عن هذا "الآخر"، حجمه أو شكله أوطريقته أو وجهته.
وبقيَت الأسئلة: هل نأخذ علومَهُ ونترك قيَمَه؟ أم نأخذ علومَه وقيَمَه؟ أو هل نتبنَّى مِنهاجَه وأساليبه للوصول إلى ما وصل إليه؟ بل ما يزال هناك مَنْ يُقَسِّم ردود الأفعال إلى تغريبيَّةٍ وسلَفيَّةٍ و(معتدلة). لماذا؟ .. أكثر من قرنٍ ويزيد والنقاش المُستَعِر هذا لم يُسفِر إلا عن هزائم تتوالى، والهزيمة أكبر من أختها.
أمّا هذا "الآخر" الذي لا نزال نُحاوِل تحديد العلاقة معه، فقد حدَّدَ علاقته بنا تماماً، أنظمةً تابعةً وشعوباً مسلوبةً على أراضٍ تزدحم بالثروات.
باختصارٍ وألَمٍ نقول: إن النقاش المتعثِّرَ حول تحديد العلاقة مع الآخر أثمَرَتْ انتصاراتٍ لهذا "الآخر". استطاع هذا "الآخر" هضْمَ هذا النقاش وتجاوُزَهُ وإسقاطَهُ تماماً.. كيف كان ذلك؟
المشروع النهضوي العربي المُزَوَّد بكافة الأدبيات الفكرية والأيديولوجية -سياسيّاً واجتماعيّاً- لم يستَطِع أن ينفَلِتَ من سيطرة "الآخر" أو تأثيره.
"البرجوازية الوطنية" التي سَعَتْ إلى دولةٍ قوميةٍ "قُطريَّةٍ" سقَطَتْ في براثن الفقر والتأخُّر والاستئثار الحِزبيّ للسلطة، الأمر الذي جرَّها إلى مواجهاتٍ داميَةٍ مع شعوبها. هذه البرجوازية الوطنية لم تستطع أن تلتقي -حتى بمصالح معينة- مع برجوازياتٍ قريبةٍ جغرافيّاً ووجدانيّاً، فثمة عوامل خارجية استعمارية ساهَمَت في هذا التباعد وهذه المُغايَرة.
هذه البرجوازية الوطنية المزدحمة بالمُنَظِّرين من كل الأنواع، لم تستطع أن تُبعِدَ عن شعوبها الفقر والتخلّف والهزيمة، فما هي بالضبط هذه البرجوازية التي لم تستطع النهوض بمهمتها التاريخية؟
التاريخ لا يُعيد نفسه، هذا صحيح، ولكن ألم يكن خطأً في تشخيص الحالة التاريخية؟
يمكنني القول إن سقوط هذه "البرجوازية الوطنية" في أحضان (الآخر) كان سهلاً إلى درجةٍ تدعو إلى التساؤل والدهشة. وما يُثيرُ الدهشةَ والعَجَب أنَّ هذه "البرجوازية الوطنية" استطاعت تغيير اتجاهها بعد حرب الخليج بسرعة البرق، بحيث أن كل شعاراتها التي رفعتها تكشَّفَت عن كونها محض أكاذيب.
عن أيِّ مشروعٍ "آخر" نتكلم؟
المشروع "العشائري" و"الفئوي" مجرد رسومٍ كاريكاتورية افتَعَلَها هذا "الآخر" الذي نُحارِبُه، ونسعى إلى تحديد "العلاقة" معه. وأكذوبة هذا المشروع في كونِهِ يعتمد على "الآخر" في بقائه، في الوقت الذي يتبَنّى فيه ظاهرياً مقولاتٍ ضِدَّه... كيف ذلك؟ هذا هو بالضبط خداع الشعوب.
هزائم تلو أخرى، ثم يأتي المثقفون ليتنافسوا أيُّهم أبلغ حجّةً في شتم "الآخر" أو تمجيده أو "عقْلَنَتِه".. ويُناقِشون كميّة الأخذ عن الآخر وكمية العطاء لَهُ، ويتحدثون عن العلميَّة والتكنولوجيا والإدارة الصحيحة، ويقيسون مدى التقدم بما وصل إليه "الآخر"، حتى وصل الأمر ببعض هؤلاء إلى تجميل الصهيوني، ثم قبِلوا بـ"الحق" في وجود المُحْتَلّ على أرضنا، مهزومونَ حتى قَبِلْتُم بوجود قواتٍ أجنبيَّةٍ تحمي مخادعكم وزوجاتكم؟!
عن أيّ مثقفين نتحدث؟
هل نتحدث عن معظم مثقفي أوائل القرن العشرين الذين انبهروا بـ"الآخر"، حتى باع معظمهم أنفسهم له، وكانوا وفَّروا الخميرةَ اللازمةَ لإنباتِ أنظمةٍ هزيلةٍ لم تَثْبُتْ طويلاً!
أم نتحدث عن مثقفي ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، الأكثر أصالةً وعمقاً في النقاش والجدل لمحاولتهم الاستيعاب ومن ثم الرد (يُلاحَظ في هذا الصدد أن هناك حملاتٍ إعلاميّةً تحاول دائماً تسليط الضوء على بعض هؤلاء دون بعض، فمثلاً مَن يعرف الآن شيئاً كثيراً عن مصطفى صادق الرافعي والسنهوري وغيرهم؟).
أم نتحدث عن مثقفي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، من الذين طبَّلوا وزمَّروا لمعادلاتٍ غريبةٍ وعجيبةٍ حاولوا تطبيقها على شعوبٍ ليس لها بها أدنى علاقة؟
مِن عَجَبٍ بهذا الصدد، أنْ نشَأَ في هذه الفترة ما يُسَمَّى بـ"التيار الإسلامي" المدعوم من أنظمةٍ عشائريَّةٍ وعائليةٍ وطائفيَّةٍ ومذهبية. هذا "التيار الإسلامي"، وإن كان قدَّمَ دراساتٍ نظريةً، إلا أنه كان يخلو من المفهوم الحقيقي للإسلام، ونقصد به المواجهة والمكاشفة الحقيقية للدَّاء والدواء.
كان هذا التيار المُتَوَرِّع بالقشور محاولةً بارعةً لذَرِّ الرماد في العيون، ولِقَطْعِ الطرق أمام نفوذٍ معينٍ، إضافةً إلى توفير شرعيَّةٍ موهومَةٍ لهذه الأنظمة.
عن أيّ مثقفين نتحدث؟ عن مثقفي حروب الطائفية؟ أم عن المذابح والعدمية في غير بلدٍ عربيّ؟ أم عن الفقر والتعذيب والبوليسيَّة؟ أم عن أفلام المقاولات والعُري ومجلات "الفن" التي تُخفي تجارة الرقيق الأبيض تحتها؟ أم عن الحروب الأهلية والحدودية والوهمية؟ والمُحتَلّون في أحشاء بيوتنا، و"دولتهم" تستطيع تهديد أيّ وريدٍ في أجسادنا.
ثم يأتي "مثقف" يتحدث عن العلاقة مع الاحتلال، وكيف تكون، وعلى أيِّ المذاهب يجب أن تُفهَم! بعد أكثر من قرنٍ كاملٍ، يتحدثون عن المحتلين لإيجاد صيغةٍ مناسبةٍ لقبولهم! هكذا استطاع "الآخر" امتلاك قوةٍ مذهلةٍ تكفي لظهور "مثقفين" يتحدَّثون عن إمكانية التعايش معاً. أليس هذا انهياراً لكلِّ شيء؟ أليس هذا انهزاماً ما بعده انهزام؟!
كما يقول روائيٌّ فلسطينيٌّ فإن "الهزيمة أشد من القتل" .. نعم! الهزيمة أشد من القتل، لأنه بعد مئة عامٍ أو أكثر ما يزال أطفالنا يموتون بسبب الجوع أو الفقر أو القصف أو التهجير أو التقتيل أو ما شئت. المهزوم يموتُ في اليوم ألف مرةٍ.
"صَرعةٌ ثقافيةٌ" تَسْتَوقِفُني وتُذهِلُني أيضاً؛ إنهم مثقفو المنظمات غير الحكومية، التسمية مضحكةٌ كما هو كل شيء.. والمنظمات غير الحكومية هذه غريبةٌ وعجيبةٌ معاً في آنٍ واحدٍ، التمويل يأتي على قدر الأهداف وطريقة التنفيذ.
هنا، في فلسطين، نطالع مجلةً للأطفال تتحدث عن (إسرائيل) وأطفال (إسرائيل)، والسبب في ذلك هو مصدر التمويل فقط.
هنا، في فلسطين، نقرأ مقالاتٍ "جريئةً" تحاول تقديم المحتل بطريقةٍ أخرى، وأنا لا أفهم ذلك أبداً، المحتل يقتلني، وفي هذه الحالة لا يعنيني إن كان رسّاماً أو شاعراً أو عاشقاً أو عازفاً للموسيقى أو غير ذلك.
إنه يقتلني.. فيجب أن أمنعه قبل ذلك، سواءً أعجب هذا الكلام الناس المثقفين أو لم يعجبهم، أعجب الشعراء أو لم يعجبهم، وخاصةً الصغار منهم.
مثقفو المنظمات غير الحكومية، الليبراليون، المُتَنوّرون، الثوريون، يتحولون فجأةً إلى جامِعي معلوماتٍ تحت مسمَّيات "باحث" أو "خبير"، وبعض الدول العربية قدَّمَت لنا أنموذجاً ساطعاً على مثل هذا "الخبير"!
ماذا نقترح والحالة هذه؟
للإجابة على هذا السؤال، نُعيدُ ما قُلناه بشكلٍ آخر: ما دامت نقاشاتٌ استمَرَّت لأكثر من قرنٍ أسفَرَت عن هزائمَ بشِعَةٍ ومدوِّيَةٍ، فإن هناك خللاً في كل شيء، والهزيمة لا تُولَدُ مصادفةً، ولا تأتي دفعةً واحدة، الهزائم مثل فساد الأطعمة، بطيئةٌ ولكنها متراكمة.
وباختصارٍ أيضاً فإن هذه النقاشات، وما دامت تنتهي لصالح "الليبرالية"، و"الديمقراطية"، و"المجتمع المدني الحديث".. وما دام "المجتمع المدني الحديث" مهزوماً حتى النخاع، فهذا يعني أن كل الأساسات التي قام عليها فاسدةٌ وخَرِبَةٌ أيضاً. وما دام "الآخر" الذي نُحاوِلُ تحديد العلاقة معه يركَبُنا، فإن هناك علاقةً وحيدةً يجب أن تضبط الأمور معه: هذه العلاقة هي علاقة المواجهة، علاقة النِّدِّيَة، علاقة التكافؤ، علاقة السَّيد بالسَّيد، لا علاقات العبودية أو الشرق أوسطية أو الأحلاف، أو غير ذلك!
نقترح مع "الآخر" علاقة المواجهة إن شئتَ أيضاً، على أن نُحَدِّد شكلَها وكيفيَّتَها.. نقترح مع "الآخر" علاقةً أخرى غير التي سادت لأكثر من قرنٍ كاملٍ، نقترح صيغةً أخرى غير هذه، تلك الصيغة التي فرَضَتْ علينا (إسرائيل)، وكفى بذلك من علاقة ذُلٍّ وخزيٍ وعَار.
أريد أن أُذَكِّرَ بآيةٍ كريمةٍ من كتاب الله جلَّ وعلا، آيةٍ أعود إليها دائماً، مفادها أنْ قاتِلوهم كافةً كما يُقاتلونكم كافةً، والقتال ليس بالسلاح دائماً أو بالضرورة..
كلام الله فوق كل كلام، وبالتأكيد فهو فوق كلام الثَمَن الرخيص والمهووسين والفجَرة والسوداويين والمُطَبّعين ومثقفي الجوائز المشبوهة والمحافل والفضائيات والمنظمات غير الحكومية والصغار والمهزومين (...).
المتوكل طه
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت