نزل آلاف الجزائريين إلى العاصمة الجزائرية والمدن الكبيرة (21/2)، للاحتفال بمرور سنة على أكبر احتجاجات شعبية تشهدها البلاد منذ الاستقلال، مطالبين بإحداث «تغيير جذري ورحيل كلّ رموز النظام القائم».
وبمشاركتهم الواسعة في المناسبة، أكّد المحتجون أنّ هذه الذكرى ملكاً لهم وحدهم، وليس للسلطة التي أعلنت عن الاحتفال بها بوصفها يوماً «لتلاحم الشعب مع جيشه من أجل الديمقراطية»!. يُذكر أنّ «الجمعة» هو اليوم الذي تسمح به السلطات بإقامة المظاهرات، وقد اختاره المتظاهرون للاحتفال بـ«عيد ميلاد الحراك»، أي قبل يوم من موعده؛ «22 شباط/ فبراير».
وكانت السلطات تخشى أن يعطي الاحتفال بهذه المناسبة زخماً جديداً للحراك، في وقت تبذل فيه جهوداً كبيرة لوقفه، (ومنها الاحتفال بالمناسبة على طريقتها)، لأنّ استمرار الحراك يعني أنّ «لا شيء تحقق» من مطالبه. فضلاً عن أنّ ذلك سيُلحق ضرراً بالغاً بصورة الرئيس الجديد، «الحريص على أن يبدو حاكماً كامل الشرعية»!.
وكانت الاحتجاجات قد أسقطت في نيسان/ أبريل الماضي، الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وولايته الخامسة. ولكنّ الانتخابات الرئاسية (التي رفضها المحتجون، وكانت محطّ جدل كبير في الأوساط السياسية الجزائرية)، أوصلت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون إلى قصر الرئاسة. بيد أنّ حصول الانتخابات ووصول رئيس جديد إلى سدّة السلطة لا يعني، بالنسبة للمحتجين، «منح الشرعية للنظام وجلب الاستقرار السياسي للبلاد». وفي الواقع، تبدو الجزائر الآن «عالقة بين نظام يحاول استعادة شرعيته بأي ثمن، وشعب مصمّم على استعادة دولته بطريقة سلمية وحضارية»، كما يقول المحتجون.
«مفترق طرق»
وعلى ذلك، تبدو الجزائر وكأنها تقف حالياً عند «مفترق طريق»؛ فإما أن تنجح السلطات في استعادة الشرعية، وتحقيق مقاربتها للتغيير المحدود والإصلاحات الجزئية التي تنوي اتخاذها، بعيداً من مطالب المحتجين الأساسية، وإما أن ينجح الحراك في تقويض هذه الشرعية «المفروضة بالإكراه»، وممارسة الضغوط الكفيلة بترجمة رؤيته لمستوى وحجم التغيير المنشود الذي يتطلع إليه.
وحسب كثير من المراقبين، فإن الحراك، الذي وحّد تحت راياته شرائح وقطاعات كبيرة من المجتمع الجزائري، يواجه الآن «تحديات كثيرة»، حيث بدأ النظام يسترجع قواه ويحاول الإمساك بزمام المبادرة مجدّداً. فبعد أن تولّى الجيش السلطة الفعلية بعد استقالة بوتفليقة، ونجحت قيادته في إقرار وتنظيم الانتخابات الرئاسية، (على رغم نسبة المقاطعة العالية لها)، إلا أنّ الحراك فشل في منع إجراء الاقتراع، وبات «هناك الآن واجهة دستورية وديمقراطية» للنظام!، «مثلما كان عليه الأمر من قبل»!، كما يرى البعض.
ويشير الشهر الأول من رئاسة تبون إلى أنّ أولويات النظام تتمثل في العمل على «احتواء الحراك واستعادة الشرعية والحدّ من أي تغيير جذري»، وذلك عبر إجراء سلسلة من الإصلاحات السطحية المحدودة، سيكون أبرزها «تعديل دستور العام 2016».
الرهان على تعديل الدستور
ومن الواضح، في نظر المتابعين، أنّ الرئيس الجزائري الجديد يبدي رهانه على «تعديل الدستور من أجل احتواء غضب الشارع»، وهو ما يعني أن السلطة غير مستعدة بعد للتعاطي المباشر مع مطالب الحراك، وتقديم تنازلات سياسية جوهرية أمامه.
فالرئيس تبون يُشيد بالحراك الشعبي، وينوّه بطابعه السلمي، إلا أنّ تعديل الدستور، بالنسبة إليه، يعني بالدرجة الأولى، «بناء دولة قوية، وتجنيبها الاضطرابات التي تنخر البلدان الشقيقة والصديقة»، في إشارة «تحذيرية» إلى «المصير الكارثي» الذي آل إليه الوضع في دول عربية، شهدت انتفاضات جماهيرية قبل أن تتحول إلى فوضى واضطرابات وحروب مستمرة، تتداخل فيها العناصر المحلية للصراع مع التنازع الإقليمي والدولي على النفوذ والسيطرة هنا وهناك!.
وكان الرئيس تبون أوكل مهمة تعديل الدستور إلى لجنة من المختصين تتألف من 17 خبيراً دستورياً، وفتح مشاورات سياسية مع أحزاب سياسية وشخصيات مستقلة. وشدّد على أن خيار مراجعة الدستور، يعدّ محطة أولى ضمن رؤية شاملة «ترمي إلى تعزيز الصرح المؤسساتي للدولة، وتمكين مجتمعنا من التحرّر تدريجياً..»، على حدّ تعبيره.
وقدّر المراقبون أنّ النظام قد يلجأ إلى تقديم بعض «المكاسب السياسية» على شكل إصلاحات محدودة، إضافة إلى بعض المساعدات على الصعيد المعيشي، علماً أنّ الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق، في ظل انخفاض أسعار النفط، قد تعترض طريقه وتمنعه من تحقيق معادلة «شراء السلم الاجتماعي مقابل تقديم بعض الريع النفطي للشعب»، كما كان يفعل في السابق، حسب قول المراقبين.
واستناداً إلى ما يروّج من تعديلات دستورية محتملة، ومراجعة بعض القوانين الخاصة بالانتخابات والجمعيات، يتوقع المراقبون أن يتم تقليص صلاحيات الرئيس، وتعزيز دور المعارضة من الناحية الدستورية، (الشكلية على الأقل)، ولكن من دون أن يمسّ ذلك بالصلاحيات السياسية الكبيرة التي يتمتع بها الجيش بحكم الأمر الواقع، ولا أيضاً بضمان «القدرة العملية على الفصل بين السلطات، وممارسة الحريات الأساسية»!.
التحديات المطروحة
وفي ضوء ذلك، يرى محللون أن الحراك الجزائري يواجه حالياً مرحلة انتقالية صعبة مليئة بالتحديات، في ظلّ «عدم وجود قيادة أو هيكلية منظمة له»، (وعدم قدرته على التطور والتحوّل إلى قوة سياسية منظمة)، إضافة إلى «غياب رؤية مستقبلية»، كما يطلق عليها البعض، وسط بروز خلافات إيديولوجية وجهوية من قبل الجهات الفاعلة فيه.
يُشار في هذا الصدد، إلى تنوع وتوزّع «الرؤية المستقبلية والنموذج الاجتماعي»، الذي يتطلع إليه المحتجون؛ ما بين المناطق التي لها «تاريخ طويل في المعارضة والنشاط السياسي المستقل»، (مثل منطقة القبائل)، والمناطق الأخرى التي كانت، من الناحية التاريخية، «أقل معارضة للنظام الحاكم».
يُضاف إلى ذلك، أنّ الطبقة السياسية الغارقة في خلافاتها وتشتّتها، «مشلولة وعاجزة عن قيادة الحراك»، وتحويله إلى «منصّة سياسية غير حزبية»، قائمة على التوافق من أجل إحداث التغيير الحقيقي. فالمحتجون يدركون ما لا يريدونه (استمرار الديكتاتورية)، وما يريدونه (دولة عادلة وحرة)، ولكن كيفية وآليات الوصول إلى ذلك هي مسألة مختلفة تماماً، كما يقول الكثيرون.
ومن الأسئلة المطروحة في هذا السياق؛ هل على الحراك أن يقبل «اليد الممدودة» من قبل الرئيس تبون، مع ما قد يمثله ذلك من مخاطر محتملة، أم لا؟ وهل ينبغي عليه تنظيم نفسه والاستعداد للمشاركة في الانتخابات المقبلة، التي قد تفضي إلى ظهور تصدّعات وانقسامات داخله.. الخ؟.
لكن، وعلى رغم كل الأسئلة والتحديات المطروحة، فإن الحراك نجح في تحقيق أشياء كثيرة، لعلّ أهمّها؛ تثبيت وتكريس «سلميته وتفادي أيّ قمع وحشي»، كان يمكن أن يتعرّض له، إضافة إلى دوره في حدوث تغيير مهم في قواعد اللعبة السياسية ومعادلاتها التي حكمت العهود السابقة، لجهة إغلاق الفضاء السياسي العام، والعمل الممنهج لمنع بروز أيّة معارضة فاعلة ومؤثرة!.
الصورة: الهوة عميقة بين الشارع والسلطة
.........................
فيصل علوش
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت